الوعي بخطورة العسكرتاريا
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 4 سنوات و 11 شهراً و 11 يوماً
الثلاثاء 16 إبريل-نيسان 2019 11:38 ص
 

«اضطر روزفلت إلى أن يرفع يديه للسفير في مايو/ أيار 1952 مستسلمًا، ويرضخ إلى أن الجيش هو وحده القادر على مواجهة الموقف المتدهور في مصر، وأن مثل هذا الحكم قادر على إقامة علاقات مع الغرب».

وهكذا مضى الكاتب والضابط الأسبق في المخابرات المركزية الأمريكية مايلز كوبلند من خلال كتابه الشهير «لعبة الأمم» في بسط الكلام حول علاقة الأمريكان بانقلاب 23 يوليو/تموز في مصر، الذي اكتسب وصف الثورة على فساد واستبداد الملك لدى كثير من المصريين، الذين خرجوا مرحبين بما اعتبروه ثورة بيضاء، مطمئنين إلى حكم العسكر الذي سيخلصهم من كل الشرور، لكنه كان إيذانًا بفتح أبواب الشرور كلها وجرِّ الويلات على الشعب المصري.

وللقارئ أن يعلم، أن روزفلت كان يتجه إلى ثورة على النظام البرلماني لا الملك، مخالفا في ذلك رأي سفير بلاده في القاهرة جيفرسن كافري، الذي رأى الإطاحة بالنظام، حيث أن الملك فاروق كان رافضًا للهيمنة الأمريكية، فنزل روزفلت على رأيه، وتمت الاستعانة بجمال عبد الناصر، الذي قال عنه كوبلند «ناصر حليفنا المستقل، قررنا أن يكون اللاعب الجديد الذي سنأتي به». وكشأن جميع الشعوب العربية التي حكمها العسكر، لم يدرك معظم المصريين فداحة ذلك طيلة ستين عامًا، إذ تراجعت الحياة النيابية والحزبية، وضعُف الاقتصاد، وغرقت البلاد في معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل باسم صنم القومية، وتبين للناس زيف الشعارات التي كان يطلقها عبد الناصر، خاصة قوله سوف يلقي بالصهاينة في البحر، ثم في النهاية يعيد التاريخ نفسه، ويتكرر الانقلاب العسكري ذاته، وبدعم خارجي، وتنسيق مع القوى المتنفعة، وفوق ذلك كله بخداع طبقات الشعب المختلفة، وإثارة فزاعة حكم المرشد، فوضع الناس آمالهم في البزّة العسكرية، ثم اكتشفت الجماهير العريضة المؤيدة منها والمعارضة، حجم الكارثة التي ألمت بالدولة المصرية.

يقولون في الحكمة «لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين»، لكن الواقع يقول إن الشعوب العربية تُلدغ مراتٍ ومن الجحر ذاته، وفي كلٍّ منها يكون التسليم للعسكر، باعتباره رمز التضحيات والدفاع عن بيضة البلاد. ثنائية العسكر والسلطة كانت حالة مألوفة في حس المجتمعات العربية، إلى أن ظهرت الثورات المضادة للربيع العربي التي قفزت على إرادة الشعوب، فهل حدث تغيير في وعي الجماهير العربية تجاه حكم العسكر؟

الإجابة تكمن في ما اعتبره الكثيرون موجة ثانية لثورات الربيع العربي، والتي بدأت في الجزائر وأطاحت بابوتفليقة، ثم السودان التي أسفرت عن إقصاء البشير عن سُدة الحكم، وفي الحالتين تولى الجيش مهمة إدارة البلاد في تلك المرحلة الانتقالية. اللافت للنظر، أن كثيرًا من النخب الثقافية والفكرية والسياسية وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، صاروا يحذرون بقوة من حكم العسكر والاكتفاء بالإطاحة برؤوس الأنظمة، معتبرين أن المؤسسات العسكرية ما هي إلا الجزء الأكبر والأقوى في الأنظمة الديكتاتورية، وأن كل ما فعلته أنها أطاحت بالأوراق المحروقة (الرؤساء) بإرادة شعبية، تماما كما حدث في ثورة يناير/كانون الثاني في مصر، وصارت نبرة واضحة في خطاب الكتاب والمثقفين وقادة الرأي. وفي ظني أنها مرحلة جديدة من الوعي الجماهيري بفداحة التزاوج بين العسكر والسلطة، فالجيوش بالأساس تبتعد وفق تكوينها وطبيعتها عن الأهلية لقيادة الدولة، وفي تركها الثغور وانخراطها في الحياة السياسية والاقتصادية في المجتمعات كارثة بكل المقاييس. وها هو الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» يقر حقيقة بأن العسكر يسهم في إرساء دعائم الحكم الاستبدادي وأحد أدواته، حيث يقول: «ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة، بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها، إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكَّن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة».

فحكم العسكر له خصائص كل واحدة منها أسوأ من الأخرى، فهو أولا حكم فردي استبدادي بعيد عن الحياة النيابية، حتى لو أجريت، فهي عبارة عن (ديكور)، فالعسكر لا يؤمنون بمثل هذه الحريات، ولذلك أورد ضابط المخابرات الأمريكي في الكتاب حديثا بين عبد الناصر والسفير الأمريكي، قال فيه الأول بنص الكتاب: «إن إعطاء المصريين حريتهم بسرعة هو أشبه بمن يترك أطفالا يلعبون في الشارع، ويتعرضون لأخطاره» هذه وجهة نظر عبد الناصر تجاه حرية الشعب المصري.

حكم الفرد صار شعارًا لرئيس النظام المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في كل سياساته، بعد أن أحكم قبضته على مؤسسات الدولة الصلبة، ووضع اقتصاديات الدولة في يد الجيش، وصار مصير من يعترض إما القتل أو السجن أو التشريد. حكم العسكر يعتمد على عسكرة المجتمع وإخضاعه لهيمنة المؤسسة العسكرية (العسكرتاريا)، ويترتب عليه وضع القوانين بما يخدم مصالحها، وصرف الجزء الأكبر من ميزانية الدولة على الجيش وتسليحه ونفقاته الباهظة، التي غالبا لا تتم مناقشتها في البرلمانات.

حكم العسكر يعتمد في إرساء دعائمه على الحكومة البوليسية التي تتعامل مع المدنيين بأساليب القمع والاعتقالات واستغلال السلطة في تحقيق المصالح الخاصة لأفرادها، حيث تعتبر الحكومة البوليسية هي العصا المباشرة التي يضرب بها العسكر طبقات الشعب وشرائحه. ودائما تجد في حكم العسكر اعتمادًا على رأسمالية اللصوص أو الأقلية الفاسدة، التي تتسلط على ثروات الشعب، وتطويع علماء الشريعة لإضفاء غطاء شرعي للنظام وتبرير جرائمه.

ربما نعيش فترة غير مسبوقة من الوعي بكارثية الحكم العسكري وتسلُّط الجيوش على القرار السياسي، وهذا في حد ذاته خطوة لابد منها، سابقة على التطلعات لإقامة نظم مدنية (عكس الدولة العسكرية) التي هي السبيل إلى نهضة شاملة، ولعل التجربة التركية خير شاهد على هذه الحقيقة، حينما استطاعت حكومة العدالة والتنمية والرئيس أردوغان تحييد المؤسسة العسكرية، وإعادة الجيش إلى ثكناته، بعدها حققت تركيا طفرة في شتى المجالات، وهو ما نأمل تكراره في الشعوب العربية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية