جراح لم تندمل
هائل سعيد الصرمي
هائل سعيد الصرمي

ما إن وصلتُ مشارف ربوعها حتى انتعشتْ روحي من جديد, كأن لم يكن بي وعثاءُ سفر, ولا إجهاد سهر, بهرتني بسحر أضوائها الزاهية , وشوارعها الباهية, وهدوئها الباعث على الطمأنينة والسكينة., كانت مستلقية وصدر البحر يحتضنها من جهة الغرب و ذراعيه تمتد إلى شمالها وجنوبها فكأنه يضمها إلى صدره!! ..

اتجهتُ غربا نحو البحر طالبا منزلا مطلا على شطه الفينان... لصديق كريم أوقفها لتكون منتجعا لضيوفه, ومتنزها لأصدقائه الوافدين من مدنٍ أخرى.. كان المنزل فارغا عندما وصلته , إلا من حارس نظر إلى وجهي متفحصا فلمَّا عرفني ابتسم وتهلل وجهه وبادرني بالعناق الحار وأخذ أمتعتي وصعد بي نحو غرفة كأنها من جنان الخلد , مزودة بكل ما يبعث على الراحة , والمتعة , من تكييف بارد, وفُرُشٍ ناعمة , وبطائن وثيرة !.

سألته عن حاله , وشكرته على حفاوته وكرم استقباله , ابتسم ابتسامة دلتْ على انبساطه وسروره , ثم قال: وهو يضع أغراضي على منضدةٍ قريبة منه , هذا واجبي وأنت صديقٌ مقربٌ لمحمد, و قد أوصانا بك مراراً , فهذا منزلك في أي وقت تشاء ولك أن تحط رحلك فيه كلما وصلت هذه المدينة.

ــ وأين محمد؟

 ـ مسافر خارج الوطن .

ـ كم أنا مشتاق إليه..

 ــ سأدعك تستريح , وإذا احتجت شيئاً , أرفع سماعة الهاتف واضغط هذا الزر وأشار بأصبعه عليه .

ـ فهززت رأسي بالموافقة وقلت له تصبح على خير.

ـ تناول الباب على استحياءٍ وانصرف بهدوء.

 خلعتُ ملابسي وتخففتُ من حملٍ كان يثقلني رغم خفتهَ ؛ فقد شعرتُ بشيء يجذبني نحو السرير كما تجذب الأرض الشهب عند تفلُّتِها من زمام مدارها المتزن.

ألقيتُ بنفسي دون مبالاةٍ فيه, وما إن استرحتُ قليلا, حتى استنهضني فجأة نور عجيب ساطع لم أشاهد مثله في حياتي شعرت وكأني أطير سابحا في فضائه كان مدهشا عندما مرَّ بنوافذ الغرفة المطلة على البحر وقد تلألأ وأضاء كل مكان كالبرق عند كثافة الغيم وقبل نزول المطر, ولا غيم ولا مطر , فنحن في بداية الصيف , إذاً فماذا يا ترى هذا الذي رأيت؟!! ربما نورُ مَلكٍ من ملائكة السماء ذاهبٌ في مهمة عاجلة , وما أكثر مهماتهم في الليل والنهار , فهم كثيرون والسماء تئطُّ بهم كما تئط المدن المزدحمة بالبشر الغادين في أسواقها والعائدين منها.

وإن كان الملائكة لا يتمثلون إلا لحاجة ولا يشاهدهم البشر إلا لحكمة, فإن أنسى لا أنسَ تلك الصورة العجيبة التي شاهدتها منشورةً على صفحات النت , شكل من نور لم أشاهد مثله على الأرض قط , مَلك باسط ذراعيه فوق ظهر الكعبة وقد كُتب تحت الصورة أنها التقطت في ليلة القدر احدى ليالي العشر الأواخر من رمضان, يومها تسألت: هل تقنية الكاميرات مزودة بالأشعة الحمراء أو فوق البنفسجية , فتكشف لنا الصورة مالا نراه بالعين المجردة؟ !!.لا أدري!!.

أظنه لن يخرج عن ثلاثة أشياء برقٌ لامع أو نور ملك ساطع أو شُهُبٍ وما أكثرها.

إذا لعلها ومضةُ شهاب من الشهب مرَّ من أمام النافذة , يلاحق طريدته التي تحاول الفرار منه بالاحتماء بالأرض , والشهب غالبا تتحاشى الأرض كي لا تصطدم بها إلا ما ندر , فكأن الطريدة من الشياطين أرادتْ أن تحتمي بالأرض كما تفعل دائما لكن الشهب لم يلتفت عنها وينصرف هذه المرة , بل تجاوز حدودهُ واستمر في تتبع فريسته , دون اكتراثٍ بتبعات هذا التجاوز, وما يترتب عليه من أضرار.

