محكمة الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت وتكشف عن أسبابها المنطقية عاجل: وزير الدفاع الأمريكي: سنعمل على انتزاع قدرات الحوثيين في اليمن مليشيا الحوثي تحول محافظة إب لقادتها ومشرفيها القادمين من صعدة وعمران عاجل:حريق هائل يلتهم هايبر شملان العاصمة صنعاء نقابة المعلمين اليمنيين تدين الاعتداء السافر على المعلمين في شبوة وتطالب بتحقيق عاجل ''أكد أنه لا أحد فوق القانون''.. أول مسئول كبير يحيله رئيس الحكومة للتحقيق بسبب قضايا فساد ومخالفات الحكومة اليمنية تتطلع إلى شراكات استثمارية وتنموية مع الصين حضرموت.. وزير الدفاع يشدد على مسئولية المنطقة الثانية في تأمين السواحل ومكافحة التهريب أوتشا باليمن: نحو 10 مليون طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية حماس توافق على تشكيل لجنة لإدارة غزة بشرط واحد
سئل شاعر اليمن الراحل الكبير، عبد الله البردوني، ذات مرة عن اليمن، فقال: اليمن كوجهي. وكان على وجه البردوني بقايا من مرض الجدري الذي أصيب به في طفولته الباكرة، واستمرت آثاره طول فترة حياته. كان شاعر اليمن وفيلسوفه يريد أن يقول إن اليمن عليل يحتاج إلى دواء تماما مثل وجه الشاعر الذي حرم الدواء في صغره فالتهم الجدري ضوء عينيه. وبعد البردوني وقبله نقلت صورة اليمن بكل تناقضاتها عبر الكثير من الكتب والمؤلفات والأفلام التي قام بها هواة ومغامرون عرب وغربيون. منهم الفرنسي أندريه مالرو الذي سقطت طائرته في صحراء مأرب دون أن يأبه لذلك، بسبب دهشته الكبرى التي تجسدت في برقيته الشهيرة التي بعث بها إلى باريس: «لقد اكتشفنا مدينة سبأ الأسطورية».
وفي كل المشاهد التي تنقل من اليمن تأتي الصورة مكتنزة بالتاريخ والخيال والأساطير عن البلاد التي خرج منها العرب والبخور والأشعار. غير أن الصورة اليمنية هذه الأيام تحوي في كثير من عناصرها معاني البؤس، وتنهمر مع ألوانها تداعيات التشنج والتخندق والكراهية. اللون الأحمر يتفجر من قلب الصورة، وينساب عبر حواشيها، ويحرص الرسام الذي أخرج الصورة للمشاهدين على أن يكون فيها غير قليل من التناقض الصارخ في الألوان والأحلام. صور كثيرة تكتظ بها الذاكرة والوجدان اليمني منذ ما يقارب ستة أشهر من المعاناة والآلام والآمال. قدر بعض البلدان أن تكون هكذا موبوءة بالصور، مكبلة بالجغرافيا، مثقلة بالتاريخ. لأن البلدان التي تفشل في الاستفادة من موقعها الجغرافي يتضاءل موقعها على الخريطة، والتي لا تستفيد من عظمة تاريخها تتحول إلى أسيرة لهذا التاريخ. وهذا هو حال البلاد التي تطل (في خريطة الجغرافيا) على بحرين وممر مائي مهم، وتطل (في خريطة السياسة) على معسكرين وممر ضيق للخروج من الأزمات.
انهمرت صور كثيرة خلال الفترة الماضية من مئات الشاشات عن اليمن: صور عشرات القتلى في يوم 18 مارس (آذار) الماضي، صور الدم الحار الذي انسكب على الأرض يوم الجمعة يجعل المشهد أشبه ما يكون بوردة كبيرة مضرجة باللون. صورة صنعاء وهي تحترق على مدار ليال وأيام، صورة مبنى «اليمنية» وهو ملفوف بمناديل النار في غاية الرمزية المفتوحة على أهل بلاد يخربون بيوتهم بأيديهم وقاذفات الصواريخ. صور عشرات القتلى في ساحة الحرية في تعز (التي لا بواكي لها) تبعث على الاشمئزاز، صور مماثلة من إب وعدن والحديدة وأبين وغيرها من المحافظات تأتي محملة بالرموز التي تختصر العلاقة الحميمة بين الرصاص والأجساد. هكذا تأتي الصورة اليمنية أوصالا ممزعة لا تشبها إلا أوصال صنعاء وغيرها من المدن اليمنية التي انشطرت إلى شطرين أو عدة أشطار. صور كثيرة لمقاتلين قبليين جاءوا إلى عدد من المدن ولا تدري أدخلوا لحماية الثورة أم لحماية القبيلة، صور ملبدة بالشعر الكثيف والحديد والرصاص. صور أخرى لمقاتلين آخرين يخرجون من عباءة التاريخ، محملين بأحلام العصور الأولى، أغلبهم ملثمون، يمتطون الجغرافيا، ويتأبطون التاريخ ويتأولون النصوص ويقاتلون أميركا في حدود اليمن الجنوبية. صور أخرى لمقاتلين آخرين تحت شعار كبير يهتف «الموت لأميركا، الموت لإسرائيل» يخرجون أيضا من تعاريج تاريخية معقدة، يقاتلون أميركا، وينتقمون من «الشيطان الأكبر» بسفك دماء اليمنيين، ويمهدون للمهدي ويمضغون القات والأوهام.
