الحرب الأخيرة: عن إذلال المنتصر
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري
 

تقول حكاية شعبية إن رجلاً التقى بقرة في جبل فأراد أن يطأها. وكان كلما رفع جلابيته "زنته" إلى فمه وخلع نعليه خطت البقرة خطوات إلى الأمام. أعوزه الأمر، وذهب يغمغم متوسلاً بالصالحين لكن البقرة لم تمنحه الفرصة. دنت الشمس من الغروب فسمع الرجل، وسمعت البقرة، صوتاً مخنوقاً لامرأة. انطلق الرجل إلى مصدر الصوت فوجد ثلاثة رجال يحاولون اغتصاب فتاة شابة. ركض صائحاً ومزمجراً ففر الرجال واختفوا في الجبل. وقفت الفتاة أمامه وكانت جميلة حتى إن عيني الرجل لم تستطيعا أن تستوعبا جمالها. لا مبالغة في ذلك فما من لغة قد بلغت من النضج حد أن تحيط بجمال فتاة قروية. وهي تمسح دمعها همست: لا أدري كيف أرد لك الجميل. ثم قالت، والأرض تدورُ بالرجُل: اطلب مني ما تشاء، أنا تحت أمرك. تلعثم الرجل، ثم سألها وهو لا يكاد يصدق ما يسمعه: أي شيء؟ أجابت الفتاة: أي شيء. انفرجت ملامح الرجل، واندفع قائلاً: ممكن تمسكي لي البقرة خمس دقايق بس.

في البدء كنتُ أعتقد أن لهذه القصة اتصال بما سأكتبه. أما الآن فلم أعد متأكداً من وجود تلك العلاقة. ومع ذلك فأنا أعرف أن هذه القصة العظيمة تصلح مدخلاً لأي حديث عن الحرب والسياسة في اليمن بشكل عام. وأنها بعد مائة عام ستكون لا تزال قصة جيدة وصالحة تماماً كما هي الآن، وأنها ستدفع الكثيرين للبكاء والصلاة.

الإمارات تكيل مزيداً من الإذلال لليمنيين. هذه المرة نال "الزبيديون" النصيب الأكبر منه. تحدث الزبيدي، بالصوت والصورة، عن الأحداث الأخيرة قائلاً إنها كانت ضرورية لطرد القوات المسلحة الشمالية من الجنوب. حدثت الحرب الأخيرة بين تشكيلات مسلحة جنوبية، لأسباب غير جنوبية. يعتقد الزبيدي أن بمقدوره أن يقول أي شيء في أي وقت، وأن أحداً لن ينتبه لتفاهة ما يقوله. سبق للمفكر السياسي اليمني/ الجنوبي مسدوس أن وصف الزبيدي قائلاً: محارب كجبل، لكن عقله هكذا (قارب بين سبابته وإبهامه).

ولكن لماذا حدثت هذه الحرب الأخيرة؟ وما الذي ترتب عليها؟

قبل حوالي عام من الآن التقى وفد رئاسي بمسؤولين عسكريين إماراتيين وقدم لهم عرضاً. قال الوفد الرئاسي إن هادي يبدي موافقة مبدئية على خروج الحماية الرئاسية من عدن شريطة أن تذهب تلك القوات إلى تعز وتساهم في القتال هناك. كان الإماراتيون قاطعين في مطالبهم: لا، بل إلى صرواح. أي: إلى أبعد ما يكون.

لدى الإمارات حساسية مفرطة تجاه أي مؤسسة ذات طبيعة استقلالية. في ظروف بعينها تشمل هذه الحساسية الأفراد أيضاً. هذا النهار وصلتني رسالة من أحد خبراء السياسة اليمنية، كانت الرسالة على هيئة سؤال: هل وصل إلى علمك أن الإمارات استدعت ضابطاً واحداً من العسكريين الجنوبيين الذين أقالهم صالح وطلبت منه العمل معها؟

لا تفعل الإمارات ذلك، فهي تفضل العمل مع أناس يتحدثون عن الشرف لكنهم لا يتذوقونه، وعن الكرامة التي لا يبحثون لها عن معنى.

انظروا:

تأزمت العلاقة بين هادي والإمارات فدفعت الإمارات بعض كتائبها إلى مواجهات القوات الرئاسية. يمتلك عيضروط، كما يسميه أبو النصر، ما يزيد عن أربعة آلاف مقاتل، يتمركزون بشكل رئيسي في جبل حديد. في المقابل تتوزع الحماية الرئاسية على أربعة معسكرات، كما تملك المنطقة العسكرية الرابعة، مقرها عدن، حوالي ٨٧ ألف مقاتل. ثمة خارطة معقدة للقوة العسكرية في عدن: فالحزام الأمني الموالي للإمارات يملك قوة أمنية متوسطة التسليح واسعة الانتشار، كما يمتلك التيار السلفي الموالي للسعودية لوائين كاملين، فضلاً عن ألوية شرطية تتبع شلال شائع، بالإضافة إلى قوات التحالف العربي. هناك، كما قلنا، ألوية الحماية الرئاسية، وألوية المنطقة العسكرية الرابعة. تعيش عدن على هيئة معسكر كبير.

