هيلين، صغيرتي ..
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 10 سنوات و 8 أشهر و 16 يوماً
الخميس 11 يوليو-تموز 2013 05:30 م

توقفتُ عن الكتابة إليك منذ أيام . كان هناك حدث كبير، وكانت مصر في الواجهة .. أنصحك بقراءة هذه الرسالة عندما تتجاوزين سن الثامنة .. عندما تكبرين ستفهمين اﻷمور على نحو أكثر عمقاً . دعيني ألخّص لك مصر، والعرب، لتفهمي سر انشغالي بمصر عنك،

صغيرتي .

ولد النبي إبراهيم في العراق . تزوّج مواطنته ساره،وتعني بالكنعانية "اﻷميرة " تروي النصوص اليهودية أن اسمها كان "ساراي " أي أميرتي، لكن الرب غيره إلى ساره، أي اﻷميرة .

فيما بعد تزوج النبي إبراهيم، أو إبراهام، من امرأة قبطية اسمها هاجر . النبي محمد سيأتي بعد زمن طويل ويتزوج أيضاً من امرأة قبطية كما فعل جدّه، وسيكون اسمها ماريا . لذلك كان النبي محمد رقيقاً، على نحو خاص للغاية، في وصاياه بأقباط مصر " فإن لهم ذمّة ورحِماً ." صحح اﻷلباني هذا الحديث، ونسيه تﻼمذته .

ستنطلق الحكاية هكذا، يا هيلين :

ستنجب ساره ولداً، يكون اسمه إسحاق .. يهاجر إلى الشام فينجب اليهود .. ستنجب هاجر ولداً، يكون اسمه إسماعيل .. يهاجر مع أمه إلى الحجار وينجب العرب .. تقول النصوص اليهودية إن ساره وهاجر لم تكونا على وفاق وأن الرب اقترح على إبراهيم التفريق بينهما .. تماماً مثل مقترحات حل الدولتين بين نسليهما، تلك التي ستحدث بعد أكثر من أربعة آﻻف عام : نسل هاجر من العرب، ونسل ساره من اليهود .

هيلين، حبيبتي .. أنا ﻻ أعبث أمامك بالتاريخ . عندما تكبرين ستقرئينه عبر آليات معقدة وفي أنساق مركّبة ومتداخلة . وعندما تشعرين باﻹرهاق ستجدينه بهذه البساطة البدائية .

وأنت تمرّين في التاريخ ستجدين في سفر التكوين وفي البداية النهاية ﻻبن كثير مرويات شديدة البساطة، يصعب تخيلها . ﻻ توجد برديّات، وﻻ حفريات ستساعدنا على كتابة التاريخ من جديد .

لذلك دعينا نسلم بأن المصريين هم أخوال العرب، تماماً مثل اليمنيين .. فعندما شبّ إسماعيل، ابن السيدة المصرية هاجر، تزوج بامرأة يمنية من قبيلة جرهم، وأنجبا العرب .. كان العرب أمة بسيطة، طيبة، تجري وراء الماء والزرع . كان يكفيهم نبيّ واحد، هو إسماعيل .. سفر التكوين يقول إنه ليس نبياً، بينما يقول القرآن إن قادة بني إسرائيل كانوا أنبياء .

هيلين، صغيرتي ..

نزلت ساره ـ وهو اﻻسم الذي اختاره جّدك ﻷمك ـ في الشام . بصحبتها إسحاق، شقيق جد العرب إسماعيل .. أنجب إسحاق أنبياء اليهود لنقل : أنبياء الشام - يعقوب، داوود، سليمان، أيوب -أحتاجوا لعشرات اﻷنبياء أما العرب فلم يكونوا بحاجة لكل أولئك اﻷنبياء . عاشوا أحنافاً رائعين منذ إسماعيل حتى جاء النبي محمد . حتى النبي محمد، أروع البشر على اﻹطﻼق، ولد في مكة، في المكان الذي وصل إليه إسماعيل قبل مئات السنين، لكنه جاء في اﻷساس ليصحح فوضى الشام ومصر ، عندما جاء النبي محمد لم يكن في الجزيرة إمبراطوريات، وﻻ مملكات، وﻻ جيوش، وﻻ إقطاعيات . كان هناك فقط أبو سفيان ، ومن غيرالمعقول أن تكون السماء قد صاغت النبي محمد على ذلك النحو الساحر من الجمال والقوة والبهاء فقط لكي يهزم أبا سفيان ، والشيعة تعتقد في تصورها العميق للدين، أن مهمة الرسول محمد كانت كذلك .

التاريخ ساحر .. عشتُ في التاريخ كثيراً، لذلك أشعر أني من أكثر المعمّرين على اﻹطﻼق .. لقد عايشت كل تلك اﻷحداث والحوادث، والخرافات التي عجّت بها الكتب .

لننسَ اﻵن كل هذا ونتحدث عن مصر، عن خالة العرب .. سيسميها العرب : أم الدنيا .

وأنت تكبرين اﻵن ﻻ أدري ما هو مصير جماعة اﻹخوان المسلمين، وﻻ المشاريع اﻹسﻼمية السياسية .

كما عودتك، صغيرتي، سألخص لك السيَر على شكل رياضيات مختصرة .. فيما بعد، عندما تجدين فائضاً من الوقت، سيكون بمقدورك تفكيك هذه الرياضيات إلى نصوص مفتوحة .

في عام 1928 بدأت فكرة اﻹخوان المسلمين تتشكل في رؤوس أربعة أشخاص، ثم استمرت في رأس رجل واحد اسمه حسن البنا . كان حسن البنا ذكياً على نحو ﻻ يصدق، وكان يتمتع بكاريزما تخطف اﻷبصار .. دخلت الجماهير مدفوعة بكبرياء جريحة بسبب اﻻحتﻼل اﻻنجليزي، في مشروع البنّا : اﻹخوان المسلمون .. شكَّل البنا نظاماً عسكرياً موازياً، سيكبر فيما بعد ويتسبب في أول انهيار لحركة اﻹخوان المسلمين .. قُتل البنا في ال 43 من عمره .. كان رجاله مؤمنين بقدراته حد اليقين .. شاب واحد فقط من رجاله كان يركّز عينيه طيلة الوقت على خاصيَّة فريدة في شخصية البنا : الكاريزما .. سيكون اسم هذا الشاب "جمال عبد الناصر " وسيغادر اﻹخوان ليصنع بكاريزميته أكثر اﻷزمنة العربية ضجيجاً وتأثيراً وحيويّة .. سيختلف مع رجال التنظيم حول السلطة والهيمنة، ولن تﻼقي عروضه الرضا الكامل معتمداً على قوة الدولة التي آلت إليه ..سيلقي القبض على قيادة التنظيم، في الوقت الذي سيقاتل فيه إسرائيل وفرنسا وإنجلترا . عاش الرجل أوقاتاً عصيبة للغاية، ومات بجلطة في القلب في سن ال .53 لقد عاش عشر سنوات أطول من البنا، لكنه حقق إنجازات استثنائية، انهزم وانتصر .. وضع الثورة اليمنية والجزائرية والفلسطينية على كتفيه .. كانت مخابراته تحارب في الجزائر وجيشه في صنعاء وإعﻼمه بين اﻷردن وفلسطين، وكانت طائراته تقصف جنوب السعودية وتهدد نوايا حكام بغداد تجاه الكويت ..إلخ .

كان يفعل كل شيء، في كل اﻻتجاهات ، وكان أيضاً يصادر الحرية ويقمع المعارضين ويخلق جمهورية خوف كبيرة في الداخل.

في سجونه انشق اﻹخوان المسلمون إلى تيارين :تيار حسن البنا، وتيار سيد قطب .. سينهزم تيار حسن البنا، تيار الجسور الممدودة واﻷبواب المفتوحة مع كل القوى واﻹثنيات والديانات، وسيستمر تيار سيد قطب، تيار الجيل القرآني و " العزلة الشعورية "

واﻻستعﻼء، كما تقول الثيمات المركزية في تنظيرات قطب .. في السجن أيضاً قررت الجماعة عزل مثقفين إخوان حاولوا إعادة خلق نموذج البنا وفلسفته .

ربما ستسمعين عن عبد السميع، وعن آخرين، اختفوا من مذكرات اﻹخوان إلى اﻷبد .. سيخرج جيل سيد قطب من السجن، وسيكون منهم محمد بديع، ومحمود غزﻻن، ومحمد مهدي عاكف .

سيستمر هذا الجيل في عملية تصفية مستمرة لتيار حسن البنا .. مع تولي محمد بديع قيادة التنظيم بعد مهدي عاكف سيغادر التنظيم، في حدث مدوّ، رجﻼن من أخطر رجاﻻت التنظيم في اﻷربعين عاماً اﻷخيرة : عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد حبيب .. سيسدل التنظيم مؤقتاً الستار على حسن البنا مع خروج الرجلين .

تحدث الثورة المصريّة في 25 يناير .2011 ،ومع نهاية 2011 سيلقي محمد بديع خطاباً يقول فيه : لقد اقتربنا اﻵن من تحقيق حلم حسن البنا في الخﻼفة وأستاذية العالم .. يختارُ لرئاسة مصر رجﻼً طيب القلب، له سحنة أبي ذر الغفاري، سيكون اسمُه محمد مرسي . كان النبي محمد قد منع الوﻻية عن أبي ذر ,وكان أبو ذر رجﻼً طيب القلب، رهيف المشاعر، سريع اﻻنفعال، ﻻيصلح للسياسة، حيثُ تدور المعادﻻت في الممنوع والمحظور، في تلك الشعرة الحادة التي تفصل الفضيلة والرذيلة .. ﻻ أحد يدري لماذا أصر بديع على اختيار مرسي، لكن هناك من يتكهّن بأمور كثيرة على شاكلة أن بديع كان يعيش أجواء الخﻼفة اﻹسﻼمية، وبالنسبة لمصر فقد عهد بها إلى رجل مخلص من رجاله .. فعلى كل حال، فكّر بديع، ستصبح مصر مجرّد ملف كبير في إرشيف مكتب اﻹرشاد، حيثُ عشرات الملفات .. شعر شباب مصر بأنهم غير قادرين على تحديد الرجل الذي يدير بﻼدهم، وأنهم ربما يوجهون اللوم إلى رجل بريء .. خرجوا في مظاهرات مستمرة، مدفوعين بهاجس ثوري مشتعل . اشتبكوا، في حادثة شهيرة، مع شباب التنظيم اﻹخواني وحدثت خسائر كثيرة .. كان ذلك في اﻷيام اﻷولى لمرسي، أو قبل أيامه اﻷولى بقليل . خرج بديع في مؤتمر صحفي ليسرد الخسائر . قال كلمته المشهورة "النباتات، ماذنب النباتات ." مصر، خالة العرب يا هيلين، هي من اخترعت شخصية " قراقوش " ، وكان الفراعنة قبل آﻻف السنين قد منعوا المحاميين المصرين من دخول المحاكم بسبب تندرهم على القضاة .. هكذا أصبحت جملة " النباتات، ما ذنب النباتات " هي أسوأ خاتمة لحلم "أستاذية العالم .." غادر مرسي، الرجل الطيب، ابن البلد، القصور الرئاسية، وبقي المرشد يصرخ في الجماهير : المرشد، ما ذنب المرشد؟

غداً سأستكمل معك الحكاية، هيلين، حبيبتي ..

مشاهدة المزيد