مصر ... من وسط الأحداث عرس الأعراس
بقلم/ ابراهيم الجهمي
نشر منذ: 13 سنة و شهرين و يوم واحد
الإثنين 14 فبراير-شباط 2011 04:35 م

كتب فيما سبق عدة حلقات عن ثورة25يناير ثورة شباب مصر نحو التغيير, فمن حسن حظي وتوفيق الله لي أني عشتها لحظة بلحظة .

وحينها تلقيت لوم وتحذير من بعض الأصدقاء حول ما كتبت, وعتاب على حضوري المظاهرات وكتابتي عنها, والحق أني بحمدالله كنت مطمئناً لنجاح الثورة المباركة.

وأحمد الله تعالى أن عشت لحظات الثورة منذ شرارتها الأولى, حتى نجاحها الذي إكتحلت أعين جميع المصريين برؤيتها.

والحق الذي لا جدال فيه بأن الشعب المصري الصبور قد صبر صبراً كبيراً, وضرب أروع المثل في التضحية والفداء, وليس بغريب على شعب وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خير أجناد الأرض)

وأجزم بأن نجاح الثورة لم تكن وليدة مشاعر جياشة, أو تلبية لخطب رنانة, أو ركوضاً خلف شعارات طنانة, بل لقد تم دفع فاتورة النجاح بالكامل, ولن أخوض كثيراً حول تفاصيل ذلك, فكلنا يعلم مقدار التضحية الذي قدمه الشعب المصري, ومدى الصمود الجبار الذي بذله المخلصون من أبنائه.

وجاء الموعد المنشود الذي إنتظره الشعب المصري العظيم, يوم الفوز الأكبر, على الظلم والطغيان, على الجبروت والإستكبار, يوم ليس له مثيل في تاريخ الشعب المصري الحديث والقديم , لقد صمم الشعب على التغيير وصمد ليعبر جسر الحرية بنجاح, وبذل الغالي والنفيس, وكان له ما أراد, لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا .

وأشهد الله تعالى أن الثورة التي توجت بالنجاح وكتب الله لها الصمود كان ثمنها باهضاً, بالغ الصبر, وما أجمل النجاح بعد عناء طويل, ولقد تابعنا جميعاً تفاصيله, لكن ليس من رأى كمن سمع, و ليس من شارك كمن رأى, و ليس من أنضرب كمن شارك .

صعب علي أن أروي لكم ياسادة عن الثورة ونجاحها, ومن أنا حتى أروى عنها وعن أبطالها, فلقد روته قبلي وأفضل مني جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية,ولكني أشارك بما رأيته في لحظات خاطفة وأنا عابر سبيل بينهم, ومهما رأيتم وسمعتم وقرأتم, فلن تبلغوا مدى الفرحة الغامرة, والسرور الشديد الذي ارتسم على محيا كل كبير وصغير, شاب, وعجوز, رجل, وامرأة... وآسفي على عجزي في وصف ما رأيته وما شاهدته .

وأعود بكم إلى البداية في مغيب يوم الجمعة المباركة 11 فبراير وبعد صلاة المغرب مباشرة, فوجئت بزخات طلقات الرصاص الكثيفة في الشوارع المؤدية لميدان التحرير وشاهدت الناس يسجدون لله شكراً في قارعة الطريق, والسيارات تزمر والكل يهتف في فرحة, مبارك رحل , مبارك ترك السلطة , مبارك تنحى , لم أصدق الخبر, وبادرت للإتصال بأصدقائي أتيقن من ذلك, سبحان الله , أقسم بالله أني في سجودي أثناء صلاة المغرب في المسجد الذي إعتكفت فيه ليلة القدر سألت الله بحق ليلة القدر التي كنت بذاك المسجد, أناديه وأدعوه وأبتهل إليه, أن يجنب الشعب المصري ويل الظلم وأن يخلصه الله منه, لقد تعب الشعب المصري وتعبنا معه, وشتان بين تعبنا وتعبه, لا أنكر أننا كمواطنين عرب مقيمين بمصر لم نجد أدنى أذى من النظام السابق , بل الحق كل الحق بأنا وجدنا كل خير وعناية ورعاية من قبل جميع الأجهزة, والأجنبي في مصر لا يهان, والعربي في مصر مرحب به رغم مساوئ بعض الأعرب, وذلك أيضاً يعكس ثقافة الشعب المصري الأصيل.

