إرهاب المنابر
بقلم/ فؤاد الحميدي
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 13 يوماً
الأربعاء 14 يوليو-تموز 2010 04:52 م

ما إن تحل عليك يوم الجمعة إلا وتجدك تسابق عجلة الزمن لتتخذ بعض التدابير الوقائية فتتنفس بعمق لتملأ رئتيك أوكسجيناً نقيا ًًلن يلبث أن يحترق عند أول شهقة وان تكثر من شرب ماء بارد لن يفتأ حتى يتصبب عرقا حارا غزيرا . عليك أن تعتمر خوذة شجاعتك وان تتمنطق رباطة جأشك فأنت مقبل على معركة لن تسمع فيها سوى دوي مدافع الاتهامات وهدير قنابل التشهير وزمجرات التهديد والوعيد .. عليك أن تظل ساكنا ثابتا حتى يعلن قائد المعركة اعني خطيب الجمعة نهاية الخطبة (المعركة).

في كل جمعة يمتشق بعض الدعاة أو بعض خطباء المساجد سيف لسانهم المصلت ويبدأون بالزعيق والصراخ وإطلاق الاتهامات على هذا وإخراج ذاك من الملة وتكفير هذا وتخوين ذاك وكأنما هم الحامون والمحامون الأوحدون لهذا الدين في هذا البلد المسكين.البعض يخصص سلسلة متتالية من خطبه لعذاب القبر وآخر لعذاب النار وآخر يشهر بشخصية ما أو مؤسسة ما أو صحيفة ما.

أحدهم وهو أحد خطباء تعز من إخواننا السلف اكتشف اكتشافا عجيباً يستأهل عليه جائزة نوبل واكتشافه الرائع هذا هو أن مصدر بلاء وشقاء وتخلف وتشرذم ومأساة هذه الأمة هو (النساء) فمهما كان موضوع خطبته لابد أن يعرج على ذكر شر فتنة النساء فيكبر زعيقه وتحمر عينه وتنتفخ أوداجه وهو يحذر جموع المصلين عن مغبة السماح لنسائهم وبناتهم بالخروج من بيوتهن وعدم التسريع في زواجهن خشية أن يكون خروجهن أو عدم تسريع زواجهن صغيرات سببا رئيسيا بل أساسيا للقضاء على ما تبقى من شرف المجتمع وخيرية هذه الأمة.

خطيب آخر من خطباء صنعاء المشهورين يذكرك صراخه بأبطال المصارعة الحرة ولا تكاد تخلو خطبة من خطبه من مد أصابع الاتهام ومد لسانه السليط على احدهم ومؤخراً خصص أكثر من حلقة اقصد أكثر من خطبه لقضية أثارت جدلا واسعا قبل فترة ليست بالبعيده ألا وهي قضية تحديد سن زواج الصغيرات فانبرى يدافع ويهاجم باستماتة عجيبة ويهدر ويزمجر ويهدد ويتوعد كل من يدعو إلى تحديد سن زواج الصغيرات متهماً إياهم بالعمالة للغرب ومنظماته التنصيرية وواصفا لهم بالسطحية الفكرية والعقول المستأجرة وناقضي عرى الدين وكأن هذه القضية هي قضية حتمية مصيرية تثلم الدين وتقوض عروته المتين .

ما إن تتم الخطبة حتى لا تجدك تقوى أن تقف على قدميك لتأدية صلاة الجمعة كيف لا وقد اخذ منك التعب والإعياء مداه فأنت مشدود لمعركة الخطيب وبين آونة وأخرى تخاف أن ينزل إليك من منبره ليأخذ بك من ياقة قميصك ويشد شعر رأسك ويركلك على قفاك بمبرر الخوف عليك أن تحيد بك الطريق وتلحق بركب المرجفين والناعقين ومفلسي الفكر والدين.

ما أعجب هؤلاء الذين يدعون أنفسهم بالعلماء وهم لا يملكون حكمة العالم وحنكته وحلمه وتبصره وأناته وحسن تقديره للأمور وأدبيات تعامله مع موافقيه ومخالفيه سواءا من سابقيه أو مجايليه .. لماذا أصبح منبر المسجد منبر من لا منبر له سوى الشتم وترسيخ ثقافة الإقصاء والكراهية والعنف ؟.. لماذا لا يكون عليك أن تنفض غبار أسبوع من العمل المرهق والتعب المضني لتحضى بلحظات إيمانية تحفك فيه السكينة في بيت الله لتتحول هذه السكينة إلى (سكينة) – بتشديد الكاف- تتراقص أمام عينيك لتملأك بالفزع والرهاب .. بل لماذا أصبح الناس يتزاحمون ويتدافعون كلما سمعوا بخطيب جهوري الصوت سليط اللسان يشتم ويسخط ويرعد ويزبد ؟.. هل استمرأنا صخب الحياة وضجيجها حتى وان أتت من قبل منبر المسجد؟

 الم يكفنا ما نراه ونسمعه ونعانيه من خلافات ومهاترات وخصومات ضج بها رحيب ساحاتنا لننقلها ونتلذذ بسماعها من منبر يفترض به بلسمة الجراح عوضا عن تعميقه وبث ثقافة الحب بدلا عن تأصيل ثقافة الكراهية.

هاأنا منذ نعومة أظافري ونعومة أظافركم أيها الأحباب الكرام ونحن نسمع هؤلاء ينفسون عن منطقهم الاقصائي وهم يدعون من منابرهم على أمريكا وإسرائيل وأعوانهما بالويل والثبور وعظايم الأمور وان يجعلهم الله هم وأبنائهم ونسائهم غنيمة للمسلمين , لكننا لا نرى إلا أنهم كل يوم يقطعون أشواطا في التقدم والرقي ولم يصب الويل والثبور إلا نحن ولم تحق عظايم الأمور إلا بأمتنا التي منيت بأمثال هؤلاء المتحذلقين الذين لا ينظرون ابعد من أنوفهم ولا يملكون مشروعاً حضارياً ما من شأنه أن يرقع خرقا اتسع على الراقع وان يردم فجوة حضارية يتسع مداها كل يوم.

فيا أصحاب المنابر إن سجعكم وجناسكم لن تفيد أمتكم وأهلكم وناسكم .. الأمة لا تنتظر صراخكم وعويلكم ..الأمة تنتظر عقلا يفكر ويدا تعمر .. الأمة بحاجة إلى صوت الحكمة لا سيف الحقد والنقمة ..

 نعم فالأمة لم تنتكس إلا عندما غدا الدين ظاهرة صوتية (سوطية) بعيداً عن احترام العقل وإجلال العلم وتقديس العمل وبهذا قدم أصحاب العقول الضيقة والنظرة القاصرة خدمة جليلة للاستبداد والمستبدين في مختلف العصور كون الأخير يقتات- لضمان بقائه- افتعال الأزمات وإهدار الطاقات في التعارك والتناحر والخصومات عوضا عن توظيفها لبناء ونهضة ورقي الشعوب كما أنهم قدموا خدمة جليلة أخرى لأعداء الأمة للتدليل على تخلفنا وتبنينا لمنطق العنف وافتقارنا للتسامح ليكون مبررا لاستعدائنا وضربنا.

فاتقوا الله فينا يا أصحاب المنابر فإن تجريم وتخوين وتكفير الآخر وصب زيت الفتنة لإشعال الحقد ولو بدافع الغيرة على الدين إنما يؤسس لمستقبل أكثر سخونة وأكثر تخلفا وأكثر عنفا ولن يزيد أزماتنا المتراكمة إلا سوءا وأوضاعنا الآسنة إلا ترديا.