صعدة..صباح القصف ..مساء المدفعية
صحفي/عابد المهذري
صحفي/عابد المهذري

صوت السلام يملأ سماء صعدة.. لكن أصوات الأسلحة تطغى عليه.. روح «فيروز» ترفرف وسط الناس.. لكن لا وقت لدى الناس للتحليق مع ألحان الأناشيد.. هنا قذيفة وخنجر.. بارود ونار.. جنائز ودمار.. كل الأشياء مؤجلة الى الحرب القادمة.. الأغاني.. الزهور.. العصافير.. العطر.. الابتسامات.. دبلة الخطوبة.. رقصة العرس.. فنجان الشاي.. شنطة المدرسة.. بذور المزرعة.. مفاتيح الدكان.. طاسة الفرح.. لون السوق.. رائحة المسجد.. ملابس العيد.. براءة الأطفال.. حنان الأمهات.. ونكهة الشمس على جدران البيوت الطينية.. صباحات صعدة الدافئة انطفأت.. سعير الحرب طال كل شيء.. صعدة خلاص -انتهت- قالها شاب خلوق بالنيابة عن أبناء محافظة أحرقتها الحرب.. صارت رماداً تذروها الرياح.. فيما جمرة الأخطاء.. ظلت تتقد تحت الهشيم!! > بالطريقة التي أودت بحياة العشرات غيرها.. ماتت تلك المرأة مع زوجها برصاص التوجس.. لم يستمع الزوج لنداءات الأهل والأقارب.. حُبه لشريكة حياته دفعه لإسعافها الى المستشفى حين فاجأتها آلام المخاض وحانت سويعات الإبتهاج بالمولود البكر.. كان الوقت منتصف ليلة عاصفة بالقصف ودوي المدافع.. وكان يعرف أن مغادرة قريته بمديرية «مجز» الى أقرب مركز صحي يعتبر مغامرة في مثل هذه الظروف.. حين مر أمامهم كان صراخ ألم حبيبته يحجب صيحاتهم بتوقفه.. اعتقدوه حوثياً.. فأوقفت رصاص الحراس حياة الحبيبين وجنيناً في بطن أمه!!

** تتصاعد الدراما الحمراء على نحو غير مسبوق.. رياح الأنباء تهب حاملة معها ما لا يسر.. فواجع بالجملة.. مآسي بلا حدود.. كشوفات القتلى والمصابين تبدأ برقم عشري وبسرعة ترتفع الى خانة المئات.. آلاف النازحين من ديارهم يلتحفون الألم ويفترشون المعاناة فوق رصيف الحرب.. الطفل الصغير «مازن» ينتظر انتهاء المواجهات لكي يعود الى مدرسته.. ثلثا مدارس صعدة مغلقة منذ اندلاع الحرب قبل أربعة شهور.. كثير منها تحول الى ثكنات عسكرية.. الطرفان «الحوثي والجيش» يستخدمون مباني المدارس كمواقع حربية.. نصف طلاب المحافظة متوقفون اضطرارياً عن الدراسة.. المدرسون أيضاً مشتتون بين مدارس مغلقة ومطالبتهم بتحديد موقف عملي في جبهات القتال.. ذلك الهارب في صنعاء.. يتجمد الدمع في عينيه حينما تهاتفه صغيرته من صعدة تسأله متى يعود.. يلملم براءتها بإجابة تؤجل رجوعه الى حين انتهاء الحرب.. لكن الطفلة تؤكد لوالدها الغائب بأن الحرب لن تكف عن إيذاء الناس.. تلح عليه بالعودة إليهم ولاتنسى أن تذكره بعدم حاجتها هذه المرة الى الهدية المعتادة: دمية عروس وطائرة ورقية!!

** سرد التفاصيل الصعداوية.. يحتاج الى تكثيف مركز.. إيقاع قصصي متماسك.. وروح كتابية تمزج بين الواقع العسكري المتأزم والقضايا الإنسانية.. بلغة لاتقبل التفريط بمخارج الحروف.. الحروب عند بعض الفلاسفة تعني بداية حياة.. لكنها عند أبناء صعدة انتقال الى البرزخ.. يقول «جمال» بنبرة تعجب منزعجة: ماذنبنا، هل ولدنا لنموت، أم خلقنا لنعيش......!! غير المجهول الذي ينتظر مستقبل صعدة.. لايملك أحد قدرة الإجابة على استفهامية «جمال» المستفزة.. الرد القادم من جهة الحوثيين.. يعيدنا الى الماضي آلاف السنين.. هاهم يجيبون على السؤال تطبيقياً.. ينطلقون الى ميادين المعركة باحثين عن الموت بشهية انتحارية تتوخى أخذ قسطاً من الراحة تحت جنزير دبابة مدمرة تتناثر حولها خوذات جنود صادر القناصون أرواحهم برصاصة قادمة من حيث لايدري أحد!!

** مازلنا في مدينة صعدة.. هنا حيث خلاصة المشهد ناقصة أهم التفاصيل.. الوجوه الكئيبة تغطي جزءاً كبيراً من الصورة.. وحشة الفراغ وملامح الحزن المغمور تحت ركام الجدران.. حطام النفوس المقهورة يكمل بقايا ما داخل البرواز الأحمر.. مازلنا في صعدة.. مازالت المدينة تنام على وضع مقلق.. وتصحو على فاجعة متجددة.. مازلنا نسمع دوي الإنفجارات وضجيج الطائرات الحربية يهز الأرض تحت الأقدام المرتعشة.. ومازالت «عروس» نازحة تبحث عن عريسها وسط غابة خيام النازحين.. مازال الخوف يشنق الكلمات.. حالة الطوارئ ماتزال قائمة.. مضت أربعة شهور من عمر الحرب الرابعة.. والوضع مايزال متوتراً بأعلى درجات السوء.. مازالت مؤشرات الإنفراج بعيدة المسافات.. الحرب ماتزال تأكل الأخضر واليابس.. مازالت صعدة على صفيح المعاناة منذ ثلاثة أعوام.. سبابة الإنتقام ماتزال على زناد البندقية!!

** في هذه الحرب «ضحيان» هي الأبرز.. في الأولى كانت «مران» تتصدر المانشتات. لكل حرب اسم ومنطقة.. الحرب الثالثة كان عنوانها «نشور».. و«الرزامات» ارتبطت بالحرب الثالثة.. تتداخل الأماكن مع الأحداث في ارتباط زماني يسجل وقائع تاريخية.. الحرب الرابعة هي الأعنف بكل المقاييس.. لا يأبه أبناء صعدة بتغيير المسئولين.. ما الذي يمكن أن يفعله المسئول «الجديد» فيما عجز عنه القادة العسكريون الكبار.. ثمة من يتعامل مع المجريات بنظرة سياسية فاحصة.. طرابلس التي تحضر في صنعاء مع الحديث عن حرب صعدة.. هي غائبة في صعدة.. الرياض هي الأكثر حضوراً هنا.. قد يكون تفسير «أحمد قاسم» صحيحاً.. وهو يرى بأن السعودية أكثر قدرة على اللعب بالورقة الحوثية لصالحها.. قد يكون تحليله سليماً بضلوع المملكة وراء تجنيب حدودها أي إزعاج.. قد تكون اصابع الجارة الكبرى خلف عدم اندلاع الحرب الرابعة من «النقعة» كما كان متوقعاً.. من مصلحتها إبعاد التوتر عن الأراضي السعودية.. النفوذ السعودي في صعدة مازال ينافس السيادة اليمنية.. الريال السعودي هنا هو العملة المعتمدة في السوق.. الوجبات الغذائية المعلبة داخل مصانع الجيران يظل توزيع كميات منها على أفراد الجيش مدعاة تكهن!!

