من المشير إلى السفير.. هكذا تأقلم اليمنيون مع الاحتلال الأمريكي لبلدهم
بقلم/ عبد الرزاق الجمل
نشر منذ: 12 سنة و أسبوعين و 3 أيام
السبت 10 مارس - آذار 2012 04:27 م

حينما كان الشعب اليمني يسعى إلى الخلاص من نظام رئيسه السابق علي عبد الله صالح، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى أكثر منه للاطمئنان على مصالحها في اليمـن، والتي ارتبط جزء كبير منها بصالح كشخص وبنظامه.

وحرصت الولايات المتحدة الأمريكية على ذلك لاعتقادها بأن سير الثورة على نظام صالح بالشكل الذي يريده الشعب، سيعني الخلاص من كل ارتباطاتها معه، خصوصا في مجال الحرب على الإرهاب، ومن شأن ذلك أن يقوض كل ما أنتجه تعاونها مع صالح خلال الأعوام الماضية، ومن شأنه أيضا أن يعقد مستقبل حربها على تنظيم القاعدة في اليمن.

•أمريكا وصالح قبل الثورة

بعد عام 2009م، أي العام الذي قام تنظيم القاعدة فيه بأكبر عمليتين خارج الحدود اليمنية، الأولى التي استهدفت الأمير محمد بن نائف بقصره في مدينة جدة عبر المطلوب السعودي عبد الله طالع عسيري، والثانية التي استهدفت طائرة نقل كانت متجهة إلى مدينة ديترويت الأمريكية لحضور أعياد رأس السنة الميلادية، ونفذها النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب، بعد هذا العام بدأت مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية تتزايد من وجود القاعدة في اليمن، واعتبر مسئولون أمريكيون القاعدة في هذا البلد أخطر منها في أي بلد آخر، بما في ذلك أفغانستان وباكستان.

وانطلاقا من هذه المخاوف بدأ الاهتمام الأمريكي باليمن يتزايد، حيث رفعت وزارة الدفاع الأمريكية معوناتها للحكومة اليمنية في أواخر عام 2009م من 70 مليون دولار إلى 150 مليونا. ومع أن الإدارة الأمريكية لم تكن مقتنعة بما يحققه نظام صالح في حربه على تنظيم القاعدة، إلا أن خياراتها كانت شحيحة، ومع ذلك فقد مثلت تلك العمليات فرصة للضغط على صالح كي يبذل المزيد من الجهود في هذا المجال، أما التدخل العسكري الأمريكي المباشر فكان يتم بشكل سري، وكانت الحكومة اليمنية تنفي صحة ما يتسرب منه، قبل أن تكشف الوثائق الأمريكية المسربة ذلك.

ومع ذلك لم يكن العام 2010م ليقلَّ خطورة، فبالإضافة إلى النشاط العسكري غير المسبوق لتنظيم القاعدة في اليمن على المستوى المحلي، إلا أن عملية الطرود الملغومة في مطلع شهر 11\2010م أعادته مجددا إلى واجهة الأحداث الدولية. وكانت عملية الطرود التي تبناها تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب قد أحدثت هلعا غير مسبوق لدى دول الغرب ودفعت رئيس الوزراء البريطاني إلى القول "إن التهديد من شبه الجزيرة العربية واليمن على وجه الخصوص تنامى وصار يملي علينا اتخاذ كل الخطوات الممكنة في العمل مع شركائنا في العالم العربي لاستئصال سرطان الإرهاب المتربص في شبه الجزيرة العربية".

لكن رئيس هيئة الأركان البريطانية الذي قال إن اليمن لا يجب أن يصبح أفغانستان جديدة، استبعد أي فرضية أي تدخل عسكري فيه. وكان دعم الغرب للحكومة اليمنية في سبيل مواجهة تحدي خطر القاعدة هو العنوان الأبرز للتحرك الغربي، مع مزيد من الضغط على نظام صالح.

في 24\12\2010م، أي بعد عملية الطرود بأقل من شهرين قالت الحكومة اليمنية إنها ستنشئ أربع فروع لوحدة مكافحة الإرهاب في أربع محافظات يمنية هي أبين وشبوة ومأرب وحضرموت. وقالت وزارة الداخلية اليمنية في بين لها إن فروع وحدة مكافحة الإرهاب في المحافظات الأربع سيجري إعدادها وتدريبها وفق أعلى المستويات وعلى النحو الذي أعدت به وحدة مكافحة الإرهاب التابعة لقوات الأمن المركزي.

وفي يوم 23\12\2010، أي قبل الإعلان عن تأسيس تلك الفروع بيوم، كان كبير مستشاري الرئيس الأمريكي باراك اوباما لمكافحة الإرهاب قد حث اليمن على تكثيف جهوده لمحاربة تنظيم القاعدة.

وقال البيت الأبيض إن برينان اتصل بالرئيس اليمني "لتأكيد أهمية القيام بتحرك قوي ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بغية إحباط خططه لشن هجمات إرهابية في اليمن وغيره من الدول بما في ذلك داخل الولايات المتحدة".

وقبل أسبوع من تاريخ اتصال برينان بصالح كان برينان قد أكد بأن العلاقات بين الولايات المتحدة واليمن توترت بسبب رغبة واشنطن في الإسراع بوتيرة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تأمل بان تؤدي إلى إبطاء قيام متشددين بتجنيد يمنيين.

وقوة وحدة مكافحة الإرهاب التي قالت وزارة الداخلية اليمنية إن الفروع الجديدة سيتم إعدادها وفق أعلى المستويات على النحو الذي أعدت به تلك القوة، كان خبراء ومدربون أمريكيون وبريطانيون هم من يتولون عملية تدريبها والإشراف عليها، لكن ذلك كان يقتصر على العاصمة صنعاء.

وفي تاريخ 8\1\2011م، أي بعد تاريخ الحديث عن إنشاء تلك الفروع بنصف شهر، قالت صحيفة "ذي تايمز" البريطانية "إنها المرة الأولى التي ستنشر بريطانيا وأميركا مدربين إلى جانب القوات اليمنية في مناطق مأرب وشبوة وحضرموت وأبين – وهي مناطق من المعروف أن القاعدة تتخذ منها ملجأ آمنا – وذلك حسب ما ورد من مصدرين اثنين، احدهما ضابط عسكري أجنبي والآخر دبلوماسي أجنبي يعمل في اليمن".

ونقلت الصحيفة البريطانية عن أحد المصادر قوله: "حاولنا أن نخرج من مراكز التدريب قرب صنعاء إلى المناطق الأخرى. وسنتمكن بوجود وحدة مكافحة الإرهاب الجديدة أن نخرج إلى الحقول للمرة الأولى، وهو أمر حيوي إذا كنا نريد أن نحقق أي تقدم ضد القاعدة".

وأضافت الصحيفة: "وقد وُصف الوجود العسكري البريطاني الحالي بانه "معتدل" – بالعشرات – يضم قوات خاصة ومدربين عاديين. اما الولايات المتحدة فقد قامت بتدريب قوات مكافحة الإرهاب اليمنية منذ عشر سنوات عندما بدأت الحملة التي أطلق عليها اسم (الحرب على الإرهاب). غير أن عدد المدربين الأميركيين تضاعف مرتين العام الماضي إلى حوالي 100، في أعقاب محاولة عمر فاروق عبد المطلب إسقاط طائرة ركاب فوق ديترويت في يوم عيد الميلاد العام 2009م.

وفي 13\1\2011م قال وثيقة أمريكية مسربة "إن وحدات مكافحة الإرهاب اليمنية المميزة التي تشكلت بدعم أميركي مكثف لاستهداف تنظيم القاعدة قد استخدمت بدلا من ذلك من قبل الرئيس صالح لقمع الثوار الحوثيين شمال اليمن".

أي أن الثورة الشبابية اليمنية التي ستنطلق في الشهر التالي لكل هذه الأحداث جاءت بعد:

1ـ علاقات متوترة بين نظام صالح وبين الإدارة الأمريكية على خلفية رغبة واشنطن بتسريع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها أن تعمل على إبطاء متشددين في تجنيد يمنيين.

2ـ تزايد نشاط تنظيم القاعدة داخل اليمن وخارجه مع ضعف قدرة نظام صالح على وضع حد لمخاطره.

3 ـ استخدام قوات مكافحة الإرهاب المدربة والمدعومة أمريكيا، ضد خصوم آخرين أيضا، بينما خصم أمريكا الوحيد في اليمن هو تنظيم القاعدة.

4 ـ فروع جديدة لمكافحة الإرهاب في محافظات أخرى غير العاصمة وإيفاد أعداد كبيرة من المدربين والخبراء الأمريكيين والاستشاريين والبريطانيين.

5 ـ مضاعفة الدعم المالي والعسكري للحكومة اليمنية.

6 ـ تحذير قادة بعض البلدان الولايات المتحدة الأمريكية من أنها كانت تتعرض لخديعة في اليمن.

7 ـ رغبة أمريكا في الانتقال إلى مراحل أكثر جرأة في الحرب على تنظيم القاعدة داخل الأراضي اليمنية.

وحين انطلقت الثورة الشبابية وسع صالح الشقة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية باستخدامه مرة أخرى لوحدة مكافحة الإرهاب ضد قوى قبلية وأخرى عسكرية انشقت عنه، وكذا لقمع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاطه في العاصمة صنعاء.

لكن الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت بتقليص دعمها لصالح، لا تزال محتفظة به، ليس لأنه الحليف الأنسب أو لأنه من فتح الجو والبر لقواتها العسكرية كي تحارب القاعدة بشكل مباشر، ولكن لجهلها إلى أي مدى يمكن أن يتجاوب معها في الحرب على تنظيم القاعدة من سيخلفه.

وربما وسع صالح الهوة أكثر بتنحيته جانبا للخطة المدعومة من بريطانيا بشأن تأسيس فروع لقوة وحدة مكافحة الإرهاب في أربع محافظات يمنية وذلك بسبب حالة "الاضطراب السياسي"، حسب الوثائق الأمريكية المسربة نقلا عن أحد المسئولين اليمنيين.

ومع ذلك كان لايزال كثير من المسئولين الأمريكيين يعربون عن قلقهم "من أن تتدهور جهود مكافحة الإرهاب إذا تمت الإطاحة بصالح. وهو رأي أجمع عليه حلفاء أميركا منذ وقت طويل"، بحسب الوثائق ذاتها.

وبحسب الوثائق ذاتها فإن قلقا كان يساور القادة الأميركيين بشأن ما إذا كان من سيخلف صالح في الحكم سيسمح لفرق المخابرات الأميركية بالعمل خارج الدولة وللطائرات طراز «بريديتور» بالاستطلاع أم لا".

ويقول الكاتب الأميركي ريتشارد فونتين، وهو عضو بارز في المركز من أجل أمن أميركي جديد،: " من المؤكد أن رحيل صالح سيشكل انتكاسة على المدى القصير للمساعي الأميركية في مكافحة الإرهاب, ولكن حكومة يمنية جديدة أكثر تمثيلا, ربما ستمنح واشنطن فرصة لبناء إستراتيجية أكبر من إستراتيجية تعتمد على رجل واحد".

•لأمريكا الأمر من قبل الثورة ومن بعد

الآن باتت أحزاب المعارضة اليمنية تدرك جيدا أن لأمريكا كلمة الفصل في الأزمة اليمنية، وأن ميلها لأحد الأطراف من شأنه أن يرجح كفته، لكنها تدرك أيضا ما الذي يقلق أمريكا، وأن ما بوسعها أن تقدمه يفوق ما كان يقدمه نظام صالح، غير أنها مثقلة بتاريخ من المعارضة لنوعية علاقة نظام صالح بالإدارة الأمريكية، خصوصا في مجال الحرب على تنظيم القاعدة، وعليها أن تنتقل إلى الوضع الجديد بشكل تدريجي سري، وليس بالطريقة التي تحدث عنها با فضل على سبيل المثال.

ففي الأشهر الأولى لانطلاق الثورة قال عبد الرحمن بافضل على شاشة قناة الجزيرة إن على المعارضة أن تتحرك سريعا باتجاه الخارج لطمأنته على مصالحه وعلى امتيازاته التي كان يحظى بها في عهد الرئيس صالح، بل وطالبها بتقديم ما يمكن أن يكون أكثر إغراء للولايات المتحدة الأمريكية.

وقال رئيس الكتلة البرلمانية لحزب التجمع اليمني للإصلاح بافضل مخاطبا أحزاب المعارضة: على المعارضة اليمنية أن تسمي ممثليها في الحكومة القادمة، وأن تسمي لها رئيس وزراء مؤقت، وأن تسافر لتحاور الآخرين في الخارج، أمريكا والسعودية بالذات التي يقول الرئيس صالح أنا معي أمريكا ومعي السعودية، ونحن مستعدون لتقديم ما يريدونه، تأتي أمريكا، تأتي فرنسا، سنفتح لها الأجواء سنة أو سنتين لتدق القاعدة.

