مقولة " منطقة " سنحانية ذات أثار عظيمة

الثلاثاء 14 نوفمبر-تشرين الثاني 2006 الساعة 02 مساءً / مأرب برس - سبأ نت
عدد القراءات 6243

على ظهر هذه ألتله التي تتوسط بلدة "مقولة" الأثرية، أحدى قرى منطقة سنحان الواقعة إلى الجنوب الشرقي من العاصمة اليمنية صنعاء، وعلى بعد حوالي 15 كيلوا مترا منها تقريبا، نمتطي عجلة الزمن، ونعود إلى عصور وأزمنة سحيقة تمتد إلى نهاية الإلف الرابع قبل الميلاد، حيث ازدهرت حواضر وممالك امتدت ظلالها الوارفة من بلاد الأندلس غربا إلى تخوم اندونيسيا في الشرق".

*مقولة في حضرة التاريخ.

يؤكد الخبراء والمهتمين الأثريين على أهمية الموقع في توضيح البعد التاريخي للمدينة ودراستها ،بما يمكن من ربط حلقات التاريخ المفقودة ببعضها ،وتقديم رؤية معرفية متكاملة للقارئ عن تاريخ اليمن الممتد إلى بدايات الإلف الثالث قبل الميلاد، في حين لايوجد ما يشير إلى الاهتمام الذي يستحقه من قبل الجهات المعنية والبعثات الأثرية، وهذا ما حملنا للاستعداد للرحيل إلى مقولة، حيث لم تكن المهمة بالهينة البتة.

قبل أسابيع من السفر إلى مقولة وبعد رحلة العودة،أمضيت أسابيع متواصلة في أعمال التنقيب بين الوثائق من أجل الخروج برؤية متكاملة وشاملة عن تاريخ مقولة ،لكن كان من الصعب اختزال كل ذلك في ظل غياب وقله المراجع التي تتحدث عن مقوله وتاريخها، وعدم الأخذ بعامل ربط ما تسفر عنه نتائج عمليات الحفريات والتنقيبات الأثرية في المواقع بعملية التوثيق والتأريخة وإعادة صياغة التاريخ وفق ما تمليه الرؤى والحقائق والشواهد التاريخية.

في هذا المكان،الذي زارته وكالة الإنباء اليمنية (سبأ) ، يستلقى جزء مهم من تاريخ حضارة بلاد "اليمن السعيد"،حيث أكدت نتائج الحفريات الأثرية التي نفذها قسم الآثار بجامعة صنعاء في هذا المكان في ( عشرين يوليو سنة 1996م واستمرت حتى العشرين من شهر أغسطس عام 1997م )، علاوة على جميع ما تم العثور عليه من شواهد ولقى ومكتشفات أثرية هامة في معظمها، أن التاريخ الاستيطاني القديم للموقع يمتد بشكل متواصل اعتبارا من نهاية الإلف الرابع قبل الميلاد وحتى بداية النصف الثاني من الإلف الأول الميلادي.

وتشير هذه النتائج إلى احتمال أن الموقع هجر بعد ذلك، ثم استوطن مرة أخرى خلال الفترات الإسلامية المتأخرة،ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم وعملية السكن في هذا الموقع الذي وصف اكتشافه حينها بـ"الهام" لم تتوقف، وكان المستوطنون الجدد يبنون بيوتهم من أنقاض أحجار المدينة القديمة" .

كما تؤكد المعلومات أن مسجد المدينة الواقع في أعلى ألتله، قد شيد في الأصل على أنقاض مبنى تاريخي قديم وهو مهجور ،ولا يؤمه المصلون في السنوات الأخيرة وخاصة منذ ان بدا الناس يهجرون القرية القديمة عام 1983م ويشيدون لهم مبان في إطراف المدينة وغيرها.

وتفيد المعلومات نفسها أن أهالي القرية أقاموا "جرنهم"(مكان تحصيل الثمار)حيث يدرسون غلتهم في وسط المدينة القديمة، وهو موقع اثري كانت التنقيبات الأثرية لقسم الآثار بجامعة صنعاء حينها قد أكدت على أهميته في دراسة تاريخ مقولة التي يذهب المختصون والخبراء الأثريين في تاريخ اليمن القديم للاعتقاد بأنها مدينة الأقيال إن لم تكن موطن الملوك السبئيين.. مشيرين في ذات الصدد إلى ما ذكره أبو الحسن الهمداني من علماء صنعاء في القرن العاشر الميلادي والرابع الهجري في كتابة "صفة جزيرة العرب":"أن من جبال اليمن المشهورة شرفات جرة وكنن تنعمة وعيبان ونقم جبلا صنعاء".

