في قصيدته (رؤيا) يرسم عبدالحكيم الفقيه اوطان الخيال بسحريَّة واقعيَّة
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

غنيٌّ عن التعريف ان الشاعر عبد الحكيم الفقيه من رواد القصيدة الحديثة في اليمن.. موضوع هذه الدراسة النقدية كيف يرسم عبد الحكيم الفقيه-في قصيدته (رؤيا)- اوطان الخيال بسحرية واقعية كشاعر رومانسي واقعي.. يقول البروفيسور الوك بهللا (الهند) صاحب اهم اطروحة عن الشاعر الرومانسي الإنجليزي وليام بيليك ضمن محاضراته لطلاب الأدب الإنجليزي : (من الخطأ الشائع ان يقال ان الشعراء الرومانسيين كـ وليام بيليك ووليام وردسورورث وكلوريدج او غيرهم انهم جاؤا يكتبون القصيدة للزنبقة والنرجس والياسمين والحمَل والناي والراعي فقط، ليس ذلك-كمايقول البروفيسور الوك-الا قراءة سطحية لـ (أغاني البراءة) وان وليام بيليك ورفاقه لم يقصدوا الهيام بالنرجس والياسمين وانما تغيير الواقع الذي يحكمه الطغاة اعداء الإنسان وحرية الإنسان وأن شعرهم يجب ان يُقرأ كشعر نقد اجتماعي وسياسي من الدرجة الأولى) .. يقول ايضاً: (كل مايظنه الناس انه شعر رومانسي ترفي ظنٌ غير صحيح اذ ان التغيير الاجتماعي والسياسي هو الغاية من قصائد وليام بيليك.. الهروب الى الزنبقة والنرجس كانت وسيلة الشعراء الرومانسيين لنقد سياسة الاستبداد والقمع باسم الدِّين او باسم المصلحة القومية والشرف الوطني)..من اجل ان نفهم قصيدة (رؤيا) لـ عبد الحكيم الفقيه علينا ان نقرأ -ولو سريعاً- قصيدته القصيرة (حذائي الممزًق أفضل من وطني).

  حذائي الممزًق أفضل من وطني : إعادة ترتيب هرمي للمقدًس والممتهن في ثقافتنا، النص:-

يحملني في الصباح

وأحمله في المساء

وأحمله في الصباح

ويحملني في المساء

أنا أتوقف كي لا يدوس على النمل في الطرقات

هو يتوقف كي أمنح السائلين الذي يتبقى من

العملة المعدنية في الجيب

أتركه كي أصلي الصلاة

ويتركني كي أُصلي الصلاة

ونمشي معا

يكتب المخبرون التقارير عني ولا يذكرون حذائي الممزق

أبكي ليغسل دمعي الغبار

أنا يا حذائي الممزق إني أُحبكَ أكثر من وطني

حذائي وطني

الحذاء شيءٌ هيٍنٌ وحقيرٌ في ثقافتنا ، هل يختلف على هذا أحد؟ ولكن شاعرنا أسس بينه وبين حذائه الممزًق علاقة احترام لا تصل إليها ثقافةٌ ولا قوانين حضاريةٍ.. كيف جعل الشاعر من الحذاء شيئاً محترماً وشريفاً أشرف من الوطن؟.. ذكًرني هذا بقصيدة لشاعر سوداني يساري كان منفياً في اليمن- الحسن العُمدة- له قصيدة أهداها إلى امرأته ( تيسير) أتذكر منهاهذا السطر: ( قامةُ الكمران أطول من قامة الوطن)، كان يدخن سيجارة الكمران وهو يكتب عن منفاه من وطنٍ أقصر وأصغر من قامة الكمران.

مبادلة احترام مع حذائه الممزًق

يحملني في الصباح

وأحمله في المساء

وأحمله في الصباح

ويحملني في المساء

نحن مع شاعرٍ في وطنٍ لا يحمله، ولا يحمله غير حذائه هو وطنه الأولى بالاحترام والولاء، علاقةٌ حميمةٌ بين الشاعر ونعله الوطن وحذائه المأوى والملاذ والسكن ( يحملني......وأحمله) كقولنا (يحبني وأحبه)، يحمله في كل الأحوال والأمكنة وفي الصباح وفي المساء.

