السلفية في اليمن من الدعوة إلى الحزب(1-5 )
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 7 أيام
الأربعاء 19 ديسمبر-كانون الأول 2012 04:50 م

جذور السلفية ومكوناتها 

يكثر الجدل في الوسط الفكري بشقيه الإسلامي والعام عن واقع السلفية في المنطقة في ظل ربيع الثورات العربية، وما أحدثه من تحوّلات في الرؤى والقناعات والاستراتيجيات والطرائق لدى كثير من المشتغلين بقضايا الفكر والسياسة والتربية - بصورة عامة- وفصائل الدعوة السلفية – على نحو أخص- تلك التي غدت اليوم ذات فعل مؤثر في مسار الشارع، وراح بعضها ينافس أبرز أنداده التقليديين (الإخوان المسلمين) في أهم ما كان يعدّ في تربيته وأدبياته المنشورة محرّماً أو (تابو) لايجوز الاقتراب منه! ولأنّه من المتعذّر – من وجوه عدّة- الإحاطة بكل ما يعتمل من حراك سلفي في المنطقة فسيقتصر تناول هذه الدراسة على الدعوة السلفية في اليمن، وتطوّراتها وما آل إليه حالها في ظل ثورات الربيع العربي، وذلك على النحو التالي:

الجذور:

يأتي الحديث عن السلفية في اليمن وجذورها الفكرية متساوقاً مع النسق المعرفي (الأصولي) العام ذي التكوين السنّي الخاص، المتأثر بالأصول الإسلامية الفكرية العامة، إلى جانب التحدّيات ذات الخصوصية، تلك التي تشكّلت قبل نحو مائتي عام أي في القرن الثاني عشر الهجري على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي (ت: 1206هـ/ 1791م)، وانعكست آثارها المعرفية والسلوكية -ولو بعد حين- على أقطار كثيرة في المشرق والمغرب، لعل من أقربها اليمن، نظراً لعلاقة التماس الجغرافية بين القطرين، وظاهرة الطلب ( دراسة العلوم الشرعية) في العربية السعودية. ومع أن البيئة اليمنية بشقيها الشافعي والزيدي لاتلتقي مع المنهجية السلفية الخاصة على نحو يُذكر؛ إلا أن لعامل التلمذة لبعض الشخصيات من أبناء المذهبين، تلك التي غادرت البلاد باكرا، واتجهت نحو الجارة الشقيقة (العربية السعودية)،  فتلقت تعليمها في جامعاتها ومدارسها ومعاهدها منذ عقد السبعينات من القرن الميلادي المنصرم على نحو ظاهرة جماعية أثره في تكوين بعض تلك الشخصيات وانصباغها كليّاً أو جزئياً بفكر تلك البيئة المدرسي، مع الإشارة هنا إلى أن عددا غير قليل منهم– إن لم يكن جميعهم- لم يذهبوا بهدف البحث عن العلم، أو الاستزادة من المعرفة، ولا أن ذلك كان وارداً ابتداء لدى عدد غير قليل منهم، بل كان هدف أكثرهم – إن لم يكن جميعهم- البحث عن مصدر للرزق في بلد صارت قبلة للعاملين من مختلف البلدان وفي مختلف المجالات، بحكم الطفرة النفطية هنالك، وإن ظل أكثر هؤلاء الدارسين من الذين أتيحت لهم فرصة التفرغ الجزئي أو الكلي للدراسة قد اتجهوا قبل ذلك نحو العمل البدائي التقليدي غالباً، أي أعمال البناء ومشتقاتها، أو العمل في المتاجر، أو المطاعم أو الحراسة ونحو ذلك، ولا يستثنى من هؤلاء رأس السلفية المعاصرة في اليمن ومؤسسها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي ( ت: 1422هـ-2001م)، الذي ذهب كغيره بحثاً عن مصدر للرزق، لكن أجواء البيئة الجديدة ساعدته على التعلّم الأولي، فكان قد وجّه من بعض من سأله الشيخ عن أفضل المصادر الشرعية للتعلم فدله على بعضها، وكان يطالعها أثناء عمله حارساً على عمارة في حي الحجون بمكة، ثم تابع دراسته المتوسطة والثانوية، وانتقل بعد ذلك إلى المدينة المنورة ليلتحق بالجامعة الإسلامية فيها، فحصل على شهادتين إحداهما من كليّة أصول الدّين والأخرى من كلية الشريعة، وسجّل بعد ذلك للحصول على درجة الماجستير أواخر السبعينات الميلادية من القرن الماضي، وبعد مناقشته وإجازته، تم ترحيله عقب ذلك إلى بلاده على خلفية اتهامه بكتابة رسائل جهيمان العتيبي الذي قاد فتنة الحرم المكي الشهيرة مطلع الثمانينات، وقد نفى الشيخ ذلك تماماً.