وبما أن جبل كنن هو الحصن المنيع لاقيال بني جرة والمقر الرئيسي لمعبوداتهم قبل الإسلام ،فأن بلاد سنحان -كما يقول الدكتور يوسف محمد عبد الله عالم وخبير الآثار اليمني المعروف وأستاذ التاريخ القديم لجنوب شبة الجزيرة العربية- من مخلاف ذي جرة اليوم وتزخر بمواقع أثرية وتاريخية عدة مثل مدينة "نعض"(بكسر النون والعين وتسكين الضاد وهي غير ناعط).

ونعض مدينة تاريخية مهمة -حسب المختصين- تقع في السفح الغربي لجبل كنن، بالإضافة إلى السرين وتقع إلى الشمال الشرقي من نعض وكذا سيان وذي جرة وهي قرية وما زالت تحمل الاسم نفسه للمخلاف والقبيلة وذي سحر وريمة حميد وغيرها.

ومن مقولة ومخلاف ذي جرة وذي سمهر(ذي سمار) تبوأ عرش الملك السبئي في مأرب عدة ملوك في القرون الأولى بعد الميلاد، حيث يشير الباحث على محمد الناشري أحد منفذي أعمال المسح في مقولة عام 1996م في كتابه "ذي جرة ودورهم في حكم سبأ وذو ريدان" (وهو في الأصل رسالة ماجستير)، إلى مجموعة عوامل عملية يرجع إليها سبب اختيار مقولة رغم وجود عدد من المواقع الأثرية التي تندرج ضمن مخلاف ذي جرة وتستحق العناية والتنقيب الأثري فيها لأثرها في إلقاء الضوء على بعض إنجازات التاريخ والحضارة اليمنية القديمة بشكل عام وذي جرة بشكل خاص، أهمها حسب الكاتب جملة الشواهد والمكتشفات الأثرية التي عثر عليها أثناء عمليات التنقيب والمسح والتي أشارت إلى أن مقولة كانت تمثل مدينة الأقيال أن لم تكن مدينة الملوك السبئيين الذي تعاقبوا على الحكم في مأرب.

تعود شهرة هذا المكان حسب المراجع التاريخية، وهو الذي يعتقد غالبية السكان المحليين أنه موقع لمستوطنة أثرية حافلة بالكثير من الكنوز الأثرية، وذلك بما يحيط بها من شواهد أبرزها البئر والمقبرة وبقايا أنقاض حصن تاريخي قديم.. تعود إلى أسم المنطقة نفسها (مقولة) المشتق من (قيل / قيالة)، وهو مصطلح قديم كان يطلق في عصور ما قبل الإسلام على حكام إقليم أو مقاطعة بعينها، وهم أمراء محليون يتفاوتون من ناحية الأهمية أو القوة الاقتصادية والسياسية بمقدار ما يقع تحت أيديهم من أراض وعدد من يتبعهم من رجال وحمله سلاح.

الحصن الحصين

في محيط هذا المكان الذي كان محطتنا الأولى،كشف الفريق الأثري التابع لقسم الآثار بجامعة صنعاء على بقايا أساسات يعتقد المختصين بأنها لمبنى ضخم مرجحين من احتمالي أن يكون أما أحد معابد الآلهة القديمة أو أنه أحد قصور الحكام الذين كانوا يحكمون في هذه المنطقة، لكن ما يرجح من صحة الاحتمال الأخير هو تأكيد السكان المحليين -من كبار السن- بأن هذا المبنى عرف على مدى سنوات طويلة بحصن (القشيب) ،وهو بالمناسبة مبنى مهجور يعتلى رأس ألتله من خلال بناءه لايوجد ما يشير إلى قدمه سوى الأساسات والسرداب المؤدي من القصر إلى بئر القشيب بمسافة أكثر من 300 متر تقريبا والتي يعتقد بأنها كانت من أهم تحصينات القصر الحربية.

