|
في العالم الحر يغادر رئيس الدولة موقعه محاطا بالتبجيل والتقدير ثم يتوارى ويختفي.. نحن احتجنا إلى ساحات وميادين للحرية وإلى ثورة وشهداء وجرحى كي نخلع علي صالح بعد ثلاثة وثلاثين عاما من الفساد والإفساد الممنهج الذي طال كل شيء في حياتنا بما في ذلك منظومة قيم المجتمع..ومع ذلك مازال هذا الرجل حاضرا في المشهد السياسي اليومي يسوِّق نفسه وكأنه موسى في مواجهة الفرعون..وليس لهذا أي تفسير سوى أنه من تجليات أزمة الضمير الوطني والأخلاقي وانسحاق العقل وبؤس اللحظة التي يبدو فيها الرخيص مألوفا والنفيس شاذا وغريبا.
ومن تجليات هذه الأزمة نعيق الخوف على الوحدة الذي نسمعه من صالح ومن آخرين يفترض أنهم ألد نقائضه، بينما هم في الحقيقة من جنسه ونوعه..يغايرونه في المظهر ويطابقونه في الجوهر..فالرجل حاضر ليس بمشروعه الوطني وإنما ببؤس مشاريعهم الشوهاء اللاوطنية..ولو لم يكن الأمر كذلك لما تزعَّمهم وهو شبه أمي ثلاثة وثلاثين عاما..لو لم يكن الأمر كذلك لما تطاول وزايد عليهم وهو مخلوع منقب بقانون الحصانة.
ظهر علينا بعض المحسوبين قادة على هذا الوطن المنكوب يقولون: إنهم لن يقبلوا بأي تقسيم للأقاليم يؤدي إلى الإنفصال..وهذا هو أيضا ما يقوله سيدهم المخلوع الذي لم يعد يملك شيئا في حافظته سوى مليارات مسروقة من أموال الشعب وأكذوبة الدفاع عن الوحدة في حرب 1994..لكن في الحافظة أيضا تفاصيل كثيرة عن آخرين شاركوه جريمة الحرب وغنائمها..وهم اليوم مضطرون أن يشاركوه نعيق الخوف على الوحدة لأن أحدا منهم لا يجرأ أن يقول ما لا يريد أن يقوله "الزعيم"..إنهم متوحدون معه في موت الضمير الوطني والأخلاقي.
سأحاول أن أخاطب ما تبقى من عقل وضمير في هذا البلد..سأثبت أن المواطن المقهور في الجنوب، وهو يرفع علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية دفاعا عن كرامته، أشرف وأنبل من عشرات المتخمين ممن يمارسون الدعارة السياسية في صنعاء داخل قصور فارهة مكتوب على أبوابها " الوحدة خط أحمر"..سأقيم الحجة على أن الحراك السلمي في المحافظات الجنوبية هو حراك وطني وحدوي مقدس في مواجهة النزعة المناطقية العصبوية الاستعلائية المدنسة والملطخة بدم الوحدة المغدورة..سأقول بأعلى صوتي إن الوحدة كلمة حق يراد بها أحقر أنواع الباطل وإن فك الإرتباط كلمة باطل يراد بها أشرف أنواع الحق.
أولا: سؤال اللحظة الراهنة.
السؤال المحوري المطروح منذ ستة أشهر أمام مؤتمر الحوار الوطني هو: كيف نبني دولة تقف على مسافة واحدة منا جميعا وتساعدنا على العيش كأمة متمتعة بصحة مستدامة؟..كيف نبني دولة تحمينا من العدو في الخارج ومن منتهكي القانون في الداخل؟..كيف نبني دولة تحمينا ممن يفترض أنهم حماتنا؟..السؤال المطروح على طاولة الحوار إذن ليس سؤال الوحدة وإنما سؤال الدولة باعتبارها الغائب الأكبر عن حياتنا الذي بغيابه غاب كل شيء عزيز علينا.
ثانيا: شكل الدولة تحدده القضية الجنوبية.
للإجابة على سؤال الدولة توزعت فرق مؤتمر الحوار الوطني إلى ثلاث مجموعات..فرق تبحث في قضايا موروثة عن أزمات الماضي وصراعاته وحروبه الناجمة عن غياب الدولة، وفرق تبحث في مختلف تفاصيل بناء الدولة، وفريق واحد فقط يبحث في شكل الدولة..والفريق الأخير هو فريق القضية الجنوبية..ومعنى ذلك أن شكل الدولة يجب تحديده من منظور القضية الجنوبية وليس من منظورات أخرى عصبوية أو أيديولوجية.
ثالثا: أسباب تعثر فريق القضية الجنوبية.
لا نستطيع أن نحدد شكل الدولة من منظور القضية الجنوبية إلا إذا تعرفنا على هذه القضية كما هي قائمة في الواقع، وليس كما نريدها نحن بحسب أهوائنا وتحيزاتنا وأوهامنا..ومن أجل التعرف عليها رتب فريقها في مؤتمر الحوار الوطني عمله زمنيا ومنطقيا على النحو التالي:
أولا: البحث في جذور القضية الجنوبية.
ثانيا: البحث في محتوى القضية الجنوبية.
ثالثا: الحلول وضمانات تنفيذها.
وهذا ترتيب سليم لمحاور البحث لا غبار عليه من الناحية المنهجية..والمفترض أن يفضي التشخيص الجيد للجذور والمحتوى إلى اقتراح شكل جيد للدولة يتضمن حلا سياسيا وطنيا عادلا للقضية الجنوبية..لكن مكونات الفريق تباينت في اقتراح الحل وانقسمت إلى خمس مجموعات على النحو التالي:
1 – دولة إتحادية مستقلة في الجنوب.
2 – دولة إتحادية يكون فيها الجنوب إقليما واحدا موحدا بشكل جديد.
3 – دولة إتحادية متعددة الأقاليم(مع التشديد على التداخل الجغرافي بين الشمال والجنوب في تقسيم البلاد إلى الأقاليم).
4 – دولة إتحادية متعددة الأقاليم (مع ترك معايير تقسيم الأقاليم للخبراء والمختصين)
5 – دولة بسيطة لامركزية.
ومن غير المنطقي أن تكون كل هذه المقترحات صحيحة..فهي إما أن تكون جميعها خاطئة، أو أن مقترحا واحدا فقط هو الصحيح..وعند البحث عن أسباب هذا التباين ظهر أن مكونات فريق القضية الجنوبية لم تمارس عملها بآلية الحوار التعاوني التشاركي الذي يتوخى معرفة الحقيقة أي كان مصدرها، وإنما بآلية التفاوض غير الرسمي، حيث قدم كل مكون رؤية مكتوبة في الجذور وأخرى في المحتوى وثالثة في الحلول والضمانات..وقد أتاحت هذه الآلية لكل مكون أن يكتب ما يريد وأن يتحفظ على ما يريد وأن يفسر ما يريد كما يريد..أي أن ما جرى داخل فريق القضية الجنوبية لم يكن حوارا تحركه الرغبة في استجلاء الحقيقة وإنما تفاوض تحركه المصالح والأهواء..وهذا هو سبب تعثر عمل الفريق..الأهواء والمصالح، وليس شيئا آخر.
رابعا: وطنية الحل وعدالته.
أجمعت مكونات فريق القضية الجنوبية على أنها قضية سياسية وطنية عادلة بامتياز..ومعنى ذلك أن حلها يجب أن يكون سياسيا ووطنيا وعادلا في وقت واحد..والحل السياسي هو الذي لا يختزل القضية في جوانبها الحقوقية، والوطني هو الذي يحافظ على الوحدة، والعادل هو ذلك الذي يعيد الجنوب إلى مكانته الطبيعية في المعادلة الوطنية ويمكنه من ممارسة دوره الفعال داخل هذه المعادلة..وهذه ثلاثية الحل التي لا تقبل التجزئة على الإطلاق..فالحل لا يمكن أن يكون وطنيا ما لم يكن سياسيا وعادلا في الوقت نفسه..وهذا لا يتأتى إلا باختيار شكل الدولة من منظور القضية الجنوبية.
إن منظور القضية الجنوبية بمعطياتها الراهنة لا يقبل تجزئة الجنوب إلى أقاليم، ولا يقبل تداخلا جغرافيا بينه وبين أي من أقاليم الشمال..والقول بخلاف ذلك ليس له أي تفسير سوى الإصرار على تكريس نتائج الحرب بواسطة الحوار..وهذا بالتحديد ما يريده الناعقون المتسترون بالخوف على الوحدة.