وأضاف بافضل: "نحن مستعدون أن نتعاون مع أمريكا وفرنسا والمجتمع الدولي في إطار الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.. بموجب ميثاق الأمم المتحدة فليدخلوا عندنا.. سنتعاون ونتحاور في ملف القاعدة أول ما نسقط النظام في اليمني، من أجل تصفيتها بالكامل".

بعد هذه التصريحات صمت عبد الرحمن بافضل طويلا، وربما وبخته أحزاب المعارضة كثيرا، ليس لأن فيما قاله تجاوزا، ولكن لأن تلك الأحزاب كانت تفعل ما طلبه هـو وأكثـر سرا. كان التواصل مستمرا بين قيادات في المعارضة وبين الجانبين الأمريكي والسعودي، ربما أكثـر من تواصل أحـزاب المعارضـة فيما بينها، ولم يكونوا بحاجة إلى تصريحات علنية يمكن أن تُستخدم ضدهم، كما حدث تماما.

وبعد كل ما تم بدأت أمريكا بشن حرب مباشرة أكثر صراحة من ذي قبل على أهداف مفترضة لتنظيم القاعدة ببعض المناطق اليمنية، حيث صارت أجواء ست محافظات يمنية مباحة تماما لطائراتها من دون طيار، وأحيانا لطيرانها الحربي، بالإضافة إلى الطيران السعودي الحليف.

ورغم أن هذا مكَّـن أمريكا من تحقيق بعض المكاسب من خلال نجاحها في استهداف بعض قادة تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب الميدانيين، إلا أن ما تمكن التنظيم من تحقيقه كان يفوق ذلك بكثير، حيث استطاع السيطرة على محافظة أبين كاملة وعلى أجزاء من محافظة شبوة القريبة.

وتؤكد التقارير التي نشرتها وسائل إعلام أمريكية أن إدارة الرئيس أوباما سعت إلى استغلال الحالة التي تمر بها اليمن لشن هجمات بشكل مباشر على تنظيم القاعدة في اليمن.

ومن التقارير التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" تقرير يقول: "إن الإدارة الأمريكية كثفت من عملياتها ضد الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في خضم الفوضى التي تشهدها اليمن، مستغلة الفراغ المتنامي في البلاد لضرب المتشددين عبر طائراتها التجسسية من دون طيار".

وقبل ذلك نقلت الصحيفة ذاتها عن مسئولين في الإدارة الأمريكية بأن "أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقوم بالتخطيط لبناء قاعدة سرية في الشرق الأوسط لتكون ساحة انطلاق للطائرات الحربية بدون طيار وذلك لقصف جميع مواقع المقاتلين والمسلحين على الأراضي اليمنية"، وهو ما تقوم به الطائرات الأمريكية فعلا.

لكن وسائل إعلام المعارضة اليمنية كانت تتجاهل كل هذا كونها، في ظاهر الأمر، منشغلة بأحداث الثورة الشبابية، وفي مقابل ذلك لم تكن تكل أو تمل من الحديث عن نشاط تنظيم القاعدة الذي تتهم نظام صالح بالوقوف خلفه.

•الوطن في سوق المزايدة

وكانت وسائل إعلام المعارضة قد استغلت تفريط نظام صالح في السيادة الوطنية على أكمل وجه، وحين أكدت الوثائق الأمريكية المسربة "ويكيليكس" وجود تدخل أمريكي عسكري مباشر في اليمن، أقامت المعارضة الدنيا ولم تقعدها.

وبنفس الطريقة كانت قد تعاملت مع الغارة الأمريكية التي استهدفت الشيخ أبا علي الحارثي في صحراء مأرب عام 2002م. حيث شنت أحزاب المعارضة هجوما على نظام صالح المتواطئ مع الأمريكان في قتل يمنيين.

وقال بيان صادر عن أحزاب المعارضة السبعة حينها: إن أحزاب المشترك وقفت أمام العدوان الأمريكي على سيارة في مأرب يوم الأحد معتبرة إيها عدوانا على سيادة اليمن كدولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة أكد ميثاقها سيادة واستقلال الدول وحقوق مواطنيها.

