|
حتى الطيار الروسي الذي أسقط طائرته الأتراك، أو أولئك الطيارون الروس الخمسة عشر الذين سقطوا بخطأ «سوري» لطائرة عاثرة الحظ أتت بمرمى النيران السورية حين التصدي لعدوان إسرائيلي في خريف العام 2018، لم يحظوا بذات الاهتمام، أو حتى بقدر ضئيل من الوداع الجنائزي المهيب، التي حظيت بها مجرد رفات لقتيل إسرائيلي سقط في مواجهة عسكرية منذ سبعة وثلاثين عاماً بالتمام والكمال، ما يعطي فكرة كافية عن القيمة والمكانة الاستثنائية المعنوية العالية والصاخبة إن للحدث بحد ذاته، أو لهوية وصاحبه لدى ثلة من نخبة من المشيعين وكبار القوم في روسيا وإسرائيل يتقدمهم نتنياهو و«القيصر» أبو على بوتين صاحب الحظوة الخاصة عند المقاومين. وبصرف النظر، حتى، عن كل تلك الاعتبارات والنواحي والمعايير الإنسانية والمشاعر العاطفية التي رافقت عملية تسليم رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل فإن العملية قد أماطت اللثام عن جوانب أخرى أكثر أهمية مما ظهر حتى الآن عند التدخل الروسي في سوريا لجهة الالتزام المطلق بأمن إسرائيل وكونه يتصرف كوكيل معتمد وموثوق لإسرائيل أكثر مما هو «مقاول» أو مقاوم، ولا ضير، يدغدغ أحلام، ويرضي غرور المقاومين.
وبدا واضحاً، اليوم، أن واحداً على الأقل من الاهتمامات والهواجس الروسية الكبرى بتدخلها العسكري له جانب وبعد إسرائيلي عظيم لا يمكن القفز فوقه يفكك الكثير من شيفرات وألغاز «المصالحات» وعمليات التسليم والاستسلام الكبرى التي جرت هنا وهنا، إن لجهة الوقوف متفرجاً ومكتوف الأيدي حيال الطائرات الإسرائيلة وهي تسرح وتمرح بالأجواء السورية ملقية السلام على جنرالاته الأشاوس فوق حميميم وهي غادية وبادية، أو لجهة العمل كنباش وحفار قبور و«حانوتي» وربما كـ»كشّاش» حمام في قادم الأيام، وبدا فيها القيصر الروسي كلها صاحب الكلمة الأولى والأخيرة وسيد القرار، لكنه كان ينفذ إملاءات وتصورات نتنياهو بالذات، وهذا ويا للسخرية، والمفارقات الكبرى، ما دأب الموالون على تسميته بالانتصارات.
ولا يمكن اليوم، حقيقة، إحصاء وتتبع عدد المرات التي قام بها نتياهو بزيارات مكوكية لموسكو، والتي يحرص الجانب الروسي على إظهارها بمنتهى الود والحميمية وأبعد من بروتوكولية، وكلها باتت تؤكد أن العلاقة بين الجانبين أكثر من مجرد تحالف استراتيجي لتنسف تلك الرؤية السطحية والصبيانية «البطولية» الساذجة لعاصفة السوخوي التي أتت بالمطلق وفق توافق وغض طرف وترتيب وضوء أخضر أمريكي إسرائيلي. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلا يمكن، والحال، تجاهل التعاطي الشخصي الذي قابل به «القيصر» حليفه السوري، خلال أكثر من لقاء بينهما وقد خلا من أدنى البروتوكول الرئاسي المعمول به حتى مع أصغر الدول حجماً وأقلها تأثيراً وثقلاً استراتيجياً ونوعياً، بالتزامن مع نشر صور مهينة، وغير لائقة، للرئاسة السورية، تظهر بما لا يدع أدنى مجال للتخمين والتأويل أن القيصر كان يتعامل مع صاحبه ليس بصفة رئيس بالحدود الدنيا المتعارف عليها، ولا حتى ربما بصفة التابع و«الشغـّيل» المياوم الرخيص، بل ربما أقل من ذلك بكثير وبما لا يسمح بذكره هذا المقام الرفيع.