لقد تقاتل شركاء حرب 1994 في أرحب وفي الحصبة وفي النهدين وحدة وكادوا أن يجروا البلاد إلى حرب أهلية..لكنهم تصالحوا داخل فريق القضية الجنوبية..هكذا تلقائيا من غير وساطة ودون أن يعقروا ثورا واحدا..القضية الجنوبية هي عقيرتهم الوحيدة..وفضائيات حكومة باسندوة متواطئة معهم بصمتها المريب لأن معالي وزير الإعلام "وحدوي" يؤدي رقصة الوحدة على إيقاع مزمار وطبلة التجمع اليمني للإصلاح..لهذا السبب مازالت الفضائيات الحكومية خارج دائرة الفعل الوطني بعد مرور عامين على خلع سيد "الوحدويين"..وقنوات الاستقطاب السياسي تملأ الفراغ وتعمل على تشويه وتسطيح الوعي العام تجاه القضايا الوطنية الكبرى.
خامسا: ما هو الجنوب؟ وكيف يجب أن نفهمه؟
يعتقد الرأي العام في الشمال أن الخلاف داخل فريق القضية الجنوبية على أشده بين وحدويين وإنفصاليين وأنه دائر حول الوحدة وليس حول الدولة..وأخيرا راج اعتقاد مؤداه أنه إذا أبقت الفدرالية على الجنوب إقليما واحدا من غير تداخل جغرافي مع الشمال فإن هذا هو التأسيس العملي للإنفصال..فالجنوب وفقا لهذا الاعتقاد يشكل بيئة خطرة على الوحدة..لكن أحدا لم يسأل نفسه: وحدة منْ مع منْ؟ وإنفصال منْ عن منْ؟..لمقاربة هذا السؤال سنقدم أولا تعريفا للجنوب حتى يعرف القارئ اللبيب حول ماذا يدور الحديث وكيف يجب أن يدار.
1 - الجنوب جغرافيا سياسية لها تاريخها الخاص في إطار التاريخ اليمني العام..وهذه خصوصية أكسبته شخصية إعتبارية دولية مستقلة إسمها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..ولا أحد يملك الحق في أن يحاسب التاريخ على مساره الذي أفضى إلى قيام هذه الدولة..فالتاريخ له منطقه وله قوانينه، والمطلوب هو قراءته قراءة علمية موضوعية بعيدا عن التحيزات والأهواء والرغبات أيٍّ كانت دوافعها، مع الوحدة أو ضدها..والقراءة الموضوعية للتاريخ لا تقبل التسطيح القائل بأن الاستعمار هو الذي جزأ اليمن..فالاستعمار تعامل مع جنوب قائم بذاته تتنازعه سلطنات ومشيخات وإمارات، ولم يكن جزءا من الشمال الذي كان هو الآخر يعيش فترة فوضى تعدَّد فيها الأئمة.
2 – يؤمن الجنوب إيمانا قاطعا بأنه هو الذي استدعى الوحدة اليمنية من أرشيف التاريخ ونفظ عنها غبار أزمنة التشظي السابق للإستعمار بزمن طويل..فهو الذي وحد نفسه في 30 نوفمبر 1967 بعد قرون من التشظي الممانع لوحدته والرافض ليمنيته..وبدون هذه الملحمة ما كان بمقدور اليمن أن يتوحد في 22 مايو 1990..فالوحدة اليمنية - بصيغتها المعاصرة - صناعة جنوبية مركزها عدن التي رأَّسَّت الشمالي عبد الفتاح إسماعيل، وليس صنعاء التي كانت تضطر العدني إلى تزوير محل ميلاده كي يتمكن من الإقامة في الشمال.
3 – ينظر الجنوب إلى نفسه على أنه طرف أصيل في وحدة 22 مايو 1990 باعتبارها إنجازا وطنيا تاريخيا تحقق للشعب اليمني..وفي الوقت نفسه يرفض رفضا قاطعا نزعات الضم والإلحاق التي تنظر إلى وحدة 22 مايو 1990على أنها جاءت لتصحيح خطأ وقع فيه التاريخ.
4 – إن الجنوب عندما تخلى عن شخصيته الاعتبارية الدولية في 22 مايو 1990 لم يفعل ذلك لأنه أقلية سكانية قررت أن تغرق في بحر الأكثرية التي تحتويها الجمهورية العربية اليمنية، وإنما فعل ذلك كي يتكامل مع هذه الأكثرية لتحقيق إزدهار مشترك وبناء شخصية جديدة مشتركة تتلاشى معها الجغرافيا السياسية للجنوب والشمال معا لصالح جغرافيا سياسية جديدة لليمن برمته ينعدم فيها الإحساس بالأقلية والأكثرية على كل المستويات.