إحساس نبيل للحذاء

أنا أتوقف كي لا يدوس على النمل في الطرقات

هو يتوقف كي أمنح السائلين الذي يتبقى من

العملة المعدنية في الجيب

أتركه كي أصلي الصلاة

ويتركني كي أُصلي الصلاة

نديةٌ في الخطاب من خلال استعمال الضمائر ( أنا- الشاعر- هو- الحذاء) صداقة متبادلة وولاء عنوانه الوفاء والاحترام. وهذا النمل الضعيف المكافح على لقمة عيشه ألا يستحق التأمل والعطف والإحساس به؟ لفتة شعرية إنسانية نبيلة بل لفتة كونية من النعل ومن الشاعر، شاعرٌ يصغي هو ونعله إلى أصغر الأشياء لطفاً بها وإحساساً ورفقا.. قارنوا بين موقف الشاعر النبيل وحذائه الممزق يتوقفان كي لايدوسا على النمل وبين (موكب حكومي أو رئاسي او وطني او ملكي) يدوس على جماهير المارة في الطرقات..ثم اللفتة البديعة ليس في الوطن الذي صار (وطن السائلين) بعد أن نُهبت ثرواته وخيراته وأُفقر شعبه، بل في إحساس الحذاء النبيل يتوقف كي يتمكن الشاعر من إعطاء السائلين ما تبقى في الجيب من عملة معدنية وهي بالطبع عملة ضعيفة ومهلهلة فقدتْ قوتها الشرائية..، ويأخذ هذا الاحترام شكلاً آخر لدى الشاعر ( أتركه كي أصلي الصلاة ويتركني كي أصلي الصلاة)، الحذاء يحترم الصلاة ولا يمنع الشاعر من اداء الصلاة ولكن ربما يمنعه الوطن من ادائها ( حفاظاً على المصلحة العليا).. لا حظوا التعبير ( أتركه... ويتركني ) كلٌ يحترم الآخر، الشاعر يحترم الحذاء والحذاء يحترم الشاعر ويحترم صلاة الشاعر ، ثم لا حظوا عمق الوفاء لكليهما (الشاعر والحذاء) يقول ( ونمشي معاً ).. هل أنتَ أيها القارئ العزيز تمشي مع وطنك أو هل الوطن يدعوك لتمشي معه؟.. نعل الشاعر الممزق نعل شريف ومحترم ولديه إحساس وقيم ومبادئ وفضائل إنسانية سامية فهو لا يشي بالشاعر ولا يتجسس عليه ولا يكتب عنه تقارير ولا يلقيه في السجن ولا يسقط اسمه من كشوفات الوظيفة أو الراتب ولا يمنعه من الكلام ولا من أداء الصلاة ولا يسرقه ولا يفقره ولا يسلمه للعدو.. ما أنبل وما أشرف هذا الحذاء !..(أبكي ليغسل دمعي الغبار) رقيقٌ هذا الحذاء يغسل دموع صديقه بالغبار، ليس لدى الحذاء الوفي غير الغبار ليغسل دموع رفيقه الممزق في الوطن :-

ونمشي معا

يكتب المخبرون التقارير عني ولا يذكرون حذائي الممزق

أبكي ليغسل دمعي الغبار

أنا يا حذائي الممزق إني أُحبكَ أكثر من وطني

 

يسقط الوطن بين أحمد مطر وعبد الحكيم الفقيه

الشعراء من أشد الناس إخلاصاً للوطن ووفاءً للأوطان ولكن هذا الوطن لا يجازي الوفاء بالوفاء فليُعذر الشعراء إنْ هم هتفوا بسقوط الوطن أو فضًلوا عليه الحذاء ، يقول أحمد مطر:-