هرعت وأصدقائي لميدان التحرير ووصلناه بصعوبة بالغة وكنا نمشي مع موج البشر ننقاد معهم دون أن تكون لنا خيرة بينهم من شدة الزحام, ومع ذلك تشعر أن قلوبهم قد إتسعت كل زائر وكأن لسان حالهم : إن لم تسعكم الأرض فقلوبنا تسع الجميع .

وكانوا يهتفون على قلب رجل واحد رجالاً ونساءً : الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ** الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا .

ويرددون : الله وحده أسقط النظام ** الله وحده أسقط النظام, الله وحده أسقط النظام

ويقولون أيضاً : الشعب خلاص أسقط النظام ... ومما سمعتهم يقولون : رجالة مية مية * طردنا الحرامية

أهم أهم أهم * المصريين أهم ..../, مصر حرة * مصر حرة...../,إحنا إحنا * إحنا الشعب .../,حيوا حيوا حيوا* المصريين حيوا ../ ياشباب مصر يالله نعوض مصر..,/ إرفع رأسك فوق أنت مصري * إرفع رأسك فوق إنت مصري

ويهتفون ويصفقون : حرية *حرية * حرية.... مصر * مصر * مصر.../ أهلا أهلا بالحرية* كرامة وإنسانية

والنساء تزغرد والشباب يرقصون ويمرحون وينشدون ويغنون الأغاني الوطنية , ليلة عرس الأعراس, عيد الأعياد, يوم تاريخي سيسجله التاريخ في أنصع صفحاته وسيكون ذكرى, وقصة, وسيرة لكل من عاشه وعايشه .

الكل يهنئ بعض بين تقبيل وعناق حار, ويوزعون المشروبات, والحلويات, والتمر,على المارة, والزائرين, والمهنئين .

إزينت سماء التحرير بالألعاب النارية, رقص الناس وغنوا, خرج كل الناس الى جميع الميادين والشوارع, يطوفون أحياء مصر وأزقتها, و لم يبقى أحد في داره ولم نسمع إطلاقاً عن سرقة أو تعرض لنهب قد حدث هنا أو هناك خلال تلك الليلة.

وطاف الناس بصور الشهداء مرددين : إفرح إفرح ياشهيد* النهاردة عيد

ويقولون أيضاً : إفرحي ياأم الشهيد* الليلة دي عيد, والنساء والبنات يزغردن بشدة , ومما سمعته أيضاً ياشهيد نم وارتاح* أخذنا ثارك من السفاح

وبتنا ليلتنا في ميدان التحرير مع الجموع الغفيرة التي لم تبرح مكانها حتى أدينا صلاة الفجر في جماعة كبرى ما شهد الميدان مثيل لها الا يوم الصلاة على الشهداء, وكان دعاء القنوت بصلاة الفجر بالغ التأثير, أبكى الناس جميعاً بكاء الفرح والنصر بعد طول عناء وصبر, حمد الناس ربهم كثيراً, ومكث البعض يتلوا من كتاب الله والجو بارد وقارس, وصلى البعض صلاة الضحى وعمد إلى خيمته التي رابط فيها يلملم أغراضه البسيطة ويشد رحاله صوب بيته لا يلتفت لأحد ولا ينتظر جزاء أو شكورا, ولا يبحث عن قناة تلفزيونية تصور قصة بطولته, بل يسأل الله أن يكتب ذلك في ميزان حسناته وأن يكلل الثورة بالنجاح, ورأيت شبابا من المصابين ما زالت آثار اللإصابات البالغة واضحة على أجسادهم يعودون أدراجهم يسحبون أنفسهم لبيوتهم, إنهم حقاً الأبطال المخلصون الذين لا يبحثون عن شهرة وظهور, هم الغرباء الذين يظهرون حينما يختفي الناس .. ويختفون حينما يظهر الناس.

وفي عصر اليوم التالي عدت لميدان التحرير ورأيته مزدحماً أتاه الناس من كل فج بعيد, وقد تزين بالورود والأعلام والبالونات الكبيرة المنتشرة فوق سماه, وأصبح مزاراً كبيراً يحكي قصة بطولات وفداء, وصمود, وصبر, وكبرياء, وإصرار.

وأجمل مارأيته النظافة الشديدة التي تميز بها الميدان وسط ذهول وإعجاب من كل الزائرين, ولقد رأينا أجمل بنات مصر ينظفن الميدان والشوارع المحيطة, ويبدوا عليهن الثراء والنعمة, وفي نشاط دؤب وفرح وسرور يجمعن المخلفات بل لقد سمعت إحداهن تنادي صديقتها: هناك ورقة ملقاة على الأرض إلحقي خذيها, الكل يتسابق ليجمع المخلفات والأتربة والحجارة, والشباب يقومون بنزع المتاريس التي نصبوها أيام الإعتصام.