البيان أيضا اتهم الحكومة بالتواطؤ والتفريط بالسيادة اليمنية ودماء المواطنين اليمنيين، كما حمل الحكومة مسؤولية النتائج الخطيرة المترتبة على التفريط بالسيادة الوطنية، وطالبها بالكف عن التضليل الإعلامي والسياسي الذي تمارسه بخصوص ما يسمى بالتعاون الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة وضرورة مكاشفة الشعب اليمني بحقيقة ما يدور وعرضه على المؤسسات التشريعية والوطنية والمدنية، ودعا البيان مجلس النواب إلى مساءلة الحكومة على تواطئها في انتهاك السيادة الوطنية، والشعب اليمني إلى اليقظة والحذر تجاه كل ما يهدد سيادة اليمن واستقلاله وأمنه واستقراره.

لكن كل هذه الوطنية التي ضجت بها لغة بيان أحزاب اللقاء المشترك، اختفت تماما خلال فترة الثورة الشبابية، لأن المعارضة توشك أن تكون نظاما بديلا، ولا مفر من التضحية بالسيادة مقابل الوصول إلى الحكم، تماما كما ضحى بها نظام صالح مقابل البقاء فيه.

ولهذا حين اغتالت طائرات أمريكا الشيخ أنور العولقي بمحافظة الجوف مطلع شهر سبتمبر من العام 2011م ثم نجله بمحافظة شبوة خلال الشهر ذاته، لم تحرك المعارضة ساكنا، ولم تصدر بيانا يدين العملية، كما فعلت عام 2002م إزاء قضية اغتيال الشيخ أبي علي الحارثي، بل امتنع من كان حينها ناطقا باسم أحزاب اللقاء المشترك السيد محمد قحطان من الإدلاء بتصريح حول العملية.

بل إن هناك من يذهب إلى أن أحزاب المعارضة أو جهات فيها ساهمت، من خلال دور ما، في نجاح عملية الاغتيال، لأن النظام كان في حالة مفاصلة مع أمريكا، ولأن العملية التي قتلت الشيخ أنور العولقي كانت في محافظة لا نفوذ للنظام فيها، والنفوذ الأكبر في تلك المحافظة كان لحزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون) أكبر أحزاب اللقاء المشترك.

وكان الصحافي عبد الإله حيدر شائع قد نقل في بعض تقاريره التي نشرها في الأعوام الماضية معلومات نشرتها صحف أمريكية تؤكد أن هناك من حزب الإصلاح من يقدم خدمات لأجهزة الاستخبارات الامريكية في مجال الحرب على الإرهاب.

ونقل شائع عن صحيفة (أيوراسيانيت) قولها إن "عناصر من حزب إسلامي كبير معارض في اليمن، يصفهم مسئولون أمريكيون في صنعاء بأنهم حداثيون ومعتدلون في أفكارهم، يقفون وراء كم هائل ونشيط من المعلومات الأمنية والإستخباراتية والسياسية والاقتصادية عن اليمن، حيث يقومون بتقديم خدماتهم المعلوماتية طوعاً إلي دبلوماسيين في الملحقية السياسية والثقافية بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية في صنعاء".

•الجو لا يكفي

تأكد لأمريكا أن الحرب التي تشنها على تنظيم القاعدة في اليمن من الجو لا تكفي لحسم المعركة، وأن إطالة أمد الأزمة في اليمن من خلال استغلال التنازلات التي يقدمها طرفا الصراع سيصب فقط في صالح تنظيم القاعدة، وأن الإسراع في إيجاد نظام محلي بديل عبر توافق يعطيها أكثر مما كان لها من الامتيازات هو الحل الأنسب، ولم تعط أية اعتبار لردة الفعل الشعبية، فمعظم من في الساحة هم من شباب الإخوان المسلمين، وشباب الإخوان لن يخرجوا عن خط قادتهم الذين أصبحوا في الخط الأمريكي.

لكن أمريكا التي رفعت سقف مطالبها إلى أعلى مستوى له فوجئت بسقف أعلى من التنازلات تقدمه أحزاب المعارضة اليمنية، خصوصا حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون)، وكانت تصريحات القيادي عبد الرحمن بافضل السابقة هي ما ظهر مما يريدون له أن يتم بشكل سري، أو بطرق غير مباشرة لا تضعهم في مواجهة أمام المعترضين عليهم من أبناء الشعب، كالتصريحات الدبلوماسية التي يتفنن فيها محمد قحطان.

وكان قحطان قد أشاد بالموقف الغربي من ثورات الربيع العربي، رغم أن الغرب هو الذي أعاق سرعة حسم الثورة في اليمن بانتظاره لما يمكن أن يكون بعد رحيل صالح.