تمام الساعة السادسة مساء، ٢٩ يناير، كانت قوات هادي تحاصر قوات الزبيدي في جبل حديد. جاءتهم تعليمات صارمة من الرئاسة: سنصدر بياناً حكومياً يدعو للتهدئة، لا تلتفتوا إليه، ولا بد أن تكملوا المهمة .كان رجل هادي مطمئناً لسير المعركة، ووعده بصور من دخل معسكر الزبيدي. أصيب الشعيبي، قائد لواء الزبيدي، وشارف اللواء على الانهيار.

انطلقت حملة إعلامية جنوبية تتحدث عن معركة استقلال. في الواقع لم تكن سوى حرب محدودة أرادت من خلالها الإمارات إنجاز بعض المهام العالقة في أجندتها. لا تريد الإمارات حرباً مفتوحة، فهي لا تريد أن ترث الحكومة ولا تتحمل تبعات انهيارها. حرب محدودة، ذلك ما كانت تريده، أي معركة يمكن التحكم بنتائجها. استمرت الأصوات الزاعقة تتحدث عن التحرير، عن الاستقلال، عن المقاومة الجنوبية. سقطت كل تلك الجوقة البلازمية للمرة الألف في الخديعة الألف. صنعت الإمارات انقلاباً عسكرياً مؤقت المفعول. هي تقول، بطريقة واضحة: يمكنني أن أفعل بهذا البلد ما لا يمكنكم توقعه.

من معسكرات الإمارت خرجت قوة عسكرية ضاربة، وفي الظلام شنت المقاتلات الإماراتية هجوماً عنيفاً على معسكرين من معسكريات الحماية الرئاسية، وتغيرت الموازين بسرعة. طلبت الرئاسة من قائد المنطقة العسكرية التدخل لإنقاذ الحرس الرئاسي لكنه تلكأ معتذراً بتهديد صريح ومباشر تلقاه من قادة التحالف. تفهمت القيادة السياسية موقف جنرالها المحاصر. انحسر الليل عن الإذلال الأول: انهيار معسكرين من معسكرات الحماية الرئاسية الأربعة. ثم انحسر النهار عن الإذلال الثاني: قيام التحالف بطرد قوات الزبيدي والحزام الأمني من المعسكريين الرئاسيين.

هكذا كانت المعركة: ذهب الزبيديون إلى الحرب كمقاومة جنوبية تصبو إلى الاستقلال، ثم عادوا من الحرب تاركين خلفهم مئات القتلى والجرحى، سقطوا في معركة زائفة.

على هامش الحرب تلاسن أبو بكر العطاس وعبد الملك المخلافي، وقال الأخير للأول: من هو الجنوب؟ ومع من نتحدث بوصفه الجنوب؟ أنت جنوب، ورئيسك جنوب، وهذا جنوب، وذاك جنوب، تهنا بينكم.. من فيكم الجنوب، وماذا يريد هذا الجنوب؟

بعد التصعيد الإماراتي جاء الدور على السعودية للعب الوسيط. العرض الذي قدم لهادي، خلال الساعات الماضية، يقترح التالي: تشكيل قوة أمنية تتبع التحالف العربي تكون مهمتها ضبط الأمن في محافظة عدن. كذلك: تسليم معسكرات الرئاسة إلى قوة سلفية توالي السعودية. من الأسماء السلفية المقترحة: حمدي الصبيحي. ما هي طبيعة "القوة الأمنية التابعة للتحالف"؟ وهل ستحل محل هادي والزبيدي معاً؟ أما ستكون خليطاً من هادي والزبيدي؟ ما مصير الحماية الرئاسية وميليشيات الزبيدي؟ كل هذه الأسئلة لا تزال قيد التداول، ولا إجابات.

إذا خسرت السعودية حليفها الإمارات فسينهار التحالف بشكل رأسي، وإذا خسرت الحكومة الشرعية فستنهار حربها في اليمن. داخل هذه الموازنات تجري السعودية والإمارات حروباً مدروسة تؤدي مهاماً دقيقة ذات طبيعة استراتيجية.

بالنسبة للإمارات فإن الحرب التي خاضها الزبيدي مؤخراً حققت هدفاً استراتيجياً. يتمثل الهدف في إخراج قوات هادي من العاصمة عدن، وإفساح المجال لها لإعادة هندسة المحافظة الأهم أمنياً وعسكرياً.

