قيادات المعارضة التقليدية كقوى معيقة للثورة
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 29 يوماً
الخميس 28 إبريل-نيسان 2011 03:09 م

يقول فرانك كيلش في كتابه الهام \"ثورة الأنفوميديا\" إن التفكير اليوم في الكمبيوتر بلغة الحوسبة البدائية يشبه إلى حد ما التفكير في السيارات بلغة البخار أو التفكير في السفن بلغة الشراع..

حقيقةً، لا أعلمُ السبب الذي دفع إلى مخيلتي هذا التشبيه عند محاولتي لفهم الطريقة التي يتعامل بها العقل السياسي النّخبوي ـ أقصد ما يُدعى بالنخبوي ـ لما قبل الثورة الشبابية (سلطة ومعارضة) مع واقع ما بعد الثورة.

كنّا نعتقد أن الغباء وبطئ الفهم الشديدين الذين لا حدود لهما كالكون ـ كما يقرر آينشتاين ـ هما ميزتان يختص بهما الحاكم العربي ونظامه دون غيره خصوصاً وقد برزتا بشدة من خلال التعاطي المتشابه سذاجة مع مجريات الثورة في مختلف الأقطار العربية. فذات الأساليب التي استخدمها حاكم للتعامل مع الثورة الشبابية في قطر ما، وأدت في نهاية المطاف إلى رحيله، استخدمها حاكم في قطر آخر ـ وبتطابق لا متناهي، وأدت في النهاية إلى رحيله هو الآخر!. وهكذا..

لكن يبدو أن هذا الغباء وبطئ الفهم لم يقتصرا ـ للأسف ـ فقط على الأنظمة الحاكمة، بل حظيت قيادات أحزاب المعارضة التقليدية بنصيب وافر من هذا الغباء من خلال تعاطيها الساذج أيضاً مع مجريات الثورة (أرجو ملاحظة أن هناك فصل تام في المقال بين قيادات هذه الأحزاب وقواعدها، فالقواعد هم في مقدمة الصفوف في كل الساحات فكراً وسلوكاً)!

فلسنوات طويلة خلت، كانت المائدة مع الأنظمة الحاكمة واحدة، والوجبات ذاتها، بل أن البعض كان يعتقد أن بركة الطعام لن تناله إلا بتناوله من أيدي النظام \"الشريفة\". فكيف سينتج كل ذلك وعياً مفارقاً في وقتٍ لاحقٍ؟!!

في تونس مثلاً، لم تثر قيادات الأحزاب والقوى المعارضة التقليدية الثورة بقيمها ومطالبها وفوق ذلك إصرار أصحابها الشديد على تحقيق كل مطالبها ، وتدفعهم في اتجاه تبنيهم للثورة بسقفها الأعلى مثلما أثارتهم دعوة نظام \"بن علي\" إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، حتى بدا شدة اندفاعهم للحصول على بضع كراسي وزارية في حكومة فاسدة ومنحلة وكأنها قيمة هذه الأحزاب في الوجود. وعلى العكس تماماً مما يمليه عليها دورها الذي يفترض المساندة الكاملة، ظهرت هذه القيادات كقوى معيقة تحول دون تحقق مطالب الثورة بإبداء استعدادها لتقبل فكرة التعايش مع نظام بن علي، ومحاولة مدّه بأعمارٍ أخرى عن طريق الاستعداد لتشكيل حكومات وحدة وطنية!

و ليس من المبالغة القول أن هذه القيادات ـ والحال كذلك ينطبق على مثيلاتها في مختلف الأقطار العربية ـ ظهرت كقوى معيقة في وجه عملية التحديث طوال فترة تواجدها على الساحة السياسية وليس في فترة الثورة فحسب. فوجودها كان يضفي على النظام الصفة التقدمية، ويمنحه بعداً أخلاقياً بغض النظر عن ماهية هذا الوجود. كما أن ممارساتها الشمولية داخل أحزابها حفزته على التمادي في الشمولية والاستبداد والذهاب بعيداً في مسألة التوريث.(ربما كانت هذه الحالة هي الحالة الوحيدة الشاذة لقاعدة \"الضد يُظهِر حسنه الضدُ\"!)