وقال قحطان في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط حينها: "فقد شاهد ملايين الشباب العربي والمسلم كيف أن أنظمتهم تتجه لقتلهم في الوقت الذي كان فيه الصوت الغربي أقوى الأصوات التي ارتفعت للمطالبة بحماية الدم العربي والمسلم من تسلط وجبروت أبناء جلدتهم، كما كان للضغوط الغربية الدور الأساس في إنجاح الثورات العربية".

•عودة الأمن السياسي

كان الأمن القومي الذي يديره مسئولون من عائلة صالح ومقربون منها قد جمد نشاطه في الحرب على الإرهاب، بشكل غير مباشر، وفي المقابل لم يكن الأمن السياسي ينشط بشكل كبير، لأن جزءا كبيرا من مهامه كانت قد أوكلت إلى الأمن القومي خلال السنوات الماضية، ولأن الثورة أنتجت حالة من اللادولة أجلت فيها معظم النشاطات، الأمنية وغيرها.

لكن ترتب الأمور على نحو مما أوردناه قبل قليل سيعيده إلى الواجهة، فللإخوان حضور قوي فيه، والإخوان هم ورقة أمريكا القادمة في الحرب على تنظيم القاعدة في اليمن.

لهذا عاود الأمن السياسي نشاطه بشكل قوي في الأشهر الأخيرة للثورة، وهي الأشهر التي كان فيها نظام صالح أو الرئيس صالح نفسه في حكم المنتهي سياسيا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ولأحزاب المعارضة اليمنية.

وباشر عمله بمساعدة من شباب الإخوان المسلمين الذين كانوا يديرون ساحة التغيير ويراقبونها أمنيا، بالإضافة إلى قوات الفرقة الأولى مدرعة.

وفي منتصف شهر 12\2011م أي في شهر الثورة الـعاشر اعتقل شباب الإخوان المسلين مع جنود من الفرقة الأولى مدرعة عددا من شباب حركة الأمة في ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء، بتهمة الانتماء إلى تنظيم القاعدة أو التعاطف معه، ثم أوصلوهم إلى معسكر الفرقة الذي أوصلهم بدوره إلى سجن الأمن السياسي.

وبعد هذا التاريخ بأسبوع أغلقت اللجنة التنظيمية التابعة للإخوان المسلمين في ساحة التغيير عددا من الأكشاك الدعوية التابعة لحركة شباب الأمة، للتهمة ذاتها، وقالت اللجنة إن أمر إغلاق الأكشاك ومصادرة أجهزة المحول التي كانت فيها صادر عن نيابة الفرقة.

ثم توالت الاعتقالات بعد ذلك في ساحة التغيير وخارجها من المناطق التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون والفرقة الأولى مدرعة ومن تحالف معهم.

•اطمئنان نسبي

كانت أمريكا بعد هذا كله قد اطمأنت بشكل نسبي، وكان عليها أن تباشر الضغط على صالح لنقل السلطة، لكن جهد سنين من الدعم والتدريب لقوة وحدات مكافحة الإرهاب والأمن القومي وقوات خاصة في الحرس الجمهوري لا ينبغي أن يضيع سدى، ولا بد من حل توافقي يضمن لها بقاء ذلك، وهو الحل الذي كانت قد تقدمت به مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي.

وعلى الرغم من أن أمريكا استطاعت باستغلالها للأزمة اليمنية توظيف كل القوى في السلطة والمعارضة لصالح حربها على تنظيم القاعدة، وعلى هذا الأساس ترتب الوضع الأمني والسياسي والشعبي وغيره في البلد، إلا أن القاعدة كانت قد اكتسبت قوة تفوق القوة التوافقية اليمنية.

كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدرك هذا الأمر جيدا، لهذا حرصت على إبقاء أبناء صالح وأبناء أخيه على رأس الأجهزة العسكرية، أما الشعب المعارض لهذا الأمر فلديها في الداخل من سيقنعه بمنطقية الحلول التدريجية، بالإضافة إلى أن معظم من في الساحة تابعون لحزب صار تابعا لأمريكا في حربها على تنظيم القاعدة.

لهذا قال السفير الأمريكي بكل تبجح إن حكومته ستحتفظ بأقرباء صالح على رأس تلك الأجهزة لسنوات قادمة، كونهم أبلوا حسنا في الحرب على تنظيم القاعدة طوال السنوات الماضية، وهذا هو معيار أمريكا الوحيد في طريقة صياغتها للواقع اليمني الجديد.

