|
لو كان المفكر والمؤرخ العظيم علي الوردي رحمه الله حياً ربما أضاف لفكرته التي يرى فيها أن الزمن امتداد في الفضاءً لا يمشي بنفسه بل تحقق الأمم والحضارات حظها في تسجيل نقاط على خطه الواقف بحسب جهدها نحو النمو والتقدم والحضارة، ربما أضاف لرؤيته بعداً آخر لتلك الحكومات التي تغيب الحقوق وتصادر الحريات وتمنع الكرامة وتبخس العدل ليثبتوا ليس نقطة متخلفة على خط الزمن فقط بل سيقذف بهم خارج الزمان تماماً كما قذفوا بشعوبهم خارج المفهوم العالمي للإنسان الحر الكريم.
وبتوالي القهر الإنساني لحكومات مارست الطغيان ضد شعبها كان ظلم المرأة امتداداً وسمة خاصة مصطبغة لكل حركات القمع والظلم والقهر والعدوان، فكما أن العدل لايجزأ كذلك الظلم أيضاً يعم، وما إن بصم الظلم بذرته الأولى ضد المرأة حتى استشرى وانتشر في الرجال والنساء، فالظلم أيضا لايميز بين امرأة ورجل، فمتى أّقِرّ عمّ الجميع بقبحه ولعنته.
ونظراً لأن الانتقال من حالة التوحش إلى قيام الحضارة يتطلب القضاء على البذرة الأولى لانحطاط ميزان العدل بين الرجل والمرأة، اعتنت الشعوب المتمدنة بالأمر،فتجاوزت العنصرية، وراعت رأب الصدع في العلاقة الكونية بين الرجل والمرأة فتقدمت وازدهرت وأنجزت وتفوقت في الميادين الإنسانية والعلمية والتكنولوجية والحضارية، وأصبح اليوم أحد المقاييس الراهنة الصادقة والفيصل للحكم على تقدم أو تخلف الشعوب يقاس بمدى التقدم العلاقاتي بين الرجل والمرأة وتحقيق التوازن والتكافؤ بينهما على أرض الواقع، فيأتي النتاج ملموساً بالإنجاز والإبداع والابتكار والتوقعات المستقبلية الناهضة.
ولعل ميزان العدل يضعنا أمام واقع الممارسات الوحشية الإرهابية لبعض حكام الدول العربية تجاه ثورة شعوبها العادلة الطامحة للكرامة والناشدة للحرية والديمقراطية، كما ان انتشار آلة القمع والحرب والبطش وتقييد الحريات وحبس الكرامة في بوتقة الحسابات السلطوية ماهو إلا انطلاق مقيت تمخض عن التشوه العدلي للعلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة فعم وطم ببطشه وشره الكافة، وما هذه الثورات إلا بداية للتصحيح، فالأحزاب الإسلامية تقدم اليوم أهم شروط تنازلاتها الجندرية معلنة التقدم بملف المرأة نحو الإصلاح لأجل قبول حزبهم، وهو مايحمل اعترافاً ضمنياً للعنصرية والاستبداد التي اختزلتها تلك الجماعات ضد المرأة وحقوقها قروناً مديدة.
لكن العالم المتمدن اليوم تعدى فضل العدل في مجتمعه وأخذ يعالج ميزان الأنسنة للشعوب المقهورة المقموعة مسجلاً في ميزان الزمن "الوردي" مسافات فاصلة واسعة تجعل المقارنة بينه وبين العالم المتخلف تفيض بالأسى والحسرة لكنها في الوقت ذاته تطمئن باتجاه سيادي عالمي يضع بحساباته قيمة الإنسان هدفاً أولياً لإنقاذ شعوب من آلة القمع والفساد، ويبشرهم بولادة عالم جديد يحظى الإنسان فيه بالقيمة الأسمى متجاوزاً مظاهر الطمع والأنانية والمصالح الذاتية للطغاة والمستبدين.