5 – يؤمن الجنوب بأنه جزء من اليمن..لكنه لا يقبل أبدا اعتباره جزءا من الجغرافيا السياسية للشمال..وعلى هذا الأساس يرفض الجنوب إعتبار الظلم الواقع على محافظات الشمال أساسا صالحا لمحاكمة رفضه للظلم الواقع عليه.
6 – للتخلص من نتائج وآثار حرب 1994 لا يستطيع الجنوب في الوقت الراهن أن يركن إلى ما تقرره أكثرية عددية تتنازعها عصبيات وأيديولوجيات ومراكز نفوذ وتحتاج إلى وقت طويل كي تؤسس إختياراتها على أسس وطنية عقلانية إنطلاقا من مصالحها هي وليس من مصالح مراكز القوى المتسترة بمسميات حزبية.
7 – يدرك الجنوب أنه هو الآخر تتنازعه عصبيات وأنه يعاني من آثار صراعات الماضي..لكن هذا لا يشغله أكثر مما يشغله ضغط الإحساس بالهزيمة في ظل الانقلاب على وحدة 22 مايو 1990 بواسطة الحرب..وإذا لم يستطع أن يتحرر من هذا الضغط في ظل الوحدة سوف يضحي بها..فالوحدة بالنسبة له وسيلة وليست غاية.
لكل الاعتبارات السابقة لا يقبل الجنوب التشكيك الصريح أو الضمني بوحدويته..وفي الوقت نفسه يرفض تماما إبتزازه باسم الوحدة..وقد يذهب مذاهب غير عقلانية في التعبير عن عدم قبوله باستخدام الوحدة كسلاح لإخضاعه وتدجينه.
سادسا: نشأة القضية الجنوبية.
1 – ما كان للقضية الجنوبية أن تظهر كقضية سياسية وطنية عادلة بامتياز لو أن الطرف المنتصر في حرب 1994 حقق لليمنيين حلمهم الوطني في بناء الدولة التي يتطلعون إليها..ولو أنه فعل ذلك لنظر المواطنون في المحافظات الجنوبية إلى حرب 1994 على أنها بسبب صراع على السلطة بدأ وانتهى وأصبح من الماضي.
2 - ذهب المنتصر في حرب 1994 يمارس في الجنوب جرائم وانتهاكات ممنهجة، على كل الأصعدة، لم تكن تخطر على بال أحد..وكرد فعل على ذلك ظهرت في الجنوب حركة إحتجاجية ذات طابع مطلبي حقوقي تخاطب الضمير الوطني للمنتصر..ولأن هذا الضمير ميت قوبلت الحركة الاحتجاجية بالقمع المادي بواسطة الجيش والأمن، وبالقمع المعنوي بواسطة آلة إعلامية ظلت لسنوات تضخ شعارات التسفيه والازدراء والتحقير والتخوين..وفي هذه الظروف العصيبة اكتشف اليمنيون في الجنوب ما يلي:
أ– أن المنتصر يستخدم الوحدة وشعاراتها لابتزاز الجنوب والسيطرة عليه وإخضاعه وتحويل معظم سكانه إلى فقراء ومهمشين.
ب– أنهم يدفعون ثمن حلمهم بالوحدة وتعلقهم بها وذهابهم الطوعي إليها.
ج– أنهم كأقلية سكانية لا يستطيعون التأثير في المشهد السياسي بواسطة ديمقراطية مقيدة ومشوهة تؤثر على نتائجها أغلبية سكانية مغيبة ومتأثرة بشعارات الحرب.
د - أن صراعهم مع المنتصر في حرب 1994 هو صراع وجود وليس صراعا من أجل المكانة.
3 – عندما يصبح الصراع صراع وجود يبحث الطرف المهدَّد بالضياع عن أي سلاح لإنقاذ نفسه..والسلاح الوحيد الذي توفر للجنوب المستباح هو جغرافيته السياسية وعلم الدولة التي كانت..وهذا ليس لأن الجنوبيين إنفصاليون، ولكن لأن المنتصر أغلق أمامهم كل الأبواب الأخرى الممكنة للمقاومة المشروعة..وهذا أيضا يفسر لماذا ظهرت القضية الجنوبية لصيقة بجغرافية الجنوب رغم طابعها الوطني العام.