وعندما انتقلت الثورة إلى أرض الكنانة، يبدو أنها انتقلت بكل إشكالاتها خصوصاً فيما يخص مواقف قيادات أحزاب وقوى المعارضة التقليدية. فقد اعتبرت هذه القيادات دعوة النظام لها للتحاور حول تشكيل حكومة وحدة وطنية فرصة لا تفوت، وهرعت إلى تشكيل لجنة \"الحكماء\" التي ستقوم بمهمة التفاوض مع النظام، في حين كانت الثورة بمبادئها ومطالبها في مكان قصي جداً عن هؤلاء الحكماء!! (يلاحظ المرء هنا، أن الخارج كان قد هلل وكبر لهذا الحوار كونه سيجنب البلاد الانزلاق إلى الفوضى والعنف!.. وهو ذات الخارج الذي خولته قيادات المعارضة اليمنية القيام بحل مشكلة اليمن بحجة تجنب الانزلاق إلى فوضى والعنف!)

ولولا الطريقة الدونية التي يتعامل بها النظام المصري السابق مع هذه القيادات، وعدم تقديمه لهم أية تنازلات حقيقية، لولا ذلك، لكانت هذه القيادات اليوم في مزبلة تاريخية واحدة مع النظام.

في اليمن، لم تختلف مواقف وسلوكيات قيادات المعارضة كثيراً عن مثيلاتها في تونس ومصر، بل تبدو أشد وطأة.

ففي البداية، تأخرت كثيراً في إعلان انضمامها إلى الثورة، ثم بمجرد إعلانها الانضمام، هرعت إلى تقديم المبادرات والدخول مع النظام الحاكم في مفاوضات لا نهاية لها. وقد كان منطقها في هذه المبادرات والمفاوضات، وأسلوبها في التعبير عن مطالبها نفسا المنطق والأسلوب الذين استخدمتهما لسنوات طويلة ولم يفضيا إلا إلى مزيداً من التأزم واستفراد النظام بالبلاد، ودون الارتقاء إلى مستوى المنطق والأساليب التي أوجدتهم الثورة.

فقبل عدة أيام مثلاً، كان الدكتور ياسين سعيد نعمان يتحدث إلى قناة الجزيرة حول موقف المعارضة من الصيغة النهائية للمبادرة، وقد ربط موافقتهم على المبادرة ببعض التحفظات كالبند الذي يدعو إلى إزالة عناصر التوتر سياسياً وأمنياً قبل تنحي الرئيس بشهرٍ كامل، بدعوى أنهم لا يستطيعون إنهاء الاعتصامات والتظاهرات كونها حقوق كفلها الدستور. بعده مباشرةً، كان المتحدث عبده الجندي، وقد قال وبكل ثقة، \"يبدو أن الأخوة في المعارضة يريدون أن يكون الدستور لهم لوحدهم وعلى مقاسهم، ونحن عندما نقول الحق الدستوري للرئيس في البقاء لعام 2013 يقولون \"أيّن دستور\"\".. حقيقةً هذا ردٌ مفحمٌ، وما يحير كيف لبلطجي مثل عبده الجندي أن يُظهِر مدى هشاشة طرح قامة مثل الدكتور ياسين سعيد نعمان في مرحلة تبدو فارقة كهذه!!

لقد جاءت الثورات الشعبية في الأصل ـ كما يقول مؤرخوها ـ كفعل يقود إلى تغييرات عميقة في الواقع السياسي والاجتماعي لأمة أو مجموعة من البشر، وبشكل شامل وعميق، ينتج عنه تغيير في بنية التفكير الاجتماعي، وتحول في الثقافة العامة والاتجاهات القيمية وأنماط التفكير عن طريق نسف كل البنى التقليدية، وتصبح الثورة شرعية فوق كل الشرعيات السائدة.