وفي هذا المضمار الإنساني العالمي العظيم منحت لجنة نوبل للسلام جائزتها لثلاث نساء تكريماً لجهودهن وكفاحهن السلمي من أجل سلامة المرأة وحقوقها في المشاركة الكاملة في جهود تحقيق السلام، وقد شاركت توكل كرمان جائزة نوبل للسلام مع الليبيريتين الرئيسة ألين جونسون سيرليف والناشطة ليما غبووي آن. يتحدث بإيمان رئيس لجنة نوبل ثوربجورن جاغلاند عند إعلانه أسماء الفائزات "ليس بإمكاننا تحقيق الديمقراطية والسلام الدائم في العالم ما لم تحصل النساء على فرص متساوية للتأثير على التطورات في المجتمع في جميع المستويات". ويخاطب الفائزات الثلاث قائلاً:"إنكن تمثلن واحدة من أهم القوى المحركة للتغيير في العالم اليوم..النضال من أجل حقوق الإنسان بصورة عامة ونضال النساء من أجل المساواة والسلام بوجه خاص"
وكأول امرأة عربية تحظى بهذا التكريم وتمنح هذه الثقة الدولية العامة، تسلمت الناشطة الحقوقية توكل كرمان عضو مجلس الشورى بالتجمع اليمني للإصلاح جائزة نوبل للسلام للعام 2011 تكريما لجهودها الكبيرة في نضالها السلمي والمساهمة في بناء يمن جديد يحفظ لليمن أمنه واستقراره ولشعبه حياة كريمة وآمنة، وجاء هذا الفوز والإنجاز التاريخي مكسباً للثورة اليمنية السلمية وللمرأة اليمنية المناضلة والواعية القادرة على صنع النجاح رغم عوائق التخلف وموروثات الاستبداد التي حالت بين شعب اليمن وبين الإبداع لعقود من الزمن.
تميزت توكل بالإضافة لنشاطها الحقوقي بذكائها في فهم الخطابات المتخبطة لعلي صالح وتفسيرها كالتي دعا فيها إلى منع "الاختلاط في الاعتصامات "أدعوهم إلى منع الاختلاط في شارع الجامعة الذي لا يقره الشرع".فعلقت قائلة "أخيراً كشف صالح للعالم عن وجهه الحقيقي وكراهيته للنساء.. النساء حكمن اليمن على مدى تاريخه، بدءاً من الملكة بلقيس إلى الملكة أروى، وهذا يفسر محاولاته قمع النساء على مدى 33 عاماً هي فترة توليه السلطة".
لقد جاء خطاب الناشطة اليمنية توكل في حفل جائزة نوبل للسلام عظيماً حكيماً، تحدثت فيه عن حلم ألفرد نوبل بالسلام وقيمة جائزته "لقد ظلت الجائزة منذ أكثر من 100 عام تبرهن على قيمة النضال السلمي من أجل الحق، على قيمة النضال السلمي من أجل العدل، على قيمة النضال السلمي من أجل الحرية، وعلى خطأ العنف والحرب ونتائجهما الحربية المدمرة، لقد آمنت دائماً أن مقاومة العنف والقمع ممكنة دون الركون إلى قمع وعنف مشابهين، كما آمنت دائماً أن الحضارة الإنسانية هي ثمرة لجهد النساء والرجال معاً، ومتى غبنت المرأة ومنعت حقها الطبيعي في هذه العملية تكشفت عورات المجتمع وبانت علله الحضارية بما يتأذى منه في نهاية الأمر المجتمع كله بنسائه ورجاله"
بينت توكل أن تأييد السلام ونبذ العنف هو جوهر الرسالات السماوية جميعها" جاءت التوراة تحمل رسالة لا تقتل، والإنجيل يبشر طوبى لصانعي السلام، وجاء الإسلام يحض"ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" ويحذر بأن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً"
وتمتزج الثقة في خطابها بالمسؤولية الإنسانية كقائد لعولمة إنسانية شاملة "يمكن القول إن عالمنا المعاصر الذي صقلته وأنضجته خبراته وتجاربه الطويلة بحلوها ومرها يسير بخطىً متئدة وواثقة نحو صياغة عالم جديد وعولمة مشرقة،عالم إيجابي ذي آفاق إنسانية وعولمة تحقق للبشرية قيم الحرية والحق والعدالة والتعاون، عالم تقوم علاقاته وتعاملاته وشرائعه على نفي وتجريم كل مظاهر وممارسات استبعاد واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وعولمة لا مكان فيها لسياسات الظلم والقهر والتمييز والطغيان، عالم مفعم بالشراكة والتعاون والحوار والتعايش والقبول بالآخر، وعولمة تزول في ظلها وتنتهي إلى الأبد كل حالت اللجوء والاحتكام إلى شريعة القوة وجبروتها في إخضاع الجماعات والشعوب والمجتمعات والأمم واستلاب حرياتهم وكرامتهم الإنسانية"
وكما وازنت بضرورة السلام بين الدول إلا أن أصعب الحروب مرارة تراها"حرب القادة المستبدين على شعوبهم، حرب من استأمنتهم الشعوب على مصيرها فخانوا الأمانة، حرب من وكلتهم شعوبهم على أمنها فوجهوا إليها سلاحهم، وهي الحرب التي تواجهها الشعوب في الدول العربية اليوم، إن السلام لا يعني مجرد توقف الحرب إنما يعني أيضاً توقف القمع والظلم في منطقتنا العربية"
ثم تحدثت عن الواجب المقدس لنصرة المظلومين"إن كافة الأفكار والمعتقدات والشرائع والقوانين والمواثيق التي أنتجتها مسيرة الإنسانية، وكذا كل الرسالات والديانات الإلهية توجب الانتصار للمظلومين شعوباً كانوا أو جماعات أو أفرادا، ونصرة المظلوم لا تقتضيها فقط حاجته للمناصرة ولكن لأن الظلم ضد الواحد ظلم للبشرية جمعاء".