** بين «كر» الحوثيين و«فر» الجيش.. تمضي الحرب في صعدة نحو التفاقم المأساوي.. أحوال الأبرياء لاتسر.. الوضع الإنساني ينذر بكارثة مرتقبة.. المواد الغذائية تتلاشى من الأسواق.. الأسعار تنافس وتيرة الحرب في الإرتفاع العشوائي.. قيمة الكيس الواحد من القمح والدقيق وصل الى ستة آلاف ريال في المناطق التي ليس فيها حرب.. في المناطق المشتعلة بالنار والبارود.. الموت جوعاً على وشك التحقق.. هناك حصار عسكري ضارب حول بؤر التوتر.. بني معاذ وضحيان ومديريات القاطع الغربي «باقم - مجز- قطابر- منبه- غمر» معزولة تماماً عن أي إمداد تمويني.. يقتات السكان على مخزون ضئيل من كميات الحبوب الزراعية.. حتى قوافل الإغاثة التابعة لجمعيات ومنظمات خيرية يُمنع وصولها لإغاثة المحاصرين.. من يصدق.. الأزمة بلغت ذروة الفاجعة.. التوجيهات الحكومية تشدد على تجار القمح والدقيق عدم بيع أكثر من كيسين للمشتري.. في صعدة هناك كثير من الأسر الكبيرة بالكاد يكفيها «كيس البُر» لثلاثة أيام.. وفي عديد قرى وتجمعات سكانية بلغ الحرمان درجة شراء اسطوانة الغاز الواحدة بألفين وثلاثة آلاف ريال.. أما مياه الشرب فيتدبرونها بايقاف سقي المزروعات لتوفير ما يسد رمق البشر المحشورين داخل مربعات الخطر!!

** كثيراً ما وقع أفراد القوات المسلحة في ذات العناء.. محاصرة مقاتلي الحوثي لما يقارب (150) جندياً ومتطوعاً لثلاثة أسابيع داخل قسم شرطة ضحيان حدث يثير القشعريرة.. عندما تسمع التفاصيل من أحد الناجين سيصيبك ما يشبه المس.. قصص ومواقف تتجاوز الخيال.. لكنها وقائع صادقة حدثت بالفعل.. بدأت التراجيديا مع اندلاع شرارة الحرب في ضحيان.. مركز الشرطة يعتبر إدارة للأمن بمديرية «مجز» بإعتبار مدينة «ضحيان» عاصمة المديرية وقلب الجزء الشمالي من صعدة النابض بحركة تجارية ونشاط يومي متدفق.. انطلقت المواجهة من المباني المحيطة بالقسم.. القوات الحكومية تمترست في المبنى الأمني.. توزع المقاتلون داخل غرف معدودة وبدروم ضيق.. زملاؤهم الآخرون كانوا يلوذون بالقسم للإحتماء فيه كلما اشتدت هجمات انصار الحوثي.. اكتظ مركز الشرطة بمجاميع المسلحين بسرعة.. انتشر المكبرين على سطوح المنازل والفنادق محكمين السيطرة على ضحيان.. قوات الجيش عسكرت عند حدود المدينة وعمدت تضرب بنيران مدافع دباباتها في كل إتجاه وفق خطة تحاول اقتحام المدينة وفك الحصار عن المتواجدين بإدارة الشرطة.. لكن دون جدوى.. هل تريدون الاستماع الى اقوال العائد من الموت!!