لكن يبدو أن قيادات المعارضة لم تصل بعد إلى هذا الفهم أو تحاول الاقتراب منه، وبات وعيها السياسي في حالة اغتراب كلي عن واقع ما بعد الثورة. فحين يدعو الدكتور ياسين إلى الاحتكام في ضبط مسار الثورة لشرعية أقل من شرعية الثورة ـ خصوصاً وقد كان المطلب الأساسي للثورة هو إسقاط هذه الشرعية الزائفة ـ بقوله أن الاعتصام حق دستوري، يتولد انطباع لدى الآخرين بأن الأمر مجرد صراع على سلطة في إطار شرعية واحدة أو كما تسميه السلطة انقلاباً على الشرعية كونه ـ بهذا المنطق ـ سيؤدي إلى تغيير تجميلي في نظام الحكم السائد، وليس صراعاً بين شرعيات متمايزة ينتج عنه تغيير جذري وشامل في القيم والأفكار والبنى كما يعبر عنه منطق الثورة.

هذه اللغة المتهافتة، والفهم القاصر، والسلوكيات الناتجة عنهما والتي تفضي بقيادة المعارضة كلما تقدم الوقت إلى الابتعاد عن منطق الثورة وسلوكياتها والاقتراب أكثر من منطق النظام؛ تخدم النظام في البقاء وقتاً أطول أكثر مما تخدمه أدواته ووسائله الخاصة. والمتابع لخطابات النظام الأخيرة يكتشف تغيراً جوهرياً في لغة هذه الخطابات عن اللغة التي استخدمها في بداية الثورة. فالآن لم يعد يتحدث ـ وربما ليس بحاجة إلى ذلك ـ عن منجزاته \"العظيمة!\" التي حققها طيلة فترة توليه للحكم والتي يعتبرها كفيلة بمنحه شرعية البقاء في الحكم، بل أصبح جل حديثه ينصب ـ وبشغفٍ عجيبٍ ـ على منطق وسلوكيات المعارضة المهزوزة، ويستشهد من التواريخ السلبية لبعض القيادات التي يزخر بها أرشيفه، وكأنه يقول للداخل والخارج أنظروا إلى هذه السلوكيات؛ أليست سلوكيات تتنافى تماماً مع القيم والسلوكيات التي تنادي بها الثورة الشبابية؟!.. ثم كيف يمكن لسلوكيات كهذه أن تقود اليمن إلى مستقبل آمنٍ ومستقر بعد إمساكها بزمام الأمور؟!..

أعتقد أنه ينبغي على قيادات المعارضة أن تعيد مراجعة كثير من حساباتها، وتدرك عمق الصراع الدائر اليوم في الساحة باعتباره صراع يحاول في المقام الأول تكريس مجموعة من القيم والمبادئ؛ وهذا ما يدعو إلى عدم التفريط بأي مكسب لصالح الطرف الآخر الذي يمثل النقيض بكل تجلياته، وعدم الانجرار معه عن طريق المبادرات والمفاوضات العقيمة إلى هاوية لا يمكن النجاة منها. فنجاح الثورة بحدها الأعلى وبهذه القيم والمبادئ سيقود إلى تكريس حالة متقدمة من الوعي لدى الشعب، وسيخلق له نموذج حضاري مثالي في التعبير عن الاحتجاج والحصول على الحق المسلوب، سيكون خير ضامن لعدم انزلاق البلاد إلى الفوضى والعنف، وسيدفع بقوة باتجاه الذهاب إلى المستقبل.. والعكس صحيح تماماً.

وأرجو ألا تأخذ هذه القيادات الثقة العمياء بعمق ولاءات قواعدها الحزبية لها، والزعم بالسيطرة على ساحات الاعتصام عن طريق تقديم الخدمات اللوجستية، فهذا المفهوم في السيطرة قد ولى، وستكون قواعدها أول من سينشق عنهم، ويدعو إلى معاقبتهم في حال تم ارتكاب أخطاء قاتلة تأجل من انتصار الثورة أو تحول دون تحقق كامل مطالبها.

كنت أتمنى على هذه القيادات أن تبادر إلى التنحي عن مناصبها التي عفا عليها الزمن أكثر من اللازم في أحزابها بمجرد نجاح الثورة في تونس تاركةً المجال لوجوه جديدة بما يثبت انتماءها إلى العصر وارتقاءها إلى مستوى الوعي الذي أتت به الثورة، والأهم أن هذا السلوك ـ أعني التنحي ـ سيكون خير دليل على القطيعة التامة مع مرحلة ما قبل الثورة.. والعكس أيضاً صحيح تماماً!!!!.