ثم قلت: مالي ولهذا فما الذي سأجني من معرفة تلك الومضة وقد تعلمنا بأن الخوض فيما لا ينبني عليه عمل .. نوع من التكلف الذي نُهينا عنه شرعا , ومن ذلك الأمور الغيبية كقيام الساعة , والدجال , والمسيح , والدابة , وغيرها , فما الذي دفعني للدخول في هذه السفسطة التي لا فائدة منها غير مضيعة الوقت؟! عندها أدركت أن هذا ربما بسبب السهر.. علي أن أتوجه إلى النوم.

ألقيتُ نظرة من النافذة قبل أن أغادرها , ورحلتُ في عالم آخر من السبح في ملكوت الله والذهول في بدائع صنعه...بعيدا عما كنت أفكر فيه ولا طائل منه, رأيتُ عظمة الله الواحد الأحد في آياته المبثوثة التي تبدو لي من رهبة الليل وهو مُسدلاً رداءه الأسود على البحر الممتد بلا طرفٍ , والفضاء المترامي بلا حدود, يا لعظمة البحر, وسعة الفضاء.. ما مقدار هذه العظمة أمام عظمة الله الخالق.. الذي فطر كل شيء بحكمة موزونة, وكأني أرى الرحابة في الأفق لأول مرة وأرى من خلالها سعة قدرة الله التي لانهاية لها.

تملكني الذهول واحتوتني الدهشة. ما هذا الليل الموحش الذي يلف بثوب سواده الرهيب كل شيء , ها هو قابض بسواده الداكن على البر والبحر والفضاء, فلا ينفلت منه ولا يندُّ عنه شيء.. لقد بدا لي وأنا أنظر إلى غورهِ الرهيب منظرا مدهشا بديعا بالغ الروعة إنه منظر الجلال والهيبة والعظمة لله الذي أجدني أنجذبُ إلى سبحاته, !!.

 كنت مستمتعا شاردا بكل هذه الخواطر الجميلة.. انتبهت من شرودي على هدير الأمواج وهي تتلاطم !!. وكان العناء قد بلغ بي مبلغه فلم يتحْ لي فرصة كي أطيل , فخلدت للنوم وأنا أفكر في المنظر البديع.

قطعتْ حبالَ أفكاري موجاتُ النعاس وسرعان ما أحاطت بي من كل اتجاه, وانسدل الستار وأقفلتْ العينان المنهكتان أبوابهما , وذهبتُ في نوم عميق...ما أيقظني منه إلا أذان الفجر في ندائه الأخير للصلاة.

وبعد أن أديتُ صلاتي... احترتُ وترددتُ بين أن أخلع جلباب النعاس عني أو أُسْفرُ مع إسفارة خيوط الفجر التي بدأتْ تتسلل من ثنايا الأفق, وينثال بريقُ شعاعها الخفيف مُطارداً بقايا الليل المتثاقل لتحل محله , فقد حان موعد نوبة النهار واستلام دوره.

 لن أؤثر النوم على متعة انبلاج الفجر بين يدي البحر وأمواجه , فما أحلى جمال الصبح وهو يتنفس, خصوصا في هذا المكان , حيث تجتمع فيه كل ألوان الجمال الرباني والإبداع الإلهي.

حملتُ نفسي بقوة وهي تتثاقل إلى الأرض تريد النوم : ها هو يتنفس ويعانق كل شيء هيا لعناق أنسامه و عذب هوائه , لنستمتعُ بجمال أفيائه , وحلو منظره وبهائه.

خرجتُ من فوري وقد ارتديتُ ملابسي وصففت شعري دون أن أعتني كما ينبغي بهندامي , ولم أتمكن من تبيض أسناني وتلميع حذائي .

دفعني العجل كي أدرك متعة مشاهدة الإيلاج بين البياض والسواد وأصافح أنامل خيوط الفجر البيضاء المخضبة ببقايا الليل قبل أن يلج النهار فيه ويغادر.

وصلتُ الشاطئ , وأخذتُ مكاني في مقدمة فناء مطعم الروبين المطل على البحر من جهة الساحل الشمالي وتناولت الإفطار هناك وكان إفطارا شهيا ـ سمك طازج وجبن طري ـ أتشوق إليه كلما هبت رياحي على شط هذه المدينة الساحرة.