تطالب توكل الحكومات العربية بالوعي بفن الانسجام للتعامل مع شعوبها:
"إن ماوعاه مارتن لوثر كنج فن عيش الانسجام هو أهم فن نحتاج إتقانه لكي تسهم الدول العربية في هذا الفن الإنساني فإن المصالحة مع شعوبها أضحت أمراً لازماً،..فالديكتاتور الذي يقتل شعبه لايمثل حالة انتهاك لذلك الشعب وسلمه الأهلي فحسب بل هو حالة انتهاك لقيم الإنسانية ومواثيقها...، لقد عانت شعوب كثيرة ومنها الشعوب العربية رغم أنها لم تكن في حالة حرب كما أنها لم تكن في حالة سلام أيضاً، لأن السلام الذي كانت تعيشه هو سلام المقابر الزائف هو سلام الخضوع للاستبداد والفساد الذي يستنزف الشعوب ويقتل الأمل في المستقبل"
وببلاغة تتجاوز اللفظ إلى المقابلة بين العدل في قمته والظلم في أبعد مداه ساقت التضاد في مقطع موجز يختزل عالمي الاحتفاء بالإنسان والبطش بالإنسان:
"عندما بلغني خبر حصولي على جائزة نوبل للسلام كنت في خيمتي في ساحة التغيير في صنعاء واحدة من الملايين من شباب الثورة قد تأملت وقتها في المفارقة بين معاني السلام المحتفى به من قبل نوبل ومأساة العدوان الذي يشنه علي عبدالله صالح ضد قوى التغيير السلمي بلا هوادة، ولم يخفف من وقع المفارقة الفادحة إلا فرحنا بأننا في الجانب الصحيح من التاريخ"
ثم أكدت وباستفاضة على سلمية ولا عنف الثورة اليمنية" نؤكد أن ثورتنا شبابية شعبية سلمية تحركها قضية عادلة ومطالب مشروعة تنسجم تماماً وتتطابق مع كافة الشرائع السماوية وعهود ومواثيق حقوق الإنسان الدولية، وهي عازمة ومصممة على صناعة التغيير الشامل للأوضاع الفاسدة وضمان العيش في ظل حياة حرة كريمة مهما كلفها ذلك من تضحيات جسيمة ومعاناة مريرة..."
واختتمت خطابها العظيم بحكمته وسداده متوجهة للنساء بالشكر والعرفان"إني أرى خلقاً عظيماً من النساء ماكان لي أن أصل هنا دون نضالاتهن وسعيهن الدؤوب لنيل حقوقهن في مجتمع غلبت عليه سطوة الرجال وكانت سطوة فيها ظلم لهم ولهن، فللنساء اللواتي غيبهن التاريخ وغيبتهن قسوة النظم واللواتي ضحين من أجل مجتمع معافى تصح فيه علاقة الرجل بالمرأة علاقة الرجال بالنساء، وللواتي لايزلن يتعثرن في طريق الحرية في أوطان لم تتحقق فيها العدالة الاجتماعية ولم تتساو فيها الفرص، لكل هؤلاء جميعاً أقول شكراً لكنّ.."
تثبت أرض سبأ وحضارة سبأ في مشرق اليمن بأن منطقة مأرب شهدت حضارة سبئية راقية في القرن العاشر قبل الميلاد، القرن الذي عاش فيه النبي سليمان عليه السلام، ووردت قصة ملكتها العظيمة بلقيس في القرآن الكريم، وبقيت حية في موروث أهل اليمن أكثر من غيرهم ورمزاً تاريخياً لحضارتهم القديمة، وهاهي مملكة سبأ اليوم تنتج امرأة مناضلة عظيمة قدمت الصورة المشرقة لشباب اليمن بكل ثقة واقتدار، إنه فعل الحضارة يخفت لكنه يعاود الإنتاج في مدارات فضاء الزمان والمكان الرحبة ليرد ظلم اليوم بحضارة الأمس، متقداً بشعلة النهوض والعودة للحضارة بلون وشكل ورداء آخر، رداء العصر الحديث والمواثيق الإنسانية المعاصرة، فأهلاً وسهلاً بصانعة حضارة اليمن الجديد بلقيس الجديدة"توكل كرمان".
*كاتبة سعودية
*نقلاً عن الرياضفي الجمعة 16 ديسمبر-كانون الأول 2011 05:05:24 م