نداء إلى أغنيائنا: حاكوا BILL GATES
العفيف الاخضر

"إذا قتل الفقر اليتيم ولم يجد معيلا فإن الأغنياء جناة"

(شاعر النيل حافظ إبراهيم مترجم كتاب البؤساء)

فى 17 /6 / 2006 نشرت اليومية الفرنسية "لوفيغارو" في صفحتها الأولى العنوان التالي:"بيل غيتس يغادر ميكروسوفت لخدمة الإنسانية" قائلة: "المؤسس والزعيم العالمي لبرامج ميكروسوفت، بيل غيتس سيغادر تدريجياً وظائفه في قيادة المجموعة من هنا إلى 2008 كي يستطيع تكريس نفسه للمؤسسة الخيرية التى أنشأها مع زوجته Melinda . أراد الإنسان الأغنى في العالم، لكن أكبر واهب على وجه الأرض، أن يقضي وقتاً أكثر في العمل من أجل الصحة والتعليم". والأكثر إثارة للعجب والإعجاب قراره الثاني والفريد في تاريخ أغنياء العالم المعاصرين على حد علمي: تخصيص 95 %من ثروته الأسطورية للعمل الخيري وتوريث أطفاله الثلاثة 5 % من ثروته فقط. "مؤسسة غيتس" وهبت لحظة تأسيسها 29 مليار دولار لخدمة الإنسانية المتألمة. أنفقت منها حتى الآن على العمل الخيري 9 مليار منها 5,5 مليار لمكافحة الأمراض في العالم. كلما حلّ هذا الواهب النادر، تلاحظ اليومية الفرنسية، في نيودلهي أو أكر أو جوهانسبرج ينصرف لأحياء الصفيح فيها للتعرف بنفسه على حالة فقرائها. الـ29 مليار المخصصة للمؤسسة تساوى نصف المبلغ الذي تقدمه جميع دول العالم الغنية كل سنة لمساعدة البلدان الفقيرة بعنوان "المساعدة على التنمية". في عام 2004 أنفقت المؤسسة مبلغاً مساوياً لما أنفقته منظمة الصحة العالمية على مكافحة المرض. مكافحة الملاريا،السل،الإيدز وعلى حملات التطعيم.

الزوجان غيتس يؤمنان، كما تقول لوفيغارو، بأن "التنمية الاقتصادية مستحيلة دون سكان في صحة جيدة". وهكذا استطاعت مؤسسة غيتس تطعيم 55 مليون طفل ضد الأمراض. قرر الزوجان المحسنان القضاء في حياتهما على الملاريا، والدفتيريا"الخناق"، والإيدز. الزوجان المحسنان يعرفان صناعة القرار الحديثة التي مازالت شبه غائبة في أرض الإسلام. وهكذا أحاطا نفسيهما بفريق من أكثر العلماء كفاءة وخبرة لتحرير برامج علمية لتحقيق هذا الهدف كما نجحا في ضم مستشاري إدارة كلينتون لفريقهما.

كثير من الأغنياء، تلاحظ لوفيجارو، تهكموا على غيتس متهمينه بأنه يريد تبرئة ذمته بالعمل الخيري الذي يخصص له نسبة متواضعة من ثروته. أما الآن وقد قرر الزوجان تخصيص 95 % من ثروتهما الطائلة، مئات مليارات الدولارات، للإنفاق على الصحة والتعليم في العالم فقد قطعت جهيزةٌ قول كل خطيب.