كان النشاط يَفيضُ بي كما يفيض الموج حال ثورة البحر وعنفوانه, أخذتُ جولة لا بأس بها حتى بَسَطَتْ الشمسُ رداءها ووزَّعتْ خيوط ضوئها على البحر والسهل, والرابيةِ والتل , كما يوزع البنفسجُ أريجه عند تَفتق براعمهِ وتبسم أزهاره 

وبينما أنا أشتم رائحة البحر وأغسلُ قدمييَّ بزفراتِ أمواجه وهي تنقل الزبدَ إلى حافة شطه ذهاباً وإيابا ,رنَّ جرسُ الهاتفِ.

كان المتصل صديقي ماجد , تواعدنا ثم التقينا على شوق ولهفة , الفرح يغمرنا والسرور يظلنا.. أرادني ـ كريما عليه ـ في داره , فأبيتُ عليه ذلك , وقلتُ وأنا أشْبِّعُ ناظريَّ بطلعته البهية ومحياهُ المشرق , كيف نترك هذا النسيم العليل والإشراق الجميل, ونُحاصر بجدران منزلك الملثم بحيطانه , تخير لنا مكانا شاعريا يشاركنا فرحة لقائنا.

وفي زاوية من حديقة عامة , كانت قريبة من منزله قعدنا نحتسي القهوة وتبادلنا شجي الحديث ـ الممتزج بعواطف الإخاء المتجرد من كل مطمعْ ـ عَلَّنا نطفئ ظمأ الأشواق المتأجِّجة من طول الفرقة وشدة اللوعة...وبعد حديث الوداد و المؤانسة , هبتْ رياح الجد.

ـ ماجد.

ـ لبيك كريم.

ـ ما يخص المشروع الذي اتفقنا عليه ماذا صنعت؟!.

 استرجع قليلا و قد تعكرت بشاشته كأنما نكأت له جُرحا كاد يندمل , وقال: أنا لم أجد من يتحمس للمساهمة فيه...رغم أنني عرضتُه مُغْرياً بأرباحه , ومُبالغاً بنجاحه , ولكن دون جدوى فلا حياة لمن أنادي , كأني أنفخُ في الرماد أو أتسلق الفضاء. 

 و بُحَّ الصَّوت مني وأنا أدعو ... ولكن المسامع في انسدادِ.

ثم استرسل قائلا: أسعار المواد الخام هذه الأيام مرتفعة , هل ترى أن نبدأ بالمبلغ الذي معك سَلِّمني المبلع وأنا سأتصرف.

فاجأني بفكرته الجديدة فلم تكن مدرجة في أروقة اتفاقنا السابق ولا دهاليز أفكارنا ...قلت له: نتروى ولا نتعجل, ونعيد النظر كي نضع أقدامنا على أرض صلبة لا رخوة فيها.

 مازحته وضاحكته وعُدتُ مهموماً مثقل الخطى إلى مقر إقامتي بعد أن استأذنته بالانصراف ووعدته بقبولي استضافته يوم غد ؛ فقد كان ملحا على أن نبقى معا

تجاذبتني الحيرة, وتهتُ في شوارع أفكاري!! بين طريقين , طريق الواقع وطريقُ الدافع!! بحثا عن مرفئ يرسو عليه قراري وتستقرُّ عليه أفكاري: هل أمضي في المشروع أم أنصرف عنه؟...

فالواقع منكسر, وتربة الاستثمار غير خصبة , وظروف متقلبة وأسعار غير مستقرة , وأناس ينهش بعضهم بعضا كما تنهش الوحوش الجائعة فرائسها..

ودافع المد والجزر من أجل البقاء.. في بساتين الحياة الطيبة وحدائق العيش الكريم ؛ لنجني زنابق العزة , و فواكه الكرامة , تحت مظلة العفة.. بعيدا عن وحل الذل, ومستنقع الفاقة.. وبعيدا عن أرصفة البطالة وغرف الخمول وأسرَّة الدعة...فعلى أي شط أرسو والأمواج من حولي عاتية وذاكرتي تستدعي صور الإشراق والإخفاق فأحلق حينا وأخفت حينا آخر. 

