تثوير الأحزاب وتشبيبها
بقلم/ د. عبد الله أبو الغيث
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 11 يوماً
الجمعة 06 يناير-كانون الثاني 2012 04:44 م

 "لاحزبية ولا أحزاب ثورتنا ثورة شباب"..تردد هذا الشعار بقوة في ساحات التغيير والحرية، خصوصاً خلال المرحلة المبكرة من عمر الثورة الشعبية في اليمن، وأتذكر أن شباب ساحة التغيير بصنعاء قاطعوني بكثرة - أثناء إلقائي لمحاضرة من منصة الساحة خلال الشهر الأول للثورة- عندما بدأت الحديث عن الأحزاب وأثر انضمامها على الثورة، وحاولت تفنيد الشعار أعلاه وتوضيح عدم منطقيته.

 وبعد أن تمكنتُ من تهدئتهم وأقنعتهم بأن يستمعوا لما سأقوله ثم نتناقش حول الموضوع في آخر المحاضرة، قلت لهم بأن شعارهم هذا يتناقض مع الدولة المدنية الديموقراطية التي ينشدونها وخرجوا في ثورتهم من أجلها، لأن الديمواقراطية إنما يتمثل عمادها الأساسي في التداول السلمي الحقيقي للسلطة، وذلك لايمكن أن يتحقق إلا بوجود أحزاب يتسنى للناخب المفاضلة فيما بينها بواسطة برامجها الانتخابية.

 أما الحديث عن ديمواقراطية بدون أحزاب فلن ينتج لنا إلا ديموقراطية بدائية، شبيهة بالديمواقراطية الكويتية، التي يمتلك أعضاء البرلمان فيها حرية كبيرة، لكن تحرك أعضائه يظل عبارة عن نشاط فردي لا يمكّنهم من تشكيل حكومة تعبر عن النتائج الحقيقية للانتخابات، وكل ما يمكنهم فعله لا يعدو الاستجوابات والمهاترات الشخصية بين النواب والوزراء، وهو ما أصاب المواطن الكويتي بالضيق وأشعره بالإحباط من كثرة الحكومات والانتخابات النيابة التي صار يشهدها في فترات زمنية متقاربة، والتي يلجأ إليها أمير الدولة كحل لفض النزاع بين مجلس الوزراء ومجلس الأمة.

 إذاً، إن لم نكن نرضى عن الأحزاب الحالية وأسلوب عملها ومستوى أدائها، فالحل لا يكمن برفضنا للحزبية ولكن بالعمل على إصلاح هذه الأحزاب، أو تأسيس أحزاب جديدة إن تطلب الأمر ذلك. وإن كنت بعد نتائج الانتخابات التونسية والمصرية التي أعقبت ثورتيهما لا أنصح الشباب بتأسيس أحزاب جديدة، نظراً للانتكاسة التي أصيبت بها الأحزاب التي أسسها الشباب هناك، والتي يمكن إرجاعها إلى قلة خبرات الشباب وضعف إمكانياتهم المادية، إلى جانب ميل المواطن العربي للتعامل مع الأحزاب التقليدية التي خبرها ورسخت أسماؤها في ذهنة منذ فترة طويلة.

 قد يقول قائل ماذا عن الشباب المسقلين الذين لا ينتمون إلى أي من الأحزاب القائمة حالياً؟ وفي حقيقة الأمر نستطيع القول إنه لا يوجد إنسان يمكن أن نقول عنه مستقلاً سياسياً وفكرياً حتى وإن لم يمتلك بطاقة حزبية، ذلك أن مبادئه وطروحاته الفكرية لابد ما تلتقي في كثير من رؤاها مع الأفكار التي يدعو لها هذا الحزب أو ذاك، خصوصاً أن لدينا أحزاباً عريقة أسست منذ زمن بعيد وتمثل كل ألوان الطيف السياسي: الإسلامي واليساري والقومي والوطني. هذا هو رأيي، ويظل من حق الشباب خوض تجارب سياسية وحزبية جديدة، قد ينجح بعضها ويفشل البعض الآخر، وتلك هي سنة الحياة.

 ما أريد الوصول إليه هنا بأنه سيتحتم على قيادات الأحزاب الحالية أن تستعد لثورات شبابية قادمة ستنتقل إلى أروقتها من الساحات الثورية كما انتقلت إلى هيئات الدولة ومؤسساتها، لأنه من المؤكد أن شباب الأحزاب؛ سواء منهم الحاليين أو الذين سيفكرون بالانضمام إليها من الشباب غير المنّظمين، لن يقبلوا بعد اليوم أن تكون مهمتهم في أحزابهم منحصرة بتعليق الإعلانات وتكثير السواد في المظاهرات والمهرجانات وعند صناديق الاقتراع.

 وذلك سيلقي على عاتق الحرس القديم في الأحزاب مهمة كبرى، بحيث سيكون من الأفضل لهم لو أنهم تبنوا تحريك ثورات إصلاحية وتغييرية في أحزابهم، شريطة أن يثوروا على أنفسهم أولاً، وينتزعوا منها الاعتقاد الراسخ لديهم بأنهم هم وحدهم من يمتلكون الحكمة والحنكة وأن أحزابهم بدونهم ستندثر وتتلاشى!.