يا أغنياء العالم العربي أرجو أن تخاطب مبادرة هذا الأمريكي العظيم وعيكم السياسي وضميركم الأخلاقي للانخراط في مسعى خيري مماثل. قناعتي العميقة والمدروسة هي أن العامل الأول لانهيارات العالم العربي المتلاحقة وعجزه عن مواكبة موجات الحداثة التي تتدفق على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ سقوط جدار برلين الذي كان آخر جدار صيني تطيح به الحداثة أرضاً، هو سوء صناعة القرار. في الدول المتقدمة، القرار تصنعه المؤسسات وخاصة المؤسسة العلمية: الجامعات والمعاهد المتخصصة حصراً في صناعة القرار. أما في العالم العربي فيصنعه الهذيان: هذيان الحكم الفردي الذي غالباً ما يجد في جمهور أمته، التي لا تقل عنه هذياناً، خير مشجع للمضي في هذيانه حتى النهاية الكارثية: إعلان عبد الناصر الحرب في 1967، وضم صدام للكويت عام 1990، وإعلان عرفات –أو على الأقل تشجيعه – للانتفاضة الفلسطينية سنة 2000، وإصرار صدام عام 2003 على أن أمريكا لن تحاربه وإذا حاربته فسيهزمها جيشه شر هزيمة. هذه بعض الأمثلة الصارخة على هذا الهذيان المشترك بين الأمة وحكمها الفردي.

بإمكانكم، أيها الأغنياء، تلافي النتائج الكارثية لتخلف صناعة القرار بإنشاء معاهد علمية لصنع القرار العقلاني المدروس في المجالات الإستراتيجية التي أهملت النخب الحاكمة معالجتها مثل نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني، إصلاح التعليم، حرمان المرأة، غير المسلم، والأقليات من حقوق المواطنة بسبب اعتبار الشريعة صراحة أو ضمناً مصدراً للتشريع، إن لم تكن مصدر التشريع أو كل التشريع كما في بلدان الخليج، والأمة الإسلامية فوق الأمة القومية، إن لم تكن نفياً لها، والجهاد ذروة سنام التعليم الديني، وإخضاع البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني للرقابة الدينية.

اجعلوا هيئاتكم الخيرية مسئولة عن تنفيذ القرارات الواقعية التي اتخذتها في مجالات اختصاصها. أما في المجالات التي تهيمن عليها الدولة فدوركم هو أن تكونوا سلطة اقتراح لتنوير صاحب القرار بالمقاربة الأمثل للمشكلات. لا يكفي أن تقدموا القرار الذي تقترحونه خفية لصاحب القرار، بل قدموه في وضح النهار له وللنخب الثقافية والسياسية، وللجمهور العريض، ليكونوا جميعاً قوى ضغط على النخب الحاكمة عسى ولعل ... أن تعود إلى شيء من صوابها إن ترك الهذيان لها صواباً. أوليات تدخلكم يقررها صناع قراركم الخيري كما فعل بيل غيتس. فيما يخصني أري أولويتين لهما الأولوية على جميع الأولويات: نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني، التي تأكل الأخضر واليابس، وإصلاح التعليم والتعليم الديني المنتجين للعاطلين وأنصاف الأميين، والإرهابيين والمصفقين للإرهاب.