4 - بفضل الجغرافيه السياسية إنتزع اليمنيون في الجنوب الاعتراف بعدالة القضية الجنوبية رغما عن الآلة الإعلامية التي استماتت من أجل تشويهها.
5– إن الجغرافيا السياسية للجنوب هي التي أنقذت مواطنيه في صراعهم من أجل الوجود والكرامة..وتمسكهم بها في ظل المعطيات الراهنة للقضية الجنوبية هو بالنسبة لهم من بين ضمانات الحل السياسي الوطني العادل لهذه القضية..ولهذا لن يقبلوا بتجزئة الجنوب ولا بالتداخل الجغرافي معه في تقسيم الأقاليم..فالتقسيم والتداخل ليس لهما أي معنى سوى عدم تمكين الجنوب من وضعه الطبيعي في المعادلة الوطنية.
سابعا:الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية.
1– لو أن المواطنين في المحافظات الجنوبية إستسلموا للواقع الذي أراده المنتصر في حرب 1994 لكان لذلك إنعكاسات سلبية خطيرة على المواطنين في المحافظات الشمالية الذين تعاني أغلبيتهم الساحقة من التهميش والإقصاء منذ عقود طويلة..وعلى ملايين المقهورين في الشمال أن يدركوا بأنهم لن يتحرروا من الهيمنة الواقعة عليهم ما لم يتحرر منها أربعة ملايين يمني في الجنوب.
2 - إن الحراك الجنوبي السلمي المقاوم لنتائج حرب 1994 هو من الناحية الموضوعية حراك وطني مقدس يصب في مصلحة الشعب اليمني شمالا وجنوبا ولا يجوز أن تذهب ثمار كفاحه وصموده مذاهب غير وطنية من خلال حلول شوهاء للقضية الجنوبية متسترة بقناع الوحدة.
3 – إن الطريقة التي يقدم بها الحراك نفسه للداخل والخارج كحراك جنوبي ليست اختيارا طوعيا وإنما ذهب إلى ذلك مكرها..والمسؤلية كاملة تقع على تحالف حرب 1994..وهذا تحالف عريض وواسع معروفة أطرافه التي ضللت الشعب في الشمال وكذبت عليه وغيبته لسنوات طويلة بعد الحرب ومازالت إلى اليوم تمارس عليه التضليل والتغييب بنعيق الخوف على الوحدة.
4 –إن مراكز القوى التي أشعلت حرب 1994 مستعدة للتضحية بالوحدة إذا كانت ستأتي بدولة مدنية ديمقراطية تساوي بين اليمنيين..لكنها تريد أن تأكل الثوم بفم الحراك..ولهذا نراها تجرجر الحوار الوطني من مربع الدولة إلى مربع الوحدة هروبا من استحقاقات الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية..ونقطة ضعفها الكبيرة أنها لم تعد تضمن إخضاع الشمال لسطوتها وهيمنتها في حال التضحية بالوحدة..لذلك نراها تخطط لتمزيق الجنوب على قاعدة: أنا ومن بعدي الطوفان..وهذا يفسر حكاية الإقليم الشرقي، كما يفسر حكاية إقليمين في الجنوب وثلاثة أقاليم في الشمال التي يصر عليها المؤتمر والإصلاح داخل فريق ال"8 +8".
ثامنا: تعريف القضية الجنوبية:
1 – بما أن القضية الجنوبية قضية سياسية وطنية عادلة بامتياز..إذن لابد أن تكون لها خطوط تماس مع شبكة معقدة من المصالح المشروعة وغير المشروعة في الشمال والجنوب معا..وكل طرف في هذه الشبكة ينظر إليها ويعرِّفها سياسيا من الزاوية التي تروق له..وبسبب التعدد والتباين في التعريفات السياسية تجنبت مكونات فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني البحث الجاد عن تعريفها موضوعيا.
2 – إن القضية الجنوبية من الناحية الموضوعية هي تعبير ملتبس عن هزيمة المشروع السياسي الوطني اليمني ممثلا في دولة الوحدة التي حلم بها اليمنيون وناضلوا من أجلها طويلا..وقد تمت هذه الهزيمة بواسطة حرب 1994 على النحو التالي:
أ - بعد انتخابات أبريل 1993 إختلفت أطراف الائتلاف الثلاثي الحاكم حول دولة الوحدة وطرق إدارتها..وبرغم أن هذا الخلاف كان ذا طابع سياسي يجب أن يعالج بأدوات السياسة إلا أن التعامل معه تم بأدوات الحرب تحت شعارات الوحدة.