بالنسبة للزبيدي فقد ذهب في مهمة وعاد. في المهمة تلك سقط قتلى وجرحى كثيرون، وتوالدت حزازات وثارات بعيدة المدى. عقل الزبيدي لا يستوعب المسائل المركبة.

يدرك الجنوبيون الآن أنهم وقعوا، من جديد، في خديعة. فالمقاتلون الذين سيطروا على معسكرات الرئيس معتقدين أنهم يخوضون حرب استقلال .. عادوا كما طلب منهم، تاركين كل مكاسبهم لصالح المهزومين. في طريقهم رأوا جثث أصدقائهم، وتساءلوا: لماذا حاربنا إذن؟

إنه إذلال بالغ الفداحة والقسوة.

رفض بن دغر مغادرة معاشيق، وجاءت التعليمات إلى مسؤولي الحكومة تطلب منهم عدم مغادرة العاصمة عدن. بقي بن دغر في "مكان" عمله، وتلاشى كل المنتصرين من الشوارع. لا يمكن لرجل يحترم نفسه أن يصف حكومة بن دغر سوى بالفساد وقلة الكفاءة. لا علاقة للزبيدي بالحكومة، هو يرفض أن يضع الرتبة العسكرية على كتفيه لأنها تشير إلى الجمهورية اليمنية. هو انفصالي يخوض حروباً لا علاقة لها بمشروع الانفصال.

معاشيق ليس قصراً بل مجمعاً كبيراً يحتل الجزء الأبرز من حي كريتر. لم يدخل المنتصرون إلى قصر الرئيس، ولم يلتقطوا الصور أمامه. كان ذلك سيفسد المهمة المدروسة. فمن شأن صورة كتلك أن تعطي انطباعاً عن انقلاب عسكري ناجز في عدن تحت إشراف التحالف العربي. هل يكترث التحالف العربي لمصداقيته؟ ربما عند الحدود الدنيا. لا بد من إذلال الرئيس وهزيمته، مع الحفاظ على "فخامته" وقصره، والتوسل إليه في الوقت نفسه كما لو أنه هو المنتصر. ذلك ما فعله الحوثيون في صنعاء أيضاً/ بالطريقة نفسها.

انتهت آخر عمليتي إذلال تعرض لهما الرئيس في صنعاء: الأولى باتفاق السلم والشراكة، والثانية بوضعه تحت الإقامة الجبرية بعد انهيار حرسه الرئاسي.

 

ما الذي أراده الزبيدي؟ تحدث عن: طرد القوات الشمالية، عن التحرير، عن إقالة الحكومة الفاسدة، عن حماية المتظاهرين، عن الشراكة الحكومية، عن الاستقلال الجنوبي، عن حرب تستهدف الإصلاح ... إلخ. في الختام قال إنه عازم على العمل مع طارق صالح من أجل تحرير صنعاء، صنعاء التي وصفها بكلمة واحدة "العاصمة".

لا يمكنك أن تذهب إلى حرب مستنداً إلى خطاب شديد التناقض كهذا. ذلك ما جعل الزبيدي يكسب الحرب ويخسر المعركة. فالحرب التي قال إنها وطنية تهدف إلى طرد الجيش الشمالي قتل فيها الزبيدي جيشاً جنوبياً خالصاً. قال في الختام: سندعم جيشاً شمالياً يقوده طارق صالح. لكن الزبيدي، في الكلمة الأخيرة، كان واضحاً. فقد قال إنه لن يبني حلفاً مع أحد ولن يخوض حرباً ضد أحد إلا عن إذا طلب منه التحالف ذلك. إنها محارب بلا ملامح، يريد شيئاً كبيراً وضخماً لكنه غير معروف، ولا يمكن تسميته.

هنا تكمن مشكلة التحالف العربي مع قادة مثل مهران، فضل حسن، جواس، هيثم، وحتى مع حمدي الصبيحي. الإمارات، كنظام، تتحسس من كل جهة ذات منزع استقلالي. فهي، على كل حال، على عجلة من أمرها، لديها الكثير من البحار والموانئ والمعسكرات قيد الإنشاء، ولا وقت لديها.

بماذا عاد الزبيدي من هذه الحرب؟ بجثث أصحابه، بدماء خصومه، بثارات قبلية جديدة، وبخيبة أمل كان أتباعه في غنى عنها. لقد ذهب ليصنع نصراً لولي نعمته، وعندما عجز عن صناعة ذلك النصر تدخل ولي نعمته وصنع له نصراً، ثم انتزعه منه.

كان انقلاباً عسكرياً، لكن السؤال المفتوح هو: من الذي كسب نتيجة الانقلاب؟

*نقلا عن صفحة الكاتب بالفيسبوك.


في الخميس 01 فبراير-شباط 2018 05:28:08 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://video.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://video.marebpress.net/articles.php?id=43397