القنبلة السكانية هي التحدي الأول للتنمية في العالم العربي. نصف المجتمع من النساء المحرومات من العمل، عادة من الأمهات الأميات المتخصصات في إنتاج الأفواه اللامجدية. وحوالي نصف السكان من الأطفال دون الخمس عشرة عاماً. معنى ذلك أن الأقلية العاملة تنفق على غير المنتجين نساء ورجالاً وأطفالاً. والادخار، عصب الاستثمار، في أدنى مستوياته، والرساميل تفكر مرتين قبل الاستثمار قرب براميل البارود، وجواذب الاستثمار، وفي المقدمة منها عمال القرن الحادى والعشرين: التقنيين، المهندسين، الباحثين، العلماء والأطباء، نادرون. والقلة المتوفرة منهم لا ترى لها مستقبلاً إلا في الهجرة القانونية أو السرية إلى الغرب، المرهوب والمرغوب، كما يقتضي قانون فصامنا الجماعي. فشل صناع القرار – باستثناء صناع القرار التونسي – في نزع فتيل القنبلة السكانية جعل متوسط معدل النمو الاقتصادي في العالم العربي 3 % ومتوسط معدل النمو السكاني 3,30. هذا المعدل يتطلب أن يكون متوسط معدل النمو الاقتصادي الضعف + 1 معنى ذلك اقتصادياً عجز بنيوي عن التنمية المستدامة التي هي اليوم مطلب البشرية. وفي المقابل تنمو جميع العوامل السالبة بمعدلات هندسية: الفقر وما تحت الفقر، التهميش، البطالة، الأمية، الجهل، المرض، أزمة السكن وانهيار البنية التحتية والبيئة، الجنوح، غياب الوعي بحقوق الإنسان والمواطن، تأبيد النظرة الدينية الدونية للمرأة، وغير المسلم، والحقد على الغرب "الكافر"،"الاستهلاكي"، و"المبذر"، تفاقم الفوارق الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء في كل بلد وعلى الصعيد العالمي. عواقب قنبلة الانفجار السكاني هذه تشكل توابل الإرهاب، والفوضى المحلية، الإقليمية والدولية الدامية: التي لاحت نذرها في الصومال وفي عشرات دول الجنوب التي انهارت فيها الدولة عملياً أو بدأ الانهيار يدب إليها. أعتقد أن هذه الوقائع تشكل مبررات كافية لإعطاء الأولوية لنزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني. تشكيل فرق بحث مختصة من الديمغرافيين لدراسة التجارب الصينية، الهندية والتونسية لاقتراح حلول لمعضلة الانفجار السكاني وعواقبها، مهمة راهنة بالنسبة للأغنياء الواعين بأن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم رهن بحل المشاكل المزمنة التي تأخذ بخناق أممهم التي تزداد فقراً بقدر ما يزداد مصاصو دمائها غنى.

التعليم: قال الملك محمد السادس واصفاً التعليم بمملكته بأنه يعلم الأجيال الطالعة: "الرد على الأسئلة الصعبة بأجوبة سهلة". وشخص الأمير طلال بن عبد العزيز التعليم في السعودية والعالم العربي تشخيصاً دقيقاً: "نظام التعليم في بلدان العالم العربي هو سبب البلاء والتخلف الكبير الذي نشهده في مختلف المجالات" (القدس العربي 5/5/2006) وكان بإمكانه أن يضيف وعداء المواطنة الكاملة للمرأة وغير المسلم والتحريض على الجهاد والكراهية. ألا يقرأ التلميذ السعودي في مناهج التعليم الديني: "إذا كنت في دار الكفر للتجارة أو للدراسة أو للتطبب فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم"؟ (انظر مقالي: كيف ننتقل من المدرسة السلفية إلى المدرسة العقلانية؟ إيلاف 30/4/2004).

كمياً: قنبلة الانفجار السكاني تجعل مدرسة SCOLARISATION جميع الأطفال استحالة. وهكذا فأكثر من ثلث الأطفال لا يدخلون المدرسة، والثلث يغادرها قبل إنهاء التعليم الإعدادي أو الثانوي، ونسبة كبيرة من المتسربين من المدرسة يسقطون في الأمية. نوعياً: محتوى المناهج يحيل المسلم المسالم إلى عنيف، والعنيف إلى إرهابي. فضلاً عن تكفير قيم الحداثة وغرس بذور الكراهية، والجهاد في "الكفار" إلى قيام الساعة.. يكّون التعليم جيوشاً مصابة بطاعون عداء عصرها ومعاصريها بدلاً من تكوين عمال القرن الحادى والعشرين الضروريين لكم، أنتم الأغنياء، قبل غيركم.

في عصر ثورة الاتصالات، وهذا ما سيأكده لكم خبراؤكم، الدراسات الأكاديمية التي لا تنتشر بين النخب ولا تصل إلى الجمهور العريض ليتبناها ويدافع عنها محكوم عليها بأن تظل حبراً على ورق. لذا عليكم التفكير في إيصال برامجكم ودراساتكم الميدانية وقراراتكم المدروسة إلى أكبر عدد من الناس عبر مواقع الانترنت، الإذاعة، التليفزيون، والصحافة، والمجلات المتخصصة. دعاة الظلامية منكم أنشئوا "الجزيرة" و"اقرأ" و"المنار"… فكيف لم يرد حتى الآن عليهم رواد التنوير منكم بجزيرة، واقرأ،ومنار في الاتجاه المعاكس؟.