اروي كي أجمع أشتاتي .... وأفيض لأمنع عبراتي

وأبـــوح لأصنع تاريخا ...... للجيل الحاضر والآتــي

اروي يا ذاكرتي الحرى ... قصصا ثكلا وحكاياتي

اروي الآلام معطـــرة ... بعبير النصر وغاياتي

أروي أحلاما لم تكبـر ... فــي وادٍ مصفــر شـات

عن نبتٍ أبدا لا ينمو ..في صحراء القحط العات

اروي كي تبعثني فكراً ........ وتبلسم كل جراحـــاتي

ظلت الخواطر تتطاير, كأسرب القطا في أزقة فكري ومستودعات خلدي ..ومازالتْ صفقة جارنا الحاج محمد, محفورة في ذاكرتي كما يحفر الماء الصخر!!. فبمجرد وصول بضاعته... خفَّض المورد المحتكر نبهان أسعارهُ بأقل من تكلفة شرائه ؛ كي يصيبه بمقتل ؛ ويئدُ طموحهُ إلى الأبد, وتم له ما أراد ؛ كسدتْ بضاعته وخاب فأله, وظل يعرضها حتى انتهى تاريخ صلاحيتها , وتم إتلافها في محرقة الاحتكار والجشع , جوار سوق من لا يردعه ضميرْ ولا وازع من دينْ, أتلفتها الأنانية ونيران الأطماع ...ومعها آمال الحاج محمد وأحلامه..

ثم التقطتْ كاميرة ذاكرتي صور الأحداث المدهشة ,لتجارة حامد ورفاقه في مشروعهم الغامض الذي أقيم على الأرض ثم أعرج به إلى السماء محمولا على أكتاف المعصرات, تهودجه الرياح من اليمين إلى اليسار, وترمقه العيون المتكئة على الثقة فتصمتُ ولا تلقي له بالاً ؛ كأنها لا تخشى عليه السقوط السحيق الذي سيفتته ويمزقه بمجرد ارتطامه بالأرض!!.

استغرقني ؛لأنه أشد وُعُورةً ,وأصعبُ لمَّا , وفيه عجائب , لا تنتهي يحتاج العقل إلى تأملها والوقوف مليا عندها...أرجو أن لا يطول وقوفي عنده كثيرا...اروي يا ذاكرتي فقد شوقتني لمعرفة تفاصيله.

لم تسعفني ذاكرتي فقد بلغ بي الجوع مبلغه , لم أشعر إلا وعصافير أمعائي تتضور جوعا وتطلب مُستغيثة , ما يسدُّ خلَّتها , ويُشبعُ فاقتها, فقد تناسيتها ـ في زحمة أسواق شرودي , أخذني الذهول وأنا أفتش بين كومةِ صوَرِ الأحداث المعروضةِ في دكاكين الذاكرة , عن أسرارها وألغازها...فما يزال بها مغاليق لم تفك!! وعقد لم أجد لها تفسيرا...إنها من غرائب الدهر وتصاريف القدر...سأستعرضها كأنها لأول مرة , بعد أن أروي ظمئي وأسدُّ رمقي...

تناولت بعض الفواكه والمشروبات التي كُنت قد أحضرتها من بقالة مررتُ بها , سكن جوعي وهدأتْ عصافير بطني وعُدتُ إلى تلك الأسواق مطالبا ذاكرتي بمزيد من العرض قائلا لها:

هيا يا ذاكرتي اروي قُصِّي لي اروي أحلامي الثكلى واحكي لي

اروي باسم الله معاني الحب قصي أول مشروع معلــــولِ

قصي سيرة أصحابٍ قد ختلوا لا تخفي عني مــا لا يبدو لــي

كانوا ثلاثة أصدقاء يضرب بصداقتهم المثل الأعلى , قلما يفترقون عن بعضهم , يتفادون بالأرواح من شدة الحب... في الصباح يذهبون إلى مؤسستهم العملاقة التي يعملون بها , وفي المساء يتسامرون , و يلعبون النرد والشطرنج بين يدي مباريات كرة القدم...وهكذا مرت سنين من عمرهم على هذا الحال في محبة وانسجام وصداقة ووئام ...

خطي يا أقلام الروح معاني الحب العذب وثوري

شقي دربا في الآفاق الآن وطيري

دُكِّي جُدَرَ الصَّمتِ ومدي في رحمِ الآفاقِ جسوري

يا عمر الحلم المأمولِ بأيام نشاطي وفتوري

يا نبض الإشراق الحر ويا نبض هناءٍ وسرورِ

اروي من ذاكرةِ التاريخ حياة الحلم المطمور

وحياة الحب إذا أصبح كالمخمور وكالمغرور

فيضي خاطرةً ذاكرةً

في وجدان الكون أنيري

ثوري في وجه الكلمات وفي وجه السكنات

وفي وجه المكر المقهور

....


في الأربعاء 30 مايو 2012 04:56:24 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://video.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://video.marebpress.net/articles.php?id=15803