إلى جانب مبنى الحصن في أعلى ألتله، يبرز في الأسفل محيط الموقع الذي نفذت فيه أعمال المسح في هيئة حفرة كبيرة مربعة الشكل تبلغ مساحتها حوالي (6 أمتار عرض في 6 أمتار طول) وفيها تظهر بقايا أساسات لغرف مستطيلة ومربعة الشكل، وليست مقبرة على حد قول السكان المحليين.

من خلال الاقتراب من المبنى وأساساته، تستدل إلى حقيقة وحيدة من الحقائق المؤكدة في كتب التاريخ وهي أن أولئك الحكام كانوا يمتازون بالدهاء الفطري، وأن اليمن في فترات حكمهم عاشت آنذاك في رخاء وازدهار الأمر الذي أدى إلى عمران تلك المباني الضخمة، وتشييد المعابد والقصور الرائعة والاجتهاد في تحويل الصحراء إلى حواضر غناء ما جعل من اليمن تسهم بقدر كبير في حركة الاتجار والتسويق وتحتل أهمية قصوى بالنسبة للاقتصاد العالمي القديم الذي ساهمت في ازدهاره دول وحضارات منيفة مثل روما ومصر واليونان وبلاد الرافدين واليمن السعيد.

وقد عُرف اليمن آنذاك مركزا ومَصدرا تموينيا لتجارة مادتي البخور والمُرّ في العالم. وكان حلقة وصل بين البحر الأبيض المتوسط وشرق آسيا على طرق القوافل التجارية، وغدا فيما بعدُ ميناء رئيسا لحركة التجارة البحرية إلى الشرق الأوسط وأوروبا.

كما تبين الدراسات للاكتشافات الأثرية المستجدة في اليمن، الدرجة المتقدمة للحالة الحضرية التي كانت تعيشها تلك الممالك في ذلك الزمن البعيد.. فقد تم العثور هناك على نماذج أولية لمحركات هيدروليكية تعمل على طاقة المياه استخدمت في استصلاح الأراضي القابلة للزراعة ونزع مياه الشرب، ،ناهيك عن غيرها من الشواهد المعمارية الفريد في ذلك العصر، أهمها الأعمدة والأحجار العملاقة المختلفة والمنقوشة بالخط المسند وأحجار تحمل إشكال هندسية وزخرفيه رائعة، بالإضافة إلى تماثيل وألواح تضم أشكال هندسية ورسومات حيوانية ونباتية نادرة، وأواني فخارية ونحاسية وبرونزية وذهبية هامة ".

من بين هذه المعثورات وجد كم هائل من الأعواد الخشبية المصنوعة من عسيب النخيل والتي يظهر عليها كتابات بخط ألزبور اليمني القديم، وهي تشير إلى أنه اجتمع في اليمن القديم نسبة عالية جدا من المتعلمين الذين يحسنون القراءة والكتابة باللغات اليمنية القديمة التي يعد الزبور من أهمها إلى جانب اللغة السبئية، وهي بالمناسبة لغة تنتمي إلى اللغات السامية وتتكون حروفها من 29 حرفا. وهناك أكثر من 20 آلف من المخطوطات والنقوش التي تم اكتشافها تِباعا في القرن العشرين، والعديد منها عُرض في معارض دولية مختلفة .

وتوضح المعثورات أيضا بأن سكان اليمن بخلاف جيرانهم في الشمال من شبة الجزيرة العربية، لم يكونوا أقواما رُحّلا متجولين، لكنهم ابتكروا دواعي الاستقرار والمدنية التي يشكل الماء العنصر الفصل منها، فبنوا السدود وامتهنوا الزراعة وشيّدوا المدن العامرة.. وكذلك فقد أصبحوا أغنياء بسبب تجارة البخور والمر التي اشتهروا بها آنذاك.. وكان المُر- وهو مادة لبان صمغي يستخدم في صناعة العطور والبخور- رائجا ومستهلكا على نطاق عالمي لاستخداماته في شئون المعابد والقصور، ولشؤون الزينة الشخصية، فضلا عن بعض الاستخدامات الطبية والعلاجية. وكان يُستَخْرج من أشجار صغيرة في المنطقة ومن الشمال الجنوبي من أفريقيا المجاورة، وهو ما يُدعى اليوم بالصومال.

