عودة راسبوتين (الراهب الشيطان)
بقلم/ محمد أحمد الوريث
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 18 يوماً
الإثنين 27 ديسمبر-كانون الأول 2010 11:01 م

هكذا حكت كتب التاريخ قديماً عن الراهب الروسي راسبوتين أنه الشيطان, وراسبوتين كلمة روسية تعني "الفاجر"، وفي التاريخ على الدوام دروس معتبرة يتتلمذ بين يديها حاضرنا والمستقبل أيضا..

عاش رجل الرب راسبوتين في إحدى قرى سيبيريا في منتصف القرن التاسع عشر حتى الثلاثين من عمره وعرف بالمجون والفسق والسرقة, ولكنه تسلق على أكتاف غباء الناس بعد اتصاله بالكنيسة وإيهام الناس بقدراته الخارقة في الطب والتنجيم حتى صار بعد ذلك أهم قساوسة الكنسية في روسيا ينقاد وراءه قطيع الناس والحكام؛ خوفاً من لعنته الشهيرة.

والدخول إلى عقول الناس والتحكم بها عبر بوابة الدين أقصر الطرق للوصول وأكثرها جدوى، فإذا قال رجل الدين كلمته ينكحها الناس لصدقها وجمالها وعبقريتها وشرعنتها بواسطة الله، فكلام رجال الدين دستور سماوي مجرد التشكيك فيه قد يفضي إلى الرجم، ولهذا تنقاد الأمم وراء رجالات دينهم طائعين كانوا أو مجبرين على الطاعة.

واليوم عدنا بكل جاهليتنا وجهلاً إلى عصر راسبوتين الذهبي، ننهج المذهب الراسبوتيني زمراً وأفراد, متعلمون وجهلة, شعوباً وساسة, والمدهش حقاً في الأمر انه رغم مواهبنا الخارقة في الاختلاف حتى ولو كنا نختلف على أفضلية البرشا في الدوري الأسباني إلا أننا نصل إلى فتوى الشيخ الفلاني لنقول بأنها غير قابلة حتى للنقاش, فالعلماء ورثة الأنبياء وأعلم الناس بالدين وأقدرنا على معرفة الصواب, فعقولهم من ذهب وعقولنا من طين، وحتى لو كانت الفتوى هذه من عينة – تحريم الخلوة في الماسنجر أو تجريم العاملين في السياحة – فكل شيء يصلنا من جهابذة الأمة ومصابيح هداها أمر محسوم مسبقاً, وحتى الظن في فحواه أثم عظيم يبدأ بالتكفير وينتهي بالصلب.

والإنسان ذكي بالفطرة، استطاع, وبجدارة, تطويع قابلية الاستماع عند الناس لرجال الدين بمهارة، ومن هذه الفكرة العبقرية ظهرت الجيوش الملتحية أحياناً من إبداع ذاتي وأحيان أخرى تهندسها أيادي السلطة والمال والنفوذ لترسيخ بقائها وولاء الناس لها, وعاد الشيطان مرة أخرى يحكمنا باسم الدين ويجلدنا إذا خالفنا أيضا باسم الدين ويشنق عقولنا شيئاً فشيئاً في حبال الجاهلية والعمى، فأنعم الله اليوم علينا بشيوخ الديمقراطية والاعتدال والطرق السلمية وشيوخ القنوات الفضائية حتى شيوخ الأس أم أس والتيك أوي.

ولحوم العلماء مسمومة – وأنا لست إلا زنديقاً أحمق – سولت لي نفسي - ذات الضعف والأمر بالسوء – أن أقول لكل شيوخنا المعصومين حفظهم الله أن لي عقلا أبدعه الله في رأسي يفتيني في بعض الأمر، وأني أكبر مخطئ في هذا العالم لكن حاشا أن يكون الدين معلباً وراء العمائم فالدين المسؤولية والدين المعاملة والدين العقل والدين يكفي لأن يحوينا جميعاً في طياته ويحمل في جوهره كل علامات الإرشاد إلى الحق ومنفعة الناس دون وصاية.

ولو كانت شعوبنا تدرك قيمة العقل وقيم التعاطي معه ما كنا اليوم نعيش أكبر أزمة أخلاقية في عالمنا الإسلامي رغم التيارات الجارفة الإسلامية بشتى طوائفها وثورات التحزب والمذهبة، كما أنه لا يزال وبشهادة الجميع منابر معتدلة وحقانية تعرف حساسية مركزها وصوتها في المجتمعات إلا أنها مع الأسف الشديد ضاعت في زحمة اللغو وفقد الناس حس البحث عن الصواب مكتفيين بما يصلهم بالدليفري إلى المنازل رغم أن الجميع يعرف أن الفتاوى والشهادات التي توزع إلى المنازل حتماً ممولة ومدعومة من جهات يعلم الله وحده نواياها.

وكترتيب منطقي لتسلسل الأحداث صار من الصعب والمرهق جداً الآن معرفة المصادر الموثوقة من غير الموثوقة والمأجورة من غيرها في ظل تسونامي من التحديثات غير المرخصة التي يتم إلحاقها بالإسلام تحت حجج ومبررات غريبة, مثل إضفاء طابع العصرية على الدين أو تسييس المواد الشرعية لأغراض شخصية بطرق لائقة.

نتساءل فقط: لماذا لا يرجع الناس إلى الاحتكام إلى عقولهم كمرجعية للتفريق بين الباطل من الحق والشرعي من المكذوب في محاولة لخلق جو من التوازن في مجتمعات يكاد التعصب الديني أن يمزقها؟, ونتساءل أيضا بلهجة أكثر حدة: متى ستتدخل وسائل الإعلام في لعب الدور المتوقع منها والمنوط بتصحيح المسارات المتطرفة؟ والتساؤل شيء لطيف طالما أنه لا يهدد المصالح ولا يغير من الواقع شيئا, ويندرج تحت سقف "حرية الصراخ " عمال على بطال.

يحكي التاريخ في آخر سطر من قصة راسبوتين بأنه دس له السم ثم ضرب بالرصاص ثم بالهراوات وتم تقييده ورميت جثته في نهر، وفي وقت لاحق أثناء الثورة البلشفية أخُرجت جثة الراهب الشيطان وأحرقت، وفي التاريخ دروس معتبرة يتتلمذ فيها حاضرنا والمستقبل أيضا.

Mo.alwarith@gmail.com