أيها الأغنياء

لا أقول لكم خصصوا 95 % من ثرواتكم للعمل الخيري، لانتشال بلدانكم من الهاوية التي سقطت فيها أو تتقدم إليها بخطي حثيثة، ولا أقول لكم خصصوا 50 % منها لإخراج شعوبكم من الهمجية إلى الحضارة، ولا أقول لكم خصصوا لهذا الهدف الجليل نصف أرباحكم فقط . بل فقط أقول لكم اسألوا الأخصائيين واستمعوا إلى ما تمليه عليكم ضمائركم ووعيكم السياسي لتحاولوا انتشال أممكم من التأخر التاريخي الذي تكابده منذ قرون،ومن تفكك نواة نسيجها الوطني فضلاً عن عجزها المزمن عن صهر قبائلها وطوائفها المنغلقة على نفسها في دول قانون حديثة، فيدرالية أو لا مركزية، تعطي لكل ذي حق حقه حتى تنصرف للتنمية بدلاً من الانصراف إلى قمع أقلياتها القومية وطوائفها الدينية ومواطنيها المهضومي الحقوق.

كيف لم يستيقظ حتى الآن ضمير الأغنياء الفلسطينيين لتكوين صندوق تضامن وطني، على غرار صندوق التضامن الوطني التونسي 26/26 ، لإطعام شعبهم الذي يبحث في المزابل عما يسد به الرمق؟! 43 % من الأسر في غزه تكابد الفقر، و51 % تكابد ما تحت الفقر! مثل هذه المبادرة ستكون أفضل مدخل لرجال الأعمال الفلسطينيين لمحاولة إنقاذ السلطة الوطنية الفلسطينية من ديكتاتورية الميليشيات التي شبت على القتل والفوضى، وإذا تركت لمنطقها الخاص، فستشيب عليها. أين منيب المصري، الناطق باسم أغنياء فلسطين، لمساعدة أبناء شعبه على الإفلات من المجاعة وفوضى الميليشيات؟.

دور العمل الخيري ودور الإحسان للعلم والأدب والفن مدعوان لتعويض – أو على الأقل تكميل – دور الدولة والهيئات الدولية. يقول جاك أتالي، رئيس معهد المستقبليات الفرنسي، أن العولمة، فضلاً عن أزمة الدين العام، أضعفت دور الدولة في الإنفاق على البحث العلمي والثقافة. من هنا ضرورة العودة إلى إحسان Mecenat  الأغنياء الذين مولوا في القرن الخامس عشر عملية الترجمة العودة والتأليف لتأسيس عصر النهضة الأوربي الذي كان المحطة الأولى لعملية الحداثة التي لا تكتمل أبدا.

دور عملكم الخيري في مكافحة الآفات التي يكابدها عشرات الملايين من مواطنيكم، ودور إحسانكم للعلم والأدب والفن في النهوض ببلدانكم رهن ببعد نظركم ويقظة ضميركم وإرادتكم الصادقة في الإقتداء بتجربة بيل غيتس التي دشنت منعطفاً جديداً في تاريخ البشرية: تفوق المبادرة الخيرية الخاصة على مبادرة الدولة -الأمة والأمم المتحدة معاً في التصدي للتحديات الكبرى التي تتحدى الإنسانية المعاصرة تحدى البقاء أو الفناء لترجيح إمكانية تقدم جديد إلى المستقبل على إمكانية نكوص جديد إلى الماضي الهمجي: ماضي حروب الديانات. عادة الناس، أفراداً وجماعات، يتصرفون بالمحاكاة. فحاكوا بيل غيتس في معجزته الخيرية.

وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم

 وتأتي على قدر الكرام المكارم (المتنبي).

 

 
في الثلاثاء 27 يونيو-حزيران 2006 08:43:54 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://video.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://video.marebpress.net/articles.php?id=288