** هاهو الضابط الشجاع «أ.ب» يقص عليكم الحكاية.. لقد عز عليه بقاء زملائه تحت رحمة عزرائيل.. حين وجد القصف من بعيد لايحقق الغرض.. قرر حمل روحه على كفه والمغامرة.. شحن سيارته الشخصية بالذخائر والغذاء واستأذن القائد لتنفيذ مهمة مصيرية برفقة جنديين آخرين.. توكل على الله واتجه نحو القسم والرصاص تنهال عليه كالمطر من كل جانب.. بأعجوبة تمكن من الوصول الى الهدف.. كان قد مضى اسبوع على حصار المرابطين هناك.. ليمضي بينهم أسبوعين آخرين يصف أيامها بجهنم.. استفاد الجنود من حمولة السلاح التي جلبها ولم يستطع العودة والخروج مرة أخرى.. عاش أياماً عصيبة وسط جثث عشرات القتلى المتعفنين بغرفة خصصت لجثامين من يموت متأثراً بجراحه.. لولا سواتر الأكياس الترابية والمقاومة بإستبسال لسقط الجميع بين قتيل وأسير.. التموين الغذائي نفد سريعاً وكمية الأسلحة استنفذتها مواجهات شرسة تنشط في المساء.. تخيلوا التنفس بهواء اختلطت به روائح الجثث والبارود.. تخيلوا معايشة تلك الأجواء ببطون ينهشها الجوع وعيون مزقها السهر ونفسية محطمة وجرح إصابة بالغة ينزف!!

** زملاء دراسة القائد الميداني في كتائب الحوثي «يوسف المداني».. منذهلون مما طرأ على ذلك الكائن الوديع الذي كان من فرط هدوئه وخجله لايكاد يحس بوجوده من يجلس جواره على مقعد الدرس.. صار يوسف ذا شهرة كاسحة.. وصار في رأس قائمة المطلوبين للدولة من المحسوبين على الحوثي.. لمع اسمه منذ الحرب الأولى كخبير عسكري يرسم خطط القتال بمواهبه الفطرية ويقود سيارته «السوداء» لمهاجمة النقاط والمعسكرات.. تتواتر الأنباء عنه باهتمام جعل رئيس الجمهورية يسأل عن «يوسف المداني» في أول لقاء بعد الحرب الأولى مع قيادات التمرد.. في ذلك الوقت كان الرجل يتولى مهام القيادة نظراً لغياب من هم أكبر شأناً منه.. الشاب الذي لم يتخط العشرينات احتفل بزواجه من إحدى بنات «حسين بدر الدين» تحت دوي مدافع الحرب الثانية.. ما أثار حفيظة قادة الجيش ولفت الانتباه أشد الى هذا الفتى الذي تحول الى اعصار مدمر كما لو كان هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. يحدث أن تكون في صعدة.. فيحدثك عسكري تثق بمصداقيته.. عن لمعان ساعة معلقة بمعصم يد مبتورة في فم كلب تقتله رصاصة متطفلة لتكشف سر ذلك اللمعان المؤذي للنظر.. أيضاً ملاحظة صورة في ألبوم الأحداث لكلب يعبث بكومة لحم وعظام يؤكد أنها لم تحشر عن خطأ أو مصادفة!!

** في عديد قرى وعزل ينقطع الإمداد عن وحدات الجيش.. عنف المواجهات المسلحة يعزل المناطق عن بعضها.. ينقذ السكان الموقف بتزويد الجنود بحاجتهم من المأكل والمشرب.. على هذا الصعيد.. يتصرف الحوثيون بذكاء.. التمر هو الأكلة المفضلة لأنصار الحوثي.. يملأ كل مقاتل جعبته بالتمور المجففة وقارورة ماء للشرب مع «دبة بلاستيكية» معبأة بالرصاص.. وتشير المعلومات أن هناك توزيعاً دورياً للغذاء والمؤنة يصل بانتظام لجميع مواقع المكبرين.. معلومات أخرى تشير الى مساعدة نسبية يقدمها بعض السكان المتعاطفين.. فيما يؤكد اعلام الحكومة ان جماعة الحوثي يجبرون المواطنين على إطعامهم ونهب مخزون السكان من القمح والدقيق بقوة السلاح.. إلاَّ أن مقتل عدة نساء على سفوح الجبال وكميات الخبز والطعام بين أيديهن مازال محط نقاش ساخن عن السبب ومصلحة الفاعل من استهداف الأمهات!! > جندي ثلاثيني يحدثك بصوت شاحب وعينين غائرتين وسط وجه ملون بصفار الفاجعة.. عاد الى ثكنته عقب إجازة قصيرة.. ينقل أحاسيس التذمر والملل الذي اصاب العساكر.. لا يتردد في الاعتراف بشجاعة الحوثيين.. إنهم ابطال.. يعتمدون على انهاكنا يومين أو ثلاثة بشن غارات خاطفة حتى يتعب الجند المرابطون.. بعدها يهجمون فجأة و«يذبحوننا» ثم يلوذون بالفرار.. هكذا حدثني العسكري القادم من المحويت.. وحين تعرف قيام اتباع الحوثي بارتداء ملابس عسكرية واقتحام النقاط والثكنات والمعسكرات تحت جنح الليل.. ستعرف دواعي القلق المتفشي بين الجنود.. الجدل وسط صفوف الجيش تعدى الشكاوى من نقص الذخائر المصروفة والإهمال والتهاون وتبادل الاتهامات عن أخطاء فادحة تسبب خسائر افدم في الأرواح والعتاد.. إطالة أمد الحرب وغياب مؤشرات حسم نهائي قريب.. قاد الجنود الى معركة سياسية في ميدان المناكفات.. بدأت الشكوك تتسرب عن جدوى وهدف هذه الحروب.. وبات السؤال الأكثر تداولاً حول الطلقات القاتلة التي تصيب الجنود من الخلف!!