وأكثر من ذلك قال السفير الأمريكي إنه سيعمل على تغيير العقيدة القتالية للجيش اليمني بعد إعادة هيكلته، أي أن هيكلة الجيش ستتم أيضا وفق ما يخدم حرب أمريكا ضد تنظيم القاعدة في اليمن.

ولأن السفير الأمريكي هو من بات يفصل في كل شيء، بعد أن آل البلد إليه، فإن الحوار الذي قيل إنه لن يستثني أحدا استثنى القاعدة، حيث قال السفير في حوار مع صحيفة 26سبتمبر إنه لن يحاور تنظيم القاعدة في اليمن.

بعد هذا التصريح من السفير الأمريكي قال الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي في منتصف شهر 2\2012م أثناء لقائه بالسفير الأمريكي إنه لن يحاور القاعدة وسيحاربها بكل ما أوتي من قوة، دخل محافظة أبين وخارجها.

وفي لقاء سابق له بالسفير الأمريكي قال هادي بتاريخ 8\2\2012م بحسب ما نقلته وكالة الأنباء اليمنية سبأ: "لا تهاون و لا تفاهم مع هذه الجماعات الإرهابية ولا بد من ملاحقتها حتى القضاء عليها بكل السبل الممكنة".

•كل هذا لا يكفي أيضا

حين كان على الجولة المنتظرة من الحرب ضد تنظيم القاعدة أن تبدأ، فاجأ التنظيم الجميع بعملية لم يسبق لها مثيل في تاريخ حروبه مع قوات الحكومة اليمنية، حين تمكن من اقتحام كتيبة المدفعية في منطقة دوفس بمحافظة أبين وقتل وأسر وجرح ما يقرب من خمس مئة جندي، بالإضافة إلى ما غنمه من عتاد ثقيل لم يسبق له أن غنم مثله.

وسبق هذا وتلاه وتزامن معه نشاط غير مسبوق لتنظيم القاعدة، في حضرموت والبيضاء وأبين ولحج والعاصمة صنعاء. وهذا النشاط وضع جميع خصوم التنظيم أمام قدراته وأمام قدراتهم الحقيقية، والفاجعة أن هذا جاء بعد كل تلك الاستعدادت والتهديد، وفي مرحلة حرجة جدا.

لكن الحكومة اليمنية الجديدة، وتفاديا للحرج، سارعت إلى اتهام أطراف في النظام بالوقوف وراء ما حدث، وتحدثت عن تواطؤ بين تنظيم القاعدة وبين مهدي مقولة بسبب قرار إقالة الأخير، والجديد أنها تحدثت عن تواطؤ ولم تتحدث عن تبعية القاعدة للنظام، فمن صالحها الآن الحديث عن وجود قاعدة حقيقية لغرض الحصول على الدعم، كما يقول بعض قادة تنظيم القاعدة.

أما أمريكا فإن كل ما يهمها الآن هو وضع حد لتنامي تنظيم القاعدة في اليمن بأي شكل، ولها فقط يعود أمر تحديد الخيارات القادمة في التعامل مع تنظيم القاعدة ومع مخاطره. لهذا السبب انتقد المحلل السياسي اليمني علي الجرادي الرئيس الجديد لأنه يلتزم بخيارات أمريكا في الحرب على الإرهاب بشكل حرفي.

•تهيئة الشعب للتدخل

تعاملت وسائل إعلام الحكومة الجديدة مع معركة دوفس الأخيرة بلغة مختلفة كان الغرض منها استهداف عاطفة الشعب ليتقبل مستقبلا أية حلول، وهي اللغة التي ظلت تتعامل بها طوال فترة الثورة، رغم أن تلك اللغة تناقض تماما لغتها في التعامل مع أحداث أخرى.

ففي حين وصف إعلام الحكومة الجديدة ما حدث في المكلا بالكارثة ووصف الحرس الجمهوري بالجنود الأبرياء، كان هذا الإعلام ذاته يصف قتل أبناء أرحب للحرس بالعمل الثوري البطولي ويصف الحرس الجمهوري بالحرس العائلي، مع أن شيئا لم يتغير.

ورغم أن القتل للأبرياء يجب أن يدان بأي شكل كان إلا أن هذا الانتقاء يؤكد أن التعامل مع أرواح البشر ومع البلد من أقصاه إلى أدناه يتم وفق حسابات سياسية لا تمت إلى الصالح العام بصلة.