 وحتى إن افترضنا جدلاً صحة اعتقادهم ذلك، فالحل الاستراتيجي الذي يجب عليهم تبنيه إنما يتمثل بشروعهم الفوري بنقل تلك الحكمة والحنكة لقيادات جديدة وشابة في أحزابهم، بحيث توكل إليهم مهمة قيادة الأحزاب في الانتخابات القادمة التي من المزمع تنظيمها بعد عامين من الآن، ويتم حصر مهمة الحرس القديم في الرأي والمشورة، كما يحدث في كل البلدان الديموقراطية، فليس من الضرورة أن تمتد سلطاتهم في أحزابهم من المهد إلى اللحد. ولنا في تجربة حزب العدالة والتنمية التركي قدوة يمكن أن تحتذي بها القيادات في كل الأحزاب.

 ولعل الخطوة الأولى على طريق التثوير الإصلاحي والتطويري داخل الأحزاب ستتمثل بتكريس الديموقراطية الحقة في مختلف أطرها، بحيث يتاح التنافس للوصول إلى المناصب القيادية في مستوياتها المختلفة أمام جميع أعضاء الحزب الذين تتوفر فيهم الشروط المعلنة لذلك، في ظل تنافس علني وصريح يتم الحشد له كما يحدث في أي انتخابات حرة وشفافة ونزيهة.

 وسيتطلب ذلك إعلان ثورات قانونية داخل التنظيمات السياسية تستهدف الرقي بأنظمتها ولوائحها الداخلية، التي أعد معظمها منذ سنوات طويلة، أثناء مراحل العمل السري لبعض الأحزاب، وخلال الاستفراد بالحكم لبعضها الآخر، وأصبح هذا وذاك بحاجة إلى تغيير وتطوير، لتتمكن هذه الأحزاب من التكيّف مع الأوضاع التي أفرزتها ثورات الربيع العربي بصفة عامة وثورة اليمن الشعبية بصفة خاصة.

 وسيكون من الضروري للأحزاب أن تعد لنفسها قاعدة بيانات عن أعضائها، تحدد فيها كفاءاتهم وشهاداتهم وقدراتهم لتكون معياراً تعتمده في تزكيتهم للمهام والمناصب التنظيمية والعامة، وذلك بدلاً عن الاسلوب الحالي الذي يحصر الأمر في أهل الثقة المقربين والمعروفين للقيادات الحزبية العلياء، الأمر الذي جعل من المعتاد أن ترى شخص في حزب ما وقد أثقلته المهام التنظيمية والعامة لكثرتها، بينما أشخاص آخرون من حزبه وبنفس كفائته - إن لم يفوقونه- لا تلتفت إليهم قيادة الحزب، وأصبحوا مجرد مبطبطين ومزَعقين (نسبة للعب البطة وأكل الزعقة)، وهو ما جعل ألأحزاب اليمنية - بألوان طيفها- تصبح أحزاب طاردة لأعضائها الذين يحملون قدراً من التفكير الحر والرؤى التطويرية؛ خصوصاً إن كانت مغايرة لطروحات الحرس القديم المتحكم بمقاليد الأمور، ويتم ذلك عادة على حساب تكريس ثقافة القطيع وفق مقولة: لا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية!.

 أحزابنا -إذاً- باتت بأمس الحاجة لأن تتخلص قياداتها من الشخصنة والتوريث والتأبيد التي كانت تعيبها على رئيس الدولة المخلوع ونظامه، لأن الأحزاب مؤسسات عامة وليست خاصة كما يتقول بذلك البعض، لكونها تقدم نفسها لتولي حكم الوطن والشعب، وبالتالي فهي لن تكون قادرة على رعاية القيم الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة على المستوى العام مالم تكرسها في أطرها التنظيمية، لأن العملية الجراحية التي تُجرى للمريض بمشرط غير معقم تزيده سقما. إلى جانب أن الأشياء التي يمكن أن نعتبرها خاصة إنما تنحصر في المكونات التي يؤسسها الأشخاص من مالهم الخاص وليس من اشتراكات الأعضاء.

 نعرف أن القوى المتطرفة والمصلحية الحاملة لمشاريع الإقصاء - وهي متواجدة في كل الأحزاب- ستشكل حائط صد أمام عملية إصلاح الأحزاب وتطويرها وتشبيبها خوفا من رحيلها إلى الهامش، لكننا نعوّل على القيادات الحكيمة والمعتدلة في تلك الأحزاب لالتقاط طرف الخيط وإتمام هذه العملية، لأنها إذا لم تفعل ذلك ستكون قد قررت توجيه دفة السفينة عكس اتجاه العاصفة، الأمر الذي سيعمل على إتلاف أشرعتها، وسيهدد بغرقها، وحتى إن لم تغرق فهي بالكاد ستصبح مجرد سفينة مهترئة لا يُعول عليها.