عاد الوادعي إلى بلاده مطلع الثمانينات من القرن الميلادي المنصرم بخلفية معرفية جديدة غير تلك المعرفة العادية التقليدية (الزيدية) التي ذهب بها، فأسس فور عودته مركز دار الحديث بمنطقة دمّاج التابعة لمديرية الصفراء بمحافظة صعدة، حيث غدا المعهد قبلة للدارسين من مختلف مناطق اليمن وخارجها من البلدان العربية والإسلامية وأوروبا وإفريقيا وسواها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ كان بداية عودته على علاقة شبه حسنة مع التيار السائد في البلاد (الإخوان المسلمون)، حيث سلِّمته الحركة إدارة معهد دماج العلمي (الرسمي) التابع لهيئة المعاهد العلمية التي كانت من حصة الحركة الإسلامية ( الإخوانية)، إلى أن أغلقت في 2001م رسمياً، وصارت مدمجة إدارة وهيئة تدريسية وطلبة ضمن التعليم العام، غير أن علاقة الود تلك بين الشيخ الوادعي وأتباعه من طرف وحركة الإخوان المسلمين لم تدم طويلاً، فبعد سنوات قليلة مالبث أن أعلن الشيخ حالة الخلاف بينهما بإصدار كتابه الشهير – وقتذاك- (المخرج من الفتنة)، حيث كان من أهم مباحثه التحذير من جماعة الإخوان المسلمين ورموزهم في اليمن وخارجه، متهماً لهم بأوصاف الجهل وانحراف العقيدة والابتداع في الدّين، والإغراق في الولاء والتآمر على النظام السياسي في البلاد ...إلخ ومع مطلع التسعينات (1990م) رأى بعض أبرز تلامذته الكبار أمثال عبد المجيد الريمي ومحمّد بن موسى العامري، ومحمّد المهدي ومحمد الحداء وعبد الله بن غالب الحميري وعبد العزيز بن عبد الله الدبعي، وأحمد بن حسن المعلّم، وعقيل المقطري، وعبد القادر الشيباني، وأحمد معوضة، تأسيس جمعية الحكمة اليمانية (الخيرية)، فقام عليهم الشيخ محذِراً ومشنّعاً، واصفاً لهم بصفات الانتهازية وسرقة الدعوة والعمل الحزبي ومتابعة الإخوان المسلمين الذين كان كثيراً ما يصفهم ب(المفلسين)، ويصف أتباعه الذين اتجهوا نحو العمل الخيري بـ(المماسح) لهم. وبعد نحو عامين (1992م) حدث خلاف داخلي في إطار جمعية الحكمة، مما تسبب في انفصال بعض مؤسسيها أمثال عبد المجيد الريمي ومحمّد بن موسى العامري وعبد الله الحاشدي وسواهم إلى إطار جديد أعلن عن نواته في مدينة المكلأ عاصمة محافظة حضرموت تحت عنوان ( جمعية الإحسان الخيرية). 

ويكاد حاصل دعوة المؤسّس الراحل الوادعي، ثم الجمعيتين (الحكمة والإحسان) بمثابة أساس العمل السلفي في اليمن وفصائله اللاحقة، حيث تمايز كل منها بسمات، ثم انبثق عن كل واحدة تكوينات جديدة، فيها من الاختلاف الكلي والتفصيلي ما يجعل من ظاهرة السلفية (المعاصرة) أمراً جديراً بالدراسة والبحث، لمعرفة مسار العمل الإسلامي في هذا الاتجاه وأبرز خصائصه ووزنه السبي، ومناطق توزّعه الجغرافي والاجتماعي، وذلك على