أبي الوطن

أمي الوطن

رائدناً حب الوطن

نموت كي يحيا الوطن

يا سيدي انفلقت حتى لم يعد

للفلق في رأسي وطن

ولم يعد لدى الوطن

من وطن يؤويه في هذا الوطن

أي وطن؟

الوطن المنفي

أم الوطن؟

أم الرهين الممتهن؟

أم سجننا المسجون خارج الزمن ؟

نموت كي يحيا الوطن

كيف يموت ميت ؟

وكيف يحيا ما اندفن ؟

نموت كي يحيا الوطن

كلا .. سلمت للوطن

خذه .. وأعطني به

صوتاً أسميه الوطن

ثقباً بلا شمع أسميه الوطن

قطرة أحساس أسميها الوطن

كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن

يا سيدي خذه بلا شيء

فقط

خلصني من هذا الوطن

ويعتذر أحمد مطر لنعاله في قصيدة أخرى:-

صحتُ من قسوة حالي

فوق نعلي

كل أصحاب المعالي

قيل لي عيبٌ

فكررتُ مقالي

قيل لي عيبٌ

و كررتُ مقالي

ثم لما قيل لي عيبٌ

تنبهتُ الى سوء عباراتي

و خففتُ انفعالي

ثم قدمتُ اعتذاراً لنعالي

نسف لثقافة المقدًس والممتهن وإعادة ترتيب للهرم

في ثقافتنا الوطن مقدًس والحذاء ممتهن ولكن في هذه القصيدة الحذاء أفضل من الوطن ، الحذاء أعلى الهرم والوطن أسفله ، فليسقط هذا الوطن وليذهب إلى الجحيم مادام لا يحترم الإنسان وليعلو هذا الحذاء فوق رأس الوطن لأنه حذاء يحترم نفسه ويحترم الإنسان وحرية الإنسان .. القصيدة تنحو منحى ( مابعد الحداثة) حيث تتصدر الأجزاء الثقافية المهمشة والممتهنة والمهملة مكانةً بارزةً في النص، وأكثر بياناً للقارئ الكريم صار الحذاء الذي يحتقره الناس أشرف من المقدس الوطن الذي تجله الشعوب، في منهج ما بعد الحداثة نجد مثل هذ الأمثلة التي تنسف مكونات الثقافة السائدة وتفاجئ القارئ بتصدر الحقير والمهين سدة الضوء.

  قصيدته (رؤيا) من الواقعية السحرية في كتابة القصيدة او بعبارة أخرى من الرومانسية الواقعية، لايطلب الشاعر في القصيدة شيئاً مستحيلاً بعيد المنال بل شيئاً واقعياً ممكن الحصول، يطلب اشياء سهلة وهي ان تتحول عسكرة الأوطان الى فراشات وحمامات سلام، والهمجية الى دولة مدنية يسودها النظام والعدل والقانون..هل هذا مستحيل؟!! التقنية التي اتبعها الشاعر هي (الرؤيا) كوسيلة لغاياتٍ متعددة، غاياتٍ رومانسية شاعرية بذاتها وغاياتٍ نقدية سياسية..هذا مايعرف اليوم بـ (الواقعية السحرية)، الرومانسية الخيالية لخدمة غايات واقعية لتغيير واقع الاستبداد والديكتاتورية والوحشية العسكرية وكل ممارساة الطغاة ضد الإنسان في هذه الاوطان، يرسم الشاعر مدن الخيال وأوطان المثال، اوطان خالية من العسكر وخالية من الطغيان وخالية من الفوضى الاجتماعية وخالية من الاستبداد.. منذ اصدار الكاتب الروائي البريطاني سلمان رشدي كتابه ( اوطان في الخيال-سلسلة مقالات نثرية صدرت عام 1990) صارت فكرة التغيير للواقع المضطرب والواقع الذي يرزح تحت اشكال الطغيان السياسي مطلباً اساسياً للنخبة من الشعراء والروائيين يعبرون عنها بصور مختلفة، كلهم يحلم بأوطان من غير حدود سياسية وأوطان من غير قيود سياسية ويحلمون بأوطان من غير خرائط تقسِّم الإنسان..ليس الشاعر الرومانسي (مجنوناً) ولا(حالة نفسية) كما قد يفهم الناس، انه يعيش هموم مجتمعه وعالمه وانه في قلب المجتمع يرصد حركات الطغيان وجرائم العسكر بحق الحياة المدنية :-

رأيتُ في المنام

مدينةً تجرد الجنود من نجومهم

وترجع الحياة للطيور في جباههم

وتفتح المعسكرات للحمام

وتدفن النظام

وتزرع البديل والهديل والحياة بانتظام

دعوا الشاعر يحلم: (رأيتُ في المنام) وحتى الرؤيا تصلح تقنية هروب من واقع المخابرات العسكرية التابعة لـ اعداء الحرية.. احلامه او رؤياه بسيطة ولطيفة ايضاً وممكنة الحدوث وواقعية الطموح-كماذهبنا- ماذا رأى في المنام؟ كل رؤياه واقعية بالرغم من سحريتها وممكنة الحدوث بالرغم من رومانسيتها، رأى في المنام الواقع المثالي الذي ليس مستحيلاً ولاخيالياً ولكن العقلية العسكرية في هذه الأوطان هي التي اقنعت الناس بالقبول بواقعٍ منافٍ للأشواق الإنسانية الكونية الطبيعية، لايطلب المستحيل في هذه الأوطان، يطلب ان يحل (البخور والعطور والرنين والأغاني) محل القبح العسكري والفوضى المستبدة والقمع البليد للحريات واصوات البنادق تقتل الإنسان:-

رأيتُ في المنام

شوارعاً دائخةً من البخور والعطور والرنين

وأغنياتٍ راقصاتٍ مابها أنين

وأغنياتٍ غائماتٍ فوق واحة الحنين

وأعيناً قد طلقت دموعها منذ سنين

وعالماً من النقاء والصفاء والسلام

بم يحلم الشاعر؟ وما الذي رآه في المنام؟ اشياء واقعية مهما بدت انها رومانسية وغير ممكنة الحدوث الا في كوكب آخر :-

رأيتُ في المنام

أزقةً ساكرةً من الفرح

وطفلةً تسلقت قوس قزح

وصبيةً يكركرون في مرح

والشمس ترسل الشعاع من ثقوبها الغمام

ونغمات دافئات تقطن الكلام

ليس مستحيلاً ولارومانسياً ان تتسلق طفلة قوس قزح في اوطان بلاعسكر ولاديكتاتورية بل هذا هو القانون الطبيعي للكون وليس مستحيلاً -مهمابدا سحرياً- (مسدساً تخرج من فوهته الفراش).. القوى المستبدة في هذه الأوطان وهذا العالم هي التي عطلت قوانين الكون ومنعت بطغيانها الفراشة تخرج من فوهة المسدس والطفلة تتسلق قوس قزح، ليس هذا سحرية ولارومانسية خروج الفراشات بهذه الطريقة بل واقعية ممكنة بشرط ان يرحل الطغاة من هذا العالم وهذه الأوطان، رؤيا الشاعر ممكنة التحقيق بالرغم من سحريتها ورومانسياتها، الأشياء التي رأها في المنام او حلم بها او تمناها ليست مستحيلة ضمن قوانين الكون حين تعمل بسلام من غير انحراف الطغاة والعسكر واساطين حروب الإبادة للحياة والطفل والزهور والفراش، يحلم بالعدالة الاجتماعية وبالسلام الاجتماعي، ليست هذه المطالب رومانسيةً ولاسحريةً بالرغم مما قد تبدو لكن انظمة الخراب والظلم هي المخالفة للقانون الكوني الطبيعي، الشاعر واقعيٌّ وليس رومانسياً هنا ولامثالياً غير ان الديكتاتورية العسكرية شذت بهذا الكون الذي يمنح الزهور والفراش والسلام والعدالة للإنسان واحالته الى ساحة حروب وقتل للإنسان والأوطان :-

رأيتُ في المنام

مسدساً تخرج من فوهته الفراش

ونسوةً باسمة الوجوه والنقاش

وساعة انتعاش

ولوعةً تسكن في القلوب والعظام

رأيتُ في المنام

" تفاوتاً" ينام نومة اللحود

خارطةً بلاحدود

ودولةً واحدةً شعارها الورود

يسوسها السلام والأمان والوئام

رأيت في المنام

عدالةً مجسَّدة

واوجهاً موردة

ورايةً موحدة

ولوحةً من الضياء والبهاء: ياسلام

الواقعية السحرية (او الواقعية الرومانسية) هي مارآه الشاعر في منامه وأما الشاذ والمنحرف هو ما رآه بعدما افاق من سباته العميق.. الحياة في ابهى صورها الواقعية الطبيعية مارآه الشاعر في المنام وأما صورة الحياة (الميتة) بعد استيقاظه فهي الحياة (الشاذة) والمناقضة للناموس الكوني ونظامه العادل، في منامه رآى الحياة الواقعية الطبيعية وفي صحوه رآى انحرافات الطغيان تقتل الحياة والسلام والوئام.. فمن هو الواقعي ومن الشاذ في اوطاننا؟! القصيدة من ضروب الرومانسية الممكنة والسحرية المعقولة والطبيعية والواقعية وهذه هي السمة البارزة للنص، ليس من الشذوذ ان تتسلق طفلة قوس قزح ولا ان تخرج الفراش من فوهة المسدس ولكن الشاذ ان (الناس في كل دقيقةٍ تموت) :-

وبعدها أفقتُ من سباتي العميق

حدقتُ من نافذتي

ياحسرتي

رأيتُ عكس مارأيتُ في المنام

شوارعاً جائعةً صائمةً في ساعةٍ مكروهة الصيام

رأيتُ مقبرة

قبورها البيوت

والناس في كل دقيقةٍ تموت

وتعلك السكوت

ياليتني أنام نومةً مابعدهاقيام

أو ياليتني أعيش مارأيتُ في المنام

أو ليتني حجر

أو ليتني حجر

**

شـاعر وناقـد يمنــي- الهند

a.monim@gmail.com


في الأحد 29 يوليو-تموز 2012 12:10:58 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://video.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://video.marebpress.net/articles.php?id=16688