كذلك قام شباب الثورة بتلميع أرصفة الميدان ودهانه بالألوان المزينة, كأنهم عمال مهرة, ولكن هيئتهم تدل على أنهم من أسر راقية, ومن طبقة متعلمة .

وهناك فرق أخرى تقوم بنزع الملصقات المعبرة عن الثورة من جدران الشوارع وأبواب المحلات , ومسح كل الكتابات والشعارات التي خطت على الجدران والأبواب, حتى تلك التي كتبت على المدرعات والدبابات.

وفي وسط الميدان أقاموا معرضاً لصور عديدة, كبيرة, و متنوعة, تحكي تاريخ وقصة نضالهم, معبرة منذ الأيام الأولى لإنطلاق الثورة حتى نجاحها, ووسائل الإعلام والقنوات الفضائية تصور هنا وهناك وتسجل اللقائآت مع شباب الثورة, ولفت انتباهي إجادتهم للغات الأجنبية المختلفة حال حديثهم مع الصحفيين ووسائل الإعلام الأجنبية المتعددة.

وأقاموا مسرحأ كبيراً والجمهور الكثيف من حوله يستمعون لقصص من تعرضوا للظلم والطغيان, وسمعت إمرأة تحكي قصة زوجها الذي سجن وعذب سنوات طويلة, وحتى الآن ما زالت وابنائها ينتظرون عودته, وكانت قصتها مؤثرة أبكت الحاضرين.

وعلى جانب من الميدان وضعوا نصب تذكاري احاطوه بسياج ووضعوا داخله صور الشهداء والناس يقرأون الفاتحة, ويدعون لهم, وينثرون الورود على صورهم .

وهكذا أمضى المصريون يومهم في كل مدنهم وهم يفرحون, ويرقصون, ويغنون, ويطربون, ويهتفون, في عيدهم الكبير,عيد الأعياد.

ولقد شاهدنا تغير 180درجة في جميع وسائل الإعلام المرئية, والمسموعة, والمقروءة, خاصة الحكومية والقومية, والتي كانت بالأمس تقدح في شباب الثورة, وتهاجمهم, وتسبح بحمد النظام وتمجده, تحولت الى الإشادة بالثورة, وشبابها الأبطال, وتستضيف كبار الشخصيات السياسية والحزبية, والإعلامية, و جميعهم ينتقدون النظام السابق, وينعتونه بكل الألفاظ, ويدعون عليه بالويل والثبور, وعظائم الأمور, وبالمقابل يمتدحون الثورة وشبابها, ويصفونهم بالأبطال, والعظماء, بل أن بعضهم يدعي بأن ابنه, او ابن قريبه, او ابنة جاره من الثوار, وكلا يدعي وصلاً بليلى, وليلى منهم براء.

وكم كان ملفتاً تحول وتبدل الكثير من شلة المنتفعين, والمطبلين, والمزمرين, وحاملي المباخر, للنظام السابق, وقد ظهروا على القنوات يبررون مواقفهم المتشددة ضد الثورة وشبابها التي شاهدها الناس في الفضائيات وقراؤها في الصحف , وبعضهم يطلب العفو والمسامحة من الشباب ويقول غصباً عنيً, والبعض يقول انه مضغوط عليه, وأخر يدعي بأنه فرض عليه, وغيره يبرر انه لم يكن قصده ذلك وانما قصده خلاف ما فهمه الناس عنه, وكل يأتي بحجة ويريد أن يركب الموجة الجديدة, وكم تعجبت لهم وهم ينتقدون النظام السابق وأعوانه ويتسابقون لنشر الفضائح والفساد للنظام السابق, وكل ذلك على القنوات الرسمية وفي الصحف القومية.

وتذكرت قول الشاعر أبو البقاء الرندي الأندلسي وهو يرثي الأندلس منذ800 عام في قصيدته التي يقول في مطلعها:

لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصانُ ***  فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ ***  مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمانُ

وَهَـذِهِ الـدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ *** وَلا  يَـدُومُ عَـلى حـالٍ لَها شانُ

وقبل كل ذلك قوله تعالى ( وتلك الأيام نداولها بين الناس).

ويبقى أن أذكر بأنه من المفارقات العجيبة أن يسقط النظام في تونس يوم جمعة وكذلك في مصر يوم جمعة, والله أعلم هل ستتكرر الجمع العظيمة المباركة في أقطار عربية أخرى؟!

والله المستعان,,