وعلى ذكر «القات»، العشبة الخضراء، فإنه لا يجمع بين أهل ميدان التغيير وأهل ميدان التحرير والمقاتلين الذين يقاتلون أميركا في الجنوب والمقاتلين الذين يقاتلون أميركا في الشمال غير الإجماع على تلك العشبة السحرية الخضراء، حيث لم يعد شيء محل إجماع اليوم في اليمن الحزين.
صورة تشي غيفارا بدورها وصلت اليمن، غيفارا الثائر اليساري يكون أكثر إثارة عندما ترتفع صورته فوق صف من المصلين في صنعاء، غيفارا في صنعاء أحد القديسين الذين يبثون الأمل ويتوضأون للصلاة، روح غيفارا ترفرف في سماء صنعاء كما رفرفت في عدة سموات هنا وهناك. لم تخل الساحات بالطبع من صور لعبد الناصر والحمدي وغيرهما من الرموز. الشعوب عندما تختنق تلجأ لرموزها، تلجأ للصور لتخرج عباراتها أو عبراتها أكثر حميمية ووضوحا ودهشة. وبين دفتي الشاشة تحتشد صور لغالبية اليمنيين يجلسون على قوارع الأحلام، يبحثون عن عمل، أو ينظرون بأمل، أو يحاولون فهم ما يجري في البلاد التي بدأت تدور حول نفسها وتدخل مرحلة من الغموض. لست أدري من قال يوما: «عندما يعجز الشعراء عن الإبداع يلجأون إلى الغموض»، وهو قول ينطبق على السياسيين بشكل كبير.
صورة صاحب القصر في أول ظهور له توحي بكثير من المعاني والدلالات، إنها تعكس شيئا من مأساوية التراجيديا اليمنية بكل تناقضاتها. يتساءل المرء وهو يرى صورة صاحب القصر في المستشفى؛ أيشعر بالشفقة عليه من نفسه وممن هاجموه أم يشفق على البلاد منه وممن هاجموه؟ أهو الضحية أم الجلاد، أم أنه الجلاد والضحية في الآن ذاته؟ الصورة التي جاءت من ميدان التغيير وساحة الحرية محملة بدم فرسان بكر التحمت أخيرا بصورة «الملك كليب» المضرجة بدمائها داخل مضارب ربيعة. وبين الصورتين عشرات الصور المنهمرة تمطر الدم والخراب والسراب. تصوروا أن كل هذه الصور تأتي من اليمن! تأتي من صنعاء التي كانت قبل سنوات معرضا مفتوحا للصور النابضة باللون والحياة، صنعاء التي أدهشت شاعرها الكبير عبد العزيز المقالح، فأخرج صورها في لوحة فنية خالدة هي: «كتاب صنعاء»، صنعاء ذاتها التي أصبحت اليوم معرضا مفتوحا للنار والدخان.
ترى هل يعرف أهل اليمن القيمة الجمالية لليمن في الذاكرة العربية والعالمية؟ هل يدركون قيمة المخزون الثقافي لهذه الأرض التي لا يتوقفون عن تشويهها وملء لوحتها بكثير من الرماد وكثير من اللهب والغبار؟ عندما حلق أندريه مالرو، الأديب والسياسي الفرنسي الشهير، فوق سماء مأرب عام 1934، بحثا عن «مملكة سبأ المفقودة»، لم يتمالك نفسه بعد أن رأى بقايا المملكة العظيمة، ونسي أن طائرته تهوي إلى الأرض بعد أن نفد الوقود، ولم يكترث لموته المحقق، وكاد ينسى نفسه في غمرة فرحته وهو يكتب بعد ذلك: «اكتشفنا مدينة سبأ الأسطورية. عشرون برجا وهيكلا لا تزال قائمة. على الحافة الشمالية للربع الخالي». آهٍ أيها العزيز مالرو، لو ترى اليوم البلاد التي عشقتها كيف حالت بها السياسات! لو ترى مشاهد الصور المتدفقة من «مدينة سبأ» لتمنيت أن تصير أنت حطاما مع طائرتك التي دفنتها رمال الصحراء. محنة اليمن الذي أحببته أيها العزيز أنه «أرض جميلة، والقائمون عليها ليس لديهم ذائقة جمالية». فهل عرفت حجم المأساة؟!