لكن الحكومة الجديدة التي تقودها أحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب التجمع اليمني للإصلاح، نجحت من خلال وسائل إعلامها في خلق تقبل نسبي للتدخل الأمريكي العسكري، إلا أنها مغامرة غير محسوبة النتائج، وقد تكون لها تبعاتها القاتلة مستقبلا.

وقد ظلت وسائل إعلامها طوال فترة الثورة تربط كل صغيرة وكبيرة لها صلة بتنظيم القاعدة، بصالح وبنظامه، لغرض إثارة غضب الشعب على التنظيم وتهيئته لتقبل أي عمل عسكري ضده من الداخل أو الخارج.

هكذا تدرجت جريمة أقلمة الشعب مع تدخل عسكري خارجي سيصل في نهاية المطاف إلى احتلال أو ما هو أسوأ، بل إن هناك الآن قابلية لدى الشعب اليمني لأشياء من هذا القبيل.

•عودة البرنامج الأمريكي "وكأنك يا بوزيد ما غزيت"

كل تلك الامتيازات التي حظيت بها أمريكا (تجنيد قوى السلطة والمعارضة لحرب القاعدة ـ السماح لطيرانها بالتحليق طولا وعرضا في الأجواء اليمنية ـ إبقاء أولاد صالح على رأس الأجهزة الأمنية ـ تسخير كل وسائل الإعلام المختلفة لدعم هذه الحرب ـ إيفاد مدربين أمريكيين لتدريب القوات اليمنية) كل تلك الامتيازات لازالت دون ما تريده أمريكا في حربها على القاعدة.

لهذا السبب كان لا بد من البحث عن خيارات إضافية أكثر فاعلية يمكن أن تحقق نتائج ملموسة على الأرض، ومنها وضع قيادة المعركة تحت تصرف الأمريكان بشكل مباشر دون أن يظهر الأمر كعمل عسكري من النوع الذي قامت به أمريكا في كل من أفغانستان والعراق.

وبدأت آثار تلك الخيارات تظهر بشكل تدريجي، ففي يوم الثلاثاء الماضي 6\3\2012م قالت القاعدة إن لديها معلومات مؤكدة بأن طيارين أمريكيين وصلوا إلى قاعدة العند الجوية.

وفي مطلع شهر مارس 2012م قالت القاعدة إنها قتلت في عدن ضابط مخابرات أمريكيا، لكن الحكومة اليمنية نفت ذلك قبل أن تعترف الحكومة الأمريكية بوجود هجوم على ضابط أمريكي وتنفي القتل.

وفي أواخر شهر نوفمبر 2011م عرضت نشرة مدد الإخبارية التابعة لتنظيم القاعدة صورا عدة لجنود أمريكيين في العاصمة اليمنية صنعاء بالقرب من أحدى المنشئات الحيوية.

وقبل ذلك قالت القاعدة إن جنودا أمريكيين شاركوا قوات الجيش اليمني المعارك التي كان يخوضها تنظيم القاعدة بمنطقة دوفس في محافظة أبين، كمقاتلين وكمدربين أيضا.

وفي مطلع شهر مارس الحالي تحدثت صحف خارجية عن إعادة تشغيل البرنامج الأمريكي لمكافحة القاعدة في اليمن بعد أن كان الأمريكيون قد علقوا نشاطه العام الماضي بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي، حد قولهم، رغم أن وكالة الاستخبارات الأمريكية، كما تقول صحيفة (وول ستريت جورنال) افتتحت برنامجها الجديد للطائرات بدون طيار بضربة في وقت متأخر من سبتمبر 2011م استهدفت ناشطاً بارزاً من تنظيم القاعدة في اليمن، أنور العولقي.

لكن هذا البرنامج سيعمل بشكل مختلف هذه المرة. ونقلت صحيفة (وول ستريت جورنال) عن مسئول يمني قوله إن نقاشات كثيرة جرت بين اليمنيين والمسئولين الأمريكيين حول الخطوط العريضة للعلاقة الأمنية الجديدة بين الدولتين".

بعد هذا كله هل ينبغي أن يكون الاحتلال الأمريكي لليمن هو النتيجة الطبيعية لثورة أراد مشعلوها التحرر من نظام محلي قمعي؟!.

من المؤسف القول إن القاعدة هي الجهة الوحيدة المناهضة للمشروع الأمريكي في اليمن، ومن المؤسف أكثر القول إن كل قوى الداخل باتت مدعوة اليوم لمحاربة من يحارب هذا المشروع.