ب – إن الوحدة كحالة عاطفية مستقرة في الوجدان الشعبي أستخدمت لتبرير الحرب التي أطاحت بالوحدة كمشروع سياسي وطني.
ج - فيما بعد أدت هزيمة الوحدة كمشروع سياسي وطني إلى تدمير الوحدة كحالة عاطفية مستقرة في الوجدان الشعبي، في الجنوب على الأقل.
3– إذا كان المشروع السياسي الوطني قد هزم بواسطة حرب رفعت شعارات الوحدة ودارت - وفقا لهذه الشعارات - بين وحدويين وإنفصاليين، فإن الإنتصار لهذا المشروع غير ممكن بواسطة الحوار إذا بقي لشعارات الحرب ظل بين المتحاورين، أو وجد بينهم من يعتقد، صراحة أو ضمنا، أنه وحدوي يحاور إنفصاليين.
4– إن من يصر على التداخل الجغرافي بين الشمال والجنوب عند تقسيم الأقاليم لايحركه بالضرورة الخوف على الوحدة..ومن يرفض هذا التداخل لاتحركه بالضرورة الرغبة بفك الإرتباط..ومن ثم ليس من الجائز أبدا تحويل الحوار الوطني من حوار حول الدولة إلى مزايدات بالوحدة.
تاسعا: جذور القضية الجنوبية:
1 – إن البحث عن جذر القضية الجنوبية في الجنوب دون الشمال ينزع عنها مقدما صفة الوطنية ويحولها إلى قضية جنوبية خالصة.
2 - إذا صح أنها جنوبية خالصة فإن الحوار بشأنها لا يستقيم إلا إذا كان حوارا جنوبيا جنوبيا لا دخل للشمال فيه سوى احترام النتائج التي سيتمخض عنها أي كانت.
3 – للقضية الجنوبية جذر في الشمال وجذر في الجنوبي، وجذرها الشمالي أكثر عمقا وأكثر تشعبا وتعقيدا، وحرب 1994 هي من التجليات العنيفة لهذا الجذر.
4– يتمثل الجذر الشمالي للقضية الجنوبية في عدم أهلية نظام الجمهورية العربية اليمنية لوحدة طوعية مع الجنوب قائمة على الندية والشراكة..والحقيقة أن هذا النظام بمركزه العصبوي وتحالفاته لم يكن قائما على الشراكة بين مكونات مجتمع الشمال أصلا..وهذا بسبب المناخ الصراعي الذي انبثقت فيه دولة الشمال وأفضى إلى هذه النتيجة.
5 –إن استئصال الجذر الشمالي للقضية الجنوبية يستوجب إعادة تأهيل نظام الشمال للشراكة مع كل مكونات المجتمع اليمني شمالا وجنوبا..وهذا غير ممكن على المدى المنظور إلا بتحديد شكل الدولة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية.
6 - لا يجوز الادعاء بأن نظام الجمهورية العربية اليمنية لم يعد قائما بعد الثورة الشبابية الشعبية التي أطاحت بالشمالي صالح وجاءت بالجنوبي هادي..وحجتنا أن حرب 1994 لم تكن بين جهتين في الجغرافيا وإنما بين اتجاهين في السياسة..وهادي ومعه باسندوة ينتميان إلى الاتجاه الذي انتصر في تلك الحرب وليس إلى الاتجاه الذي هزم..والتحجج بهما ضد الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية يعبر عن نزعات عصبوية مقيتة..وهادي رئيس يستمد شرعيته من الشعب اليمني وليس من مراكز القوى التي تمارس عليه الابتزاز.
7– يتمثل الجذر الجنوبي للقضية الجنوبية في عدم أهلية نظام الجنوب لذهاب آمن ومدروس إلى الوحدة مع نظام الشمال..وهذا بسبب صراعات نخبة الحاكمة التي شقت الوحدة الوطنية للجنوب وأضعفت دولته في ميزان القوة العسكرية مع دولة الشمال..وقد مثل هذا الضعف عامل إغراء للذهاب إلى الوحدة مع الجنوب أولا، ثم الذهاب إلى حرب 1994 ثانيا.