** نحن في صعدة.. كل شيء هنا مقطوع.. الطرقات.. الاتصالات.. التواصل الاجتماعي.. المتصل الوحيد هو القصف اليومي والطريق الى المقبرة.. حتى كرامة الأموات لاتمنح هنا.. في صعدة ستجد أقارب جنود قتلوا في المعركة يبحثون عن رفات ذويهم ولايجدونها.. كثيرون هم أولئك الذين يكابدون المشكلة.. العشرات من أبناء المحافظات الوسطى والجنوبية ينتظرون وصول جثامين من يعزون عليهم الى ثلاجة المستشفى العسكري بالعاصمة صنعاء.. هناك حيث وجدنا «عبدالكريم» ينفث الحسرة والندم.. تلقى اتصالاً من صعدة يفيد بمقتل إبن شقيقته المجند حديثاً.. انتظر يومين في صنعاء والنعش لم يصل.. فقد صبره متجهاً الى صعدة.. أخبروه هنا أن الجثة ماتزال في العراء مع خمس جثث أخرى.. عرف ان وحدات الجيش تعجز عن تجميع جثث قتلاها.. الحوثيون يستميتون في القتال من أجل انتزاع جثة أي قتيل منهم.. قال مقاتل حوثي: مستعدون بالتضحية بعشرة أو أكثر ولانترك جثة لنا طعاماً للكلاب.. في الحروب السابقة تحولت عشرات الجثث الى هياكل عظمية بعد التحلل والتعفن وعدم القدرة على دفن القتلى أولاً بأول.. جثث كثيرة تتعرض للتشويه من فداحة الإصابة.. الكثيرون يوارون الثرى ولايعرف أحد من يكونون!! > يحدث أن تكون في صعدة ولاتفهم ما يدور حولك.. أبناء المحافظة يعرفون أخبار الحرب من الصحف والفضائيات.. تجدهم يسخرون من شريط فضائية الجزيرة الإخباري كلما بث معلومة عن خمسة قتلى وعشرة جرحى في العراق.. هنا يسقط في اليوم الواحد أضعاف مضاعفة.. بعض الوثائق المتسربة من مستشفى السلام السعودي بصعدة.. تشير الى متوسط نسبي من (50-120) ضحية من صفوف الجيش.. قتلى بالجملة واصابات بالغة وجروح طفيفة.. ارتفاع معدل الضحايا.. دفع الدولة للإستعانة بخدمات المستشفى الجمهوري بعدما عجز مستشفى السلام المغلق لطوارئ الحرب عن استيعاب الحالات المتدفقة عليه باستمرار.. بالقرب من البوابة. أمطت اللثام عن وجهي لمصافحة صديقي الموظف بالمستشفى .. نهرني بقوة وهو ينصحني بالابتعاد عن هذا المكان قبل أن تراني الحراسة.. لم أكترث به.. وبحذر شديد تخطيت الموانع وتطقس بعض المعلومات.. المتابعة الصحفية لجزئية الضحايا في المستشفيات تحتاج الى جهد مضاعف وعمل حثيث.. قد يكون التحقيق الصحفي حافلاً بمادة هامة جداً لو توفرت لصحفي امكانيات التنقل بين مستشفيات السلام والجمهوري في صعدة والعسكري والقدس بصنعاء الى جانب زيارة مدينة الحسين الطبية في العاصمة الأردنية عمان!! > بالنسبة للحوثيين.. الغموض سيد الموقف.. يداوون جراحهم بإسعافات أولية يقدمها ممرضون تنقصهم الخبرة اللازمة.. انهم ماهرون في الاستفادة من طرق العلاج الشعبي.. يسكبون العسل والسمن وسط الجروح لمنع التسمم.. الكسور العظمية يتكفل «مجبِّر» بترميم المهشمة.. يلجأون أحياناً الى النار والاستطباب بالكي.. ولاتمنع الضرورة استخدام الإبر التقليدية لرتق الجرح المتسع.. كان لديهم طبيب جراح قال الإعلام الرسمي انه لقي حتفه في غارة جوية استهدفت المنزل المخصص كعيادة طبية.. والخبر الطازج عن اختطاف انصار الحوثي لدكتور جراحة من صنعاء لتمريض المصابين في صعدة مازال غير مؤكداً وغير متداول اعلامياً.. العاملون مع الصليب الأحمر يواجهون عراقيل جمة تحول دون تمكينهم من أداء المهام الطارئة.. الوضع الصحي برمته -في صعدة- سيء جداً.. وبسبب نزعته الإنسانية.. تعرض ضابط كبير للإيقاف.. بجريمة قيامه باسعاف مصاب من مقاتلي الحوثي.. الجنود والمكبرون ينزفون حتى الموت.. وفي «حاشد» لايخلو بيت من سرداب عزاء فيما نسي أهل صعدة تقاليد «المجابرة» وطقوس المواساة!!

** هناك مقترح للتوجه غرباً.. حينما ننعطف من «فروة» سالكين طريق (ساقين/ حيدان).. سيكون الوقت قد استغرق ساعة بالضبط لحظة وصولنا سوق مديرية حيدان بعد تجاوز آلت مجزب وزقول ودخول مديرية ساقين.. المديريتان كانتا مسرح الحرب الأولى.. لولا الحرب ما سفلتت الطريق المتعثرة منذ الثمانينيات.. في «مران» ستضرب وجدانك هيبة الإسم.. جبال شامخة وبيوت مطرزة بتعديلات إنشائية سدت فجوات القذائف.. شعار الحركة الحوثية مازال مطبوعاً على الجدران ولكن بصيغة مختلفة.. بدلاً عن عبارات الموت لامريكا واللعنة على اليهود.. صارت الجملة «النظافة من الإيمان، التدخين مضر بالصحة».. مع بقاء فقرة «الله أكبر» في الأعلى و«النصر للإسلام» مكانها في الأسفل.. هناك ماهو أهم من استخدام منزل «حسين بدر الدين» بتحصيناته الصخرية مقراً لقيادة اللواء العسكري المرابط في المنطقة.. تتواصل عمليات تزويج الجنود بأرامل وفتيات من أهالي «مران» لأغراض ربما هدفها خلق تآلف وترابط أسري يمتص حزازات الإحتراب.. غير ان ممارسات تثير الحساسية تطرأ من حين لآخر.. يحاول جندي الظفر بفتاة مخطوبة لشاب من أبناء المنطقة.. يلجأ الجندي للاستقواء بموقعه لإيذاء الخطيب بتهمه الحوثية وهو منها براء.. يريد ذلك العسكور الزواج بالفتاة لكي ينجب أبطالاً صناديد وفق تأكيده لها عند بئر الماء!!

** في تلك القرية «الغجار» المتشبثة يظهر جبل يحرس ساقين.. استحوذ اتباع الحوثي مؤخراً على طقمين مسلحين من قوات الجيش.. أخلوا سبيل الجنود واعتلوا مقاعد السيارتين متجهين الى «ضحيان» عبر طريق خلفية وسط سلسلة جبلية مترامية الإمتداد.. شاركوا برشاشات الأطقم في القتال.. وموظف الاتصالات الذي اختطفوه لاصلاح محطة الهاتف المقطوع عنهم اطلقوا سراحه.. اقتنعوا بعجزه عن إعادة الذبذبات لجوالاتهم الخارجة عن نطاق الخدمة.. فجروا الاطباق كي تنقطع الحرارة عن تلفونات قادة الجيش والمتعاونين مع الدولة.. عملية التواصل عبر الهواتف تعقدت جداً.. مضت ثلاثة شهور على ايقاف خدمات الـ(جي. إس. إم) والموبايل والثابت.. قبل اكتشاف الأمر.. تمكن الحوثيون من إعادة العمل لخطوط الموبايل الخاصة بهم بطريقة تقنية معينة ذات شفرة رقمية خاصة.. وحين كشف الأمر بعد فترة.. صاروا يستخدمون حالياً أجهزة اللاسلكي المتوفرة بأسواق التكنولوجيا المحلية.. يترابطون مع بعضهم من خلال نقاط تواصل في مساحة كل عشرة كيلو متر مربع.. المناداة بالإشارة والأسماء المستعارة.. هي وسيلة اليوم.. بقية الناس يتنصتون على مكالمات الأجهزة العسكرية من خلال أجهزة «راديو صغيرة» صينية الصنع ورخيصة القيمة تلتقط منادات الإشارة ذات الرموز.. ياصخر.. ياوطن.. يا 25.. يا.....!!

أنت في صعدة.. يحدث أن تكون في مرمى الإستهداف.. قصف جوي.. وأخطاء حربية متكررة.. ذلك الفندم الذي قص علينا ماحدث في إدارة أمن ضحيان.. يحكي عن سقوط قذائف صديقة اسفرت عن عشرات القتلى والمصابين في جموع العساكر والمتطوعين.. أما الممرضة «الفلبينية» العاملة في مستشفى السلام فلا يعرف أحد مصيرها.. بذلت فوق طاقتي بحثاً عن الصور التي التقطتها لجثث محروقة تعرض للسحل في الشوارع ورميت أشلاء مقاتلي الحوثي في فناء المستشفى عقب انتهاء تلك «الجمعة» الدامية.. أثناء الحرب الثالثة نفذ المكبرون «غزوة الجمعة» على مدينة صعدة بقيادة «الدماح والجبوط» ونحو ثلاثين مقاتلاً معهم.. اقتحموا عمائر مرتفعة على الشارع العام وسط المدينة.. حدث مالم يكن في الحسبان.. احتدمت المواجهات على نحو غير مسبوق.. هوجم الجيش بالبوازيك.. الدبابات ضربت بخشونة شقق سكنية تمترس داخلها المهاجمون.. كانت جمعة لاتنسى وكان حدث استثنائي لن يتكرر بذات الصورة.. جمعة السحل وثقت لواقعة مأساوية.. في ذلك اليوم عرف الناس معنى قذارة الحرب عندما تكون بشعة ولا أخلاقية!!

** ليس لدى الحوثيين مايخافون عليه.. معنوياتهم في القمة.. الظروف تخدمهم والتعاطف غير المعلن يعزز الموقف القتالي في جبهات حرب يكتنفها غموض وتكتم وعبثية مفرطة.. ماداموا يصرون على اجتثاثنا ويحاربون لكي يستأصلوننا.. سنقاتل حتى آخر رمق.. لن نسلم اسلحتنا إلاَّ إذا جنحوا للسلم.. هكذا يرد على تساؤلاتي قائد وسطي من اصحاب الحوثي.. لكن كم عدد المقاتلين تحت لواء جماعة الشعار؟! التقديرات التي جمعتها من مصادر مطلعة تجزم بتراوحهم بين الألف والألفين فقط.. أما لو حسبنا ما تنشره الصحيفة الناطقة بلسان الجيش المقاتل في صعدة يومياً عن ضحايا المواجهات من «الشرذمة» المسماة بالإرهابية المتمردة.. فإن الرقم سيكون خيالياً.. ربما يفوق عدد ضحايا حلبجة العراقية ودارفور السودانية.. المنطق يقول بأن حسابات الحاضر بعيداً عن قراءة تداعيات المستقبل قد تقود الى مصير كارثي.. غير أن الكارثة ما فتئت تتخلى عن صعدة.. النازحون من ديارهم جراء الحرب سيصلون قريباً الى المائة ألف.. بينهم طفل صغير لا هو ولا أبواه يعرفا من بقي على قيد الحياة!!

** صاحبي الذي استعنت به في هذه الجولة.. يملك من القصص والمعلومات مايفوق احتمالي.. على تدوين المآسي.. في الطريق الى «كتاف -البقع» كان الشاعر «عبدالمحسن النمري» يلطف الجو.. صوته المنبعث من مسجلة السيارة ينعش التفكير.. كان هذا الشاب الثلاثيني مهووساً بحب الرئيس.. إنه مبدع بإمتياز.. لديه موهبة وملكة شعرية قل لها نظير.. يرتجل قصيدة شعبية عصماء من مئات الأبيات بقدرات عجيبة.. مليئة بالصور الشاعرية والتوصيفات البديعة بوزن وقافية محكمة.. هو أحد فطاحلة الشعر المغمورين.. نظم الكثير من القصائد البليغة.. متغنياً بالوطن وممتدحاً القيادة.. ظل مُحارباً ومقصياً عن الإهتمام.. كثيراً ما مُنع من المشاركة في احتفالات المناسبات الوطنية.. ظل يحفر في الصخر بحثاً عن فرصة لإثبات الذات.. هذه البيئة طاردة للمبدعين.. أصابه الإحباط وانزوى بعيداً عن الأنظار في قريته بـ«نشور».. حين اشتعلت الحرب في صعدة.. ظهر فجأة وبقوة ولمعان.. اصبح شاعر الحوثي الذي يلهب مشاعر المقاتلين بالحماس.. احرق جميع قصائده السابقة.. وصار الناس يتهافتون على كاسيتات شعرية «ممنوعة».. يصدح صوته فيها عالياً بأبيات شعر تسحر الألباب: (معك معك والله يصبرنا معك مهما حصل خذ من دمي البارود واصنع في حشاي القنبلة).

** المباغتة.. تكتيك حيوي يعتمد عليه انصار الحوثي في المواجهات.. يقطع أحدهم مسافة طويلة زحفاً لتنفيذ مهمة انتحارية.. يستقل آخرون سيارة هايلكس قديمة مطفئة الأنوار في ليل حالك حتى يصلوا لنقطة عسكرية يهاجمون افرادها ويعودون بلا مصابيح إضاءة.. كأنهم يهطلون من السماء.. هكذا يصفهم الجنود.. وهكذا يباغت «عبدالملك الحوثي» أحد الصحفيين بمكالمة من رقم غير مألوف في ساعات الفجر.. بطريقة، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.. يتجاذب مع الصحفي اطراف حوار عاصف.. يرد بثقة ولباقة على استفهامات صحفية مقصودة.. ينقطع الخط قبل اكمال الحوار.. وفي اليوم التالي.. يباغتك اتصال -تعودت عليه- من «رقم خاص» ينقل رسالة تهديد ووعيد «مكررة».. مضمونها يطلب التوقف عن الكتابة حول حرب صعدة.. وإلا ...!

*المصدر: صحيفة الثوري (جريدة الحزب الاشتراكي اليمني).


في الخميس 17 مايو 2007 04:26:22 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://video.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://video.marebpress.net/articles.php?id=1769