إن الصمت الروسي المطبق حيال الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والرفض المطلق حتى اليوم لتشغيل بطاريات الـS300، الروسية، مع الاستبعاد الكامل لمنح السوريين المنظومة الأكثر تطوراً من السلالة الصاروخية الشهيرة، تشي وتؤكد بالضرورة أن المشرف وصاحب القرار الأول والأخير بالعملية هو نتنياهو، ذات نفسه، وليس القيصر أبو علي بوتين الروسي حبيب الشبيحة والموالين، وحين سيتم تسليمها أو تفعيلها، قد لا يكون هناك أية ضرورة لاستخدامها، وقد تتحول لخردة في مواقعها، بعد أن تكون إسرائيل قد ذرعت سوريا جيئة وذهاباً، وطولاً وعرضاً بغاراتها على الأهداف التي تقلق راحتها، وتمنع جنرالاتها، حتى الآن، من السبات المريح والعميق وقد أحالتها-أي الأهداف- لأطلال.
واستطراداً، وفي الجوانب العسكرية والأمنية المحضة، فإن التنسيق سيصل لمستويات ومراحل متقدمة جداً من الكرم الحاتمي الروسي لإسرائيل بتسليم كل المعلومات والملفات وقواعد البيانات مما بات يمتلك وينام عليه هؤلاء من معطيات عسكرية سورية حساسة جداً تخص مختلف الفرقاء باتت كلها اليوم في أدراج جنرالات جيش الدفاع.
ومن هنا، بالتالي، لا يمكن الحديث عن اتفاق وتنسيق روسي-إسرائيلي دون استذكار وإقحام الجانب الأمريكي كمعني مباشرة، ومنخرط مشارك وراء الستار، بكل ما يجري من ترتيبات وتطورات نظراً للعلاقة الاستراتيجية الخاصة جداً مع الإسرائيليين.
وبذا، وبعدما تبين مدى متانة التحالف الروسي-الإسرائيلي-الأمريكي والتنسيق بينهما على كافة المستويات فهذا سيحيلنا لمستوى وجانب أدهى وأدق للقضية برمتها وهو العلاقة بين المعارضة والموالاة اللتين يبدو أنهما تلتقيان بالنهاية، وبشكل ما، تحت سقف لاعب أو حلف واحد وتعملان لصالح وتحت جناح تكتل وقيادة واحدة مع بلوغ التنسيق الأمريكي الروسي الإسرائيلي آفاقا لا يمكن تصورها وتخيلها على أعتى دهاة وجهابذة التحليل والتنظير الاستراتيجي وما ظهر منه غير رأس جبل الجليد في همروجة الرفات والله وحده يعلم أين ينتهي ذلك الحلف والتنسيق بين الثعالب الثلاث.
مبروك للمعارضة والنظام هذا الحلف غير المباشر، وهذه الشراكة الاستراتيجية الأغرب بالتاريخ..والمعادلة هي كالتالي: المعارضة رسمياً كانت تتمول وتتلقى توجيهاتها وتشتغل عند السيد الأمريكي وبالمقابل بات النظام بقبضة القيصر ويعمل تحت إمرته من الباب للمحراب، فيما اللاعبان الكبيران الروسي والأمريكي يقدمان الخدمات يشتغلان لمصلحة السيد الإسرائيلي…
ومن هنا يلوح عمق ومتانة الشراكة الاستراتيجية، وإن بدت غير مباشرة، أحياناً، بين المعارضة والنظام وعملهما الدؤوب والمشترك لغاية واحدة وهي تقويض وإضعاف وتفكيك البلد وتسليمها لـ«الأغيار».
لماذا تتحاربون أيها الموالون والمعارضون السوريون بينما كفلاؤكم متحدون؟
٭ كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com
في السبت 13 إبريل-نيسان 2019 05:50:17 م