بين هذا الكم الهائل من المعثورات والشواهد الأثرية التي تزين "متحف مقولة" كما يحلوا لعبد القادر غشام تسميته( وهو عبارة عن غرفتين تضم مجموعة من ألقى الأثرية المختلفة) يقول بان الجهات المعنية قد استأجرته منه كمتحف لمعثورات مقولة الأثرية، تعكس مدى تطور الفنون المعمارية ، حيث نحتت أحجار الحصن بعناية ومهارة فائقة وكشفت الحفريات عن أواني فخارية كبيرة كانت تستخدم على الأغلب لخزن الحبوب ـ المؤن الحياتية ـ وغيرها .

ووجود مثل تلك الأواني الضخمة المعثورات الأثرية النادرة التي يحتفظ بها غشام وتشغل غرفتين من حيز منزله يدل ـ أيضاً حسب المهتمين ـ على مدى الرخاء الاقتصادي الذي كانت تعيش فيه هذه المنطقة والتي لن يأتي إلا بوجود الحكام الأقوياء الذين استطاعوا أن يوفروا لمنطقتهم الأمن والاستقرار المعيشي ، في الوقت الذي كانت تدور فيه رحى الحروب في كافة الأراضي المجاورة لها مثل حروب السبئيين مع الحميريين ، والسبئيين مع القتبانيين..الخ.

يظهر من بين المكتشفات الأثرية التي من بينها مكتشفات ثمينة أهمها رأس ثور الذي يقول غشام أنه من الذهب، ولوح من المرمر يظهر فيه نقش باللوح البارز لحيوان الأسد جزء منه مكسور، بالإضافة إلى قدر وعمود حجري يظهر عليه شكل "لعرش الملكة بلقيس"(ملكة مملكة سبأ التي ورد ذكرها في الكتب السماوية)، مذابح حجرية للقرابين والنذر مختلفة ومتنوعة الإحجام،ورغم قله ما يتوفر من معلومات حول الطقوس الدينية التي كانت تمارس في جنوب بلاد العرب، إلا أنه من خلال النقوش والمعثورات وخاصة الإشكال المختلفة لمذابح القرابين يتبين ان الطقوس الدينية كانت مصحوبة بتقديم القرابين والنذر سواء كانت قرابين للشراب او قرابين الدم والنار.

فيما تدل بقايا العظام المكتشفة في مناطق مختلفة أن القرابين المفضلة من الحيوانات هي الضان والماعز والوعول والحملان وكذا البقر وكان لحم ذبائح القرابين يقدم في الولائم الدينية.

عند عتبه باب المنزل،كان عبد القادر غشام منشغلا بإزالة مادة زيتية من على بعض الأعواد الخشبية المنقوشة بخط الزبور اليمني القديم، غمسها فيها بحجة منع إتيان السوس عليها كما أتى على العشرات منها في الداخل نتيجة ربما سوء الحفظ والتخزين.. سألناه :عن نوعية المادة ومدى خبرته في جدواها بمنع السوس من الإتيان عليها؟ ولماذا لم يستعن بخبراء مختصين في هذا الجانب لحساسية وأهمية هذه القطع الأثرية وطريقة التعامل معها؟

قال :" هذه العملية مجربة.. جربت دهن هذه الأعواد بالزيت من قبل وأثبتت جدواها في إيقاف تأكل الأعواد .. مشيرا إلى أنه سبق وأن طرح الموضوع على المختصين وطلبوا مبلغا باهضا ما حدا به للاكتفاء بخبرته -على تواضعها- في معالجة الامر.

في متحف مقولة الأثري الذي يقوم على حمايته عبد القادر غشام ،وهو أحد أبناء المنطقة اللذين يعود لهم فضل اكتشاف الموقع وإبلاغ الجهات المعنية عنه وكذا جمع الكثير من المكتشفات الأثرية والمحافظة عليها ، ستكون على موعد مع كم هائل من المقتنيات والمكتشفات الأثرية المختلفة التي في حضرتها يبدو للزائر أن جزء كبير من أسرار هذا المكان وتاريخه سيتكشف له .

من يزور سنحان، ويصل مناطقها المتعددة، بداية بمنطقة شميلة والجردا مرورا بسيان ومقولة وبيت الأحمر... الخ، لا غرابه أن يتسلل إلى أعماقه شعورا ما برهبة وشموخ كل هذه الأماكن، وهي التي تمثل حتى اليوم، الموئل الأول لاقيال سبأ وذو ريدان المتعاقبة على حكم اليمن.

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة سياحة وأثار