8– إن استئصال الجذر الجنوبي للقضية الجنوبية غير ممكن إلا بتوفير ضمانات بقاء آمن ومدروس للجنوب في ظل الوحدة تقتضي أولا إنجاز مصالحة جنوبية جنوبية حقيقيىة تقطع الطريق أمام المراهنة على تناقضات الجنوب وتشغيلها لزعزعة إستقرار اليمن برمته، وتقتضي ثانيا بقاء الجنوب إقليما واحدا موحدا بشكل جديد في ظل الوحدة.
9– إن استئصال جذري القضية الجنوبية في الشمال والجنوب يحتاج إلى مروحة كاملة من الإجراءات والتدابير المؤسسية التي لا تطال مضمون الدولة فحسب وإنما تطال شكلها أيضا من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية وليس من منظورات أخرى.
عاشرا: المحتوى السياسي للقضية الجنوبية:
1 – بما أن القضية الجنوبية قضية سياسية وطنية عادلة بامتياز فمن البديهي أن يكون لها محتوى سياسي جنوبي وآخر شمالي.
2 – يتمثل المحتوى السياسي الجنوبي للقضية الجنوبية في إخراج الجنوب من المعادلة السياسية الوطنية بواسطة حرب 1994.
3 – يتمثل المحتوى السياسي الشمالي للقضية الجنوبية في كل تفاصيل النهج السياسي الذي سار عليه الرئيس السابق منذ 7 يوليو 1994 وحتى إسقاطه بواسطة الثورة الشبابية الشعبية عام 2011..وأخطر مظاهر هذا المحتوى هو الاختطاف الوقح لمشروع الدولة وتحويلها إلى سلطة تديرها عصابات من خلال التوريث والإرهاب والأغلبية البرلمانية المريحة والسجل السيئ لحقوق الإنسان، وحروب صعدة، فضلا عن استخدام المال العام في إفساد الحياة السياسية.
4– إن معالجة المحتوى السياسي الجنوبي للقضية الجنوبية تستوجب إعادة الجنوب إلى وضعه الطبيعي في المعادلة السياسية الوطنية..ومعالجة محتواها الشمالي تستوجب إعادة الاعتبار لدولة الوحدة بمضامين وطنية ديمقراطية الأصل فيها هو الشراكة والمواطنة المتساوية.
حادي عشر: الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية:
1– في ظل المعطيات الراهنة للقضية الجنوبية لا يمكن للدولة الإتحادية أن تقوم إلا على المناصفة بين إقليمين أو على المساواة بين عدة أقاليم..وفي الحالتين يجب أن يكون الجنوب إقليما واحدا موحدا بشكل جديد..وليس شرطا أن يقوم تقسيم الأقاليم على التداخل الجغرافي بين الشمال والجنوب..ولا يجوز إستخدام الوحدة للإبتزاز في هذه المسألة.
2 – إن المناصفة بين إقليمين ستولد شعورا بالغبن لدى الأغلبية العددية في الشمال، ومن حقها أن تغلب خيار المساواة بين ثلاثة أو أربعة أقاليم كحد أعلى (واحد في الجنوب وثلاثة في الشمال)..وإشهار الإقليم الأوسط مكونا من محافظتي تعز وإب، كحد أدنى لا يقبل الخصم منه، هو مبادرة ذكية قوبلت بالتعتيم، خاصة وأن القائمين على هذا الإشهار تصرفوا بذهنية وطنية تراعي حساسية اللحظة الراهنة وتدرك أهمية هذا الإقليم بالنسبة لاستقرار اليمن وبناء دولته ودوام وحدته..ولذلك نأوا بأنفسهم عن التجاذب السياسي وقدموا خطابا متوازنا.
3 – إن خيار المناصفة بين إقليمين ليس حلا ما لم يقسم كل منهما إلى ولايات وكل ولاية إلى محافظات...الخ وهذا يحتاج إلى جهاز بيروقراطي كفؤ يفتقر إليه اليمن.
ثاني عشر:منطلقات للتفكير في الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية.
تقتضي المعالجة الموضوعية للقضية الجنوبية التعامل معها بقدر كاف من العقلانية السياسية بعيدا عن الأهواء والرغبات والتحيزات..وفيما يلي مجموعة من المنطلقات الموضوعية للإسترشاد بها عند التفكير بالحلول والضمانات.
1 - إن الخلاف القائم منذ أغسطس 1993 هو خلاف حول دولة الوحدة وليس حول الوحدة.
2 - إن الوحدة أستخدمت ذريعة لإشعال حرب 1994.
3 – إن حرب 1994 عمقت أزمة دولة الوحدة وجعلتها أكثر تعقيدا.
4 – إن القضية الجنوبية تعبر عن أزمة في الدولة، وليس عن أزمة في الوحدة.
5 – إن الدفاع عن الوحدة في مواجهة القضية الجنوبية هو عمليا دفاع عن نتائج حرب 1994.
6 – إن شعار فك الإرتباط ليس شعارا مناوئا للوحدة، وإنما لدولة الوحدة بوضعها الراهن الذي يحمل سمات وخصائص دولة الشمال ونظامها السياسي.
7 – إن الحراك الجنوبي هو من الناحية الموضوعية حراك وطني يعبر عن قضية سياسية وطنية بغض النظر عن الطريقة التي يقدم بها نفسه داخل فوضى المشهد السياسي اليمني المليئ بالتعقيدات والمناورات.
8 – إن دولة الوحدة بوضعها الراهن مشكلة..واستعادة دولة الجنوب مشكلة أكبر منها.
9 – إن الحل يكمن بتوافق اليمنيين على دولة بمضمون وشكل جديدين.
10 – إن شكل الدولة يجب تحديده في ضوء التشخيص الدقيق والموضوعي لجذور القضية الجنوبية ومحتواها.
11 – إن الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية فرصة تاريخية أمام أبناء الشمال قبل أبناء الجنوب.. وإلا فلا معنى لأحاديثهم حول الدولة المدنية الديمقراطية.. وأيضا لا معنى لتعلقهم بالوحدة إلا من قبيل التعلق العاطفي الغنائي غير العقلاني الذي لا يرفع الظلم عن الجنوب، ولا يجلب العدل للشمال.
12 – إن الفرصة التاريخية المتاحة أمام اليمنيين من خلال الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية مرشحة للضياع إن هم إنحرفوا بالحوار من حوار حول الدولة إلى حوار حول الوحدة.
13 – إن الحوار حول الوحدة لا يستقيم إلا على أساس شمال وجنوب.. أما الحوار حول الدولة فهو حوار بين اليمنيين مصنفين على أساس سياسي وليس على أساس جهوي.
14 – إن الحراك الجنوبي في الحوار الوطني لا يمثل الجنوب إلا من حيث أن الجنوب ضحية مباشرة لحرب 1994 في جوانبها الحقوقية.. أما من الناحية السياسية فالحراك هو حامل اجتماعي للقضية الجنوبية كقضية وطنية يتعذر في الظروف الراهنه حلها حلا سياسيا لصالح الشعب اليمني في الشمال والجنوب دون حضوره الفاعل والمؤثر.
15– إن الحكم على حرب 1994 يجب أن ينطلق من نتائجها في الجنوب على الأقل، وليس من شعاراتها في الشمال.
16 - إن نتائج الحرب في الجنوب ليست لصالح الإدعاء بأنها كانت حربا من أجل الوحدة.
17 - ليس مقبولا اليوم من أي طرف شارك في حرب 1994 أو أيدها أن يتذرع بالخوف على الوحدة لفرض حلول سياسية بواسطة الحوار يعلم أن شروط قبولها غير متوفرة من منظور الحل السياسي الوطني العادل للقضية الجنوبية.
18– إن الخوف على الوحدة ينطوي على اتهام مبطن بأن الجنوب بيئة خطرة عليها..وليس لهذا أي تفسير سوى تكريس الاعتقاد الخاطئ بأن حرب 1994 كانت حربا مشروعة ومبررة.
19– إن الإصرار على التداخل الجغرافي بين الشمال والجنوب في تقسيم الأقاليم ليس مقبولا في ظل المعطيات الرهنة للقضية الجنوبية إلا إذا قدم المنتصر في حرب 1994 إعتذارا للشعب اليمني بالطريقة التي يحدد شكلها ومضمونها وإجراءاتها وشخوصها الحراك الجنوبي السلمي وليس غيره.
20– إن الخوف على الوحدة في ظل المعطيات الراهنة التي تتجلى فيها القضية الجنوبية ليس له أي مصداقية ما لم يعبر عن نفسه من خلال الحرص على البناء المحكم للمضمون الوطني المدني الديمقراطي للدولة الوطنية، وليس على الوحدة التي لا خلاف حولها من حيث المبدأ.
في الخميس 03 أكتوبر-تشرين الأول 2013 03:51:28 م