اليمن: البحث عن دولة معاصرة في مجتمع تحكمه القبيلة
بقلم/ نجيب غلاب
نشر منذ: 16 سنة و 4 أشهر و يومين
السبت 15 ديسمبر-كانون الأول 2007 09:07 م

تعيش النخب السياسية اليمنية في الراهن أزمة سياسية حول طبيعة النظام السياسي الذي سيحكم البلاد مستقبلا، فالنخبة الحاكمة تتبنى النظام الرئاسي، والمعارضة تتبنى النظام البرلماني، وهذا الحراك السياسي في الساحة ظهر بعد انهيار التحالفات السابقة التي حكمت الوفاق السابق الذي حفظ للنظام السياسي تماسكه سابقا، وتسعى أطراف الأزمة مستخدمة كل أوراقها المتاحة لإعادة بناء تحالفات جديدة تسهل لها فرض رؤيتها، ونتيجة لذلك برزت تناقضات كثيرة دفعت بعض المراقبين لتوقع انفجار الصراع.

هذه الأزمة التي بلغت ذروتها هذه الأيام ليست جديدة بل هي نتاج لتراكم مشاكل الصراع السياسي في مرحلة التشطير ومرحلة ما بعد الوحدة، ويمكننا فهم الأزمة الحالية من خلال تتبع تاريخ الدولة اليمنية الحديثة وتعامل النخب السياسية معها، فالمتابع لهذا التاريخ سيجد أن الصراع بين النخب المختلفة كان هو الطاغي على التجربة السياسية، وهذه الصراعات المتلاحقة جعلت من الدولة بنية هشة ومعزولة عن محيطها الاجتماعي، وجعلها دولة عاجزة عن القيام بوظائفها، وكل صراع سياسي يدور حولها لا من أجلها.

فالمتابع لتاريخ الدولتين قبل تحقيق الوحدة اليمنية سيجد أنهما في مراحلهما المختلفة تحولتا أداة تتحكم بهما مجموعات شبه منظمة من مراكز القوى، تديرها بمعزل عن مصالح الناس، وهذا جعل الدولة تبدو في الثقافة الشعبية كمؤسسة انتهازية وآلة قهر ونهب هدفها خدمة مصالح القائمين عليها بمعزل عن المجتمع وحاجاته. هذه الوضعية أضعفت الدولة ومنحت القبيلة والمؤسسات الأهلية والحركات السياسية قوة كبيرة في مواجهة الدولة، بل أن بعض الحركات الأصولية في الفترة الأخيرة من حياة الدولة كالحركة الحوثية الشيعية فرضت سيطرتها على أغلب مناطق محافظة صعدة، وكانت تدير أمر المجتمع بطريقتها، وتعاقب من يخرج عن إرادتها، وكانت ترفض أي تدخل للدولة في شؤون الناس في مناطق سيطرتها، وقد واجهت السياسات التي تبنتها الدولة لفرض هيبتها والحد من السيطرة الحوثية بفكر أصولي متطرف مدعوم بالقوة المسلحة، وهذا أدخل الدولة والمجتمع في حالة صراع مدمرة أضرت بكليهما.

هذه الوضعية التي تحاول الدولة راهنا التحرر منها، هي نتاج للوعي القبلي المهيمن على ثقافة المجتمع اليمني، فموقف المجتمع السلبي من الدولة أمر طبيعي في اليمن، بحكم التركيبة القبلية للمجتمع والظروف التاريخية التي عاشها، فالدولة ولفترات تاريخية طويلة كانت غير موجودة أو ضعيفة وفي الغالب كان المجتمع يدير أموره ذاتياً.

فالدولة الحديثة التي نشأت في الجنوب اليمني بعد الاستقلال، عمقت من إشكالية الدولة في الثقافة المجتمعية، فالنخب الحديثة اليسارية التي كوّنت الدولة، حولتها إلى بنية معزولة عن السياق الثقافي والتاريخي للمجتمع، فالرؤية الفلسفية التي أسست للدولة كانت متناقضة كليا مع طبيعة المجتمع، ولأنها اتخذت من الدولة أداة للتغيير فان القهر أصبح طريقها لإعادة صياغة المجتمع، فتم تشويه دور الدولة حيث تحولت إلى قوة قاهرة للمجتمع ونتيجة عجزها تحولت إلى أداة خادمة لمصالح القوى المسيطرة ونتيجة صراعها على الدولة فقد لجأت إلى قوة القبيلة أو المنطقة أو الطائفة لإدارة صراعاتها، بعد أن انسحب المجتمع إلى الولاء الاثني كأمر طبيعي ليحمي نفسه من عنف الدولة، وهكذا أصبحت الدولة في الجنوب في حقيقتها معبرة عن النخب المهيمنة عليها، وعن حاجة خارجية في ظل الحرب الباردة.

أما الدولة في الشمال التي قامت على أنقاض دولة الأئمة الزيود فقد حاولت جاهدة ان تؤسس شرعيتها على فلسفة قريبة من ثقافة المجتمع، ولكن ورطتها أنها حاولت فرض إرادتها على المجتمع الذي ظل معزولا عن دولة الأئمة، فالدولة الزيدية حكمتها نخبة تستند في شرعيتها إلى أساس عرقي ومذهبي، وغالباً ما كانت النخب المتصارعة على حكم الدولة توظف المجتمع في فترات الصراع، لينعزل كليا بعد حسم الصراع لصالح أحد الأئمة، وما كان يربط المجتمع بدولة الأئمة الزيود هو جباية الأموال لصالح النخبة. وما عمق من إشكالية الدولة الحديثة في الشمال ان القوى العصرية التي أسست لها بعد إزالة حكم الأئمة حاولت ان تُدخل النخبة القبلية في منظومة الحكم بهدف تحويل المشايخ إلى أداة تسهل للدولة اختراق المجتمع، إلا ان النخبة القبلية بحكم هيمنة وعيها القبلي الذي يرى في الدولة محلا للغنيمة، وظفت الدولة لخدمة مصالحها وعزلت القبيلة عن الدولة في الوقت نفسه، واستطاعت النخب القبلية أن توظف القبيلة ووعيها العصبوي للضغط على القوى الحديثة لقبول مشاركتها في الحكم، ومع تزايد النفوذ والثروة لدى المشايخ تحولت النخبة المشائخية إلى قوة رادعة للدولة في محاولاتها الجادة لتغيير المجتمع، بل ان النخب القبلية حولت أفراد القبيلة إلى قوة طاغية لمواجهة الأفكار الحديثة الباحثة عن دولة معاصرة، وما زاد الطين بلة هو فشل القوى الحديثة في مواجهة الثقافة التقليدية فأصبحت تبحث عن شرعية وجودها بالاستناد إلى الطائفة أو المنطقة أو العرق.

كانت الوحدة هي الأمل الذي راهنت عليه القوى الحديثة في الشمال والجنوب لبناء دولة معاصرة، لذا فقد تم ربط الدولة الجديدة بالديمقراطية، إلا ان الصراع على السلطة والثروة في بلد موارده محدودة والدولة هي الحاضن لأغلب الفئات المتعلمة والطامحة في المجتمع، ولد صراعا عنيفا بين القوى المتنافسة، ولعبت قيم الوعي القبلي مرة أخرى دورا بارزا في الصراع، رغم الشعارات العصرية التي غلفت الخطاب السياسي.

انتهى الصراع داخل دولة الوحدة بين النخب بحرب أهلية، وبعد تغلب النخبة التي ارتبطت مصالحها بالوحدة وهي في أغلبها تنتمي لشمال اليمن، ظلت إشكالية الدولة كما هي بل أنها تعمقت خصوصا بعد أن بدأت القوى المنهزمة في الحرب تدير صراعها مع الحاكم استنادا إلى مطالب وآليات محكومة بالانتماء الجغرافي، وفي المقابل فان القوى الوحدوية في الحكم والمعارضة رغم محاولاتها الجادة لبناء الدولة إلا أن سلوكها في جوهره ظل محكوما بوعي القبيلة الذي يتعامل مع الدولة كغنيمة.

والمتتبع للوضع اليمني الراهن سيجد ان الدولة في فكر وأطروحات القوى السياسية والمجتمعية لم تترسخ بعد كقيمة تعبر عن المجموع والمصالح العامة، بل يتم فهم الدولة بالوعي المجتمعي التقليدي الذي يراها كقوة جالبة للنفوذ والثراء والهيبة، فهي مجرد غنيمة يستولي عليها من يمسك بزمامها. وفي الراهن تشكل المسألة الجنوبية من المخاطر التي تهدد دولة الوحدة، وهي في مضمونها تعبير عن هيمنة وعي القبيلة وثقافة الغنيمة على الحراك السياسي، حيث يتم التعبير عنها من خلال حركات الاحتجاج الفوضوية الكارهة للدولة، والتي تطالب بفك عرى العلاقة الراهنة لصالح علاقة مؤسسة على شرعية جغرافية جهوية مخلوطة بنزعة مذهبية.

فالخطاب السياسي المعبر عن المسألة الجنوبية، لا يبحث عن دولة حديثة محكومة بالنظام والقانون كما هو مطروح في شعاراته النضالية، ولكنه خطاب يبحث عن الغنيمة باسم الجنوب ويبني مفرداته على تحليلات تؤسس للكراهية بين أبناء الشعب في الشمال والجنوب، وقد برز خطاب المسألة الجنوبية بقوة بعد أن أصبح نفط الجنوب هو المغذي الأساسي لدولة الوحدة.

والخطر الآخر المهدد للدولة الحديثة يتركز في الشمال حيث تشكل التحالفات القبلية الجديدة التي يتم بناؤها من قبل زعماء قبليين دليلا آخر على هيمنة وعي القبيلة على المجتمع في تعامله مع الصراعات السياسية، بعض هذه التحالفات برزت بعد أن اتجهت النخبة الحاكمة إلى فك تحالفاتها السابقة مع بعض زعماء القبائل، فعملت النخب القبلية المتضررة على بناء تحالفات معارضة هدفها بناء قوة ذاتية تدعمها في مواجهة النخبة الحاكمة ولتقوية مراكزها السلطوية والمالية، وفي المقابل دعمت النخبة الحاكمة تحالفات قبلية مضادة للأولى والتي عقدت مؤتمرها باشراف الدولة، وأعلنت التحالفات الموالية نفسها كممثل للقبائل اليمنية.

والمتابع لخطاب كل الأطراف في صراعها من أجل الغنيمة سيجد أن الجميع يرفع شعارات تنادي بدولة يمنية معاصرة، وهذا ما يجعلنا نتفاءل أن الأزمة الراهنة إذا أفرزت تحالفات شبه متساوية في قوتها فان مصالحهم لن تتحقق إلا ببناء الدولة الحديثة لأن تفجر الصراع سيجعل الجميع خاسرين.

* كاتب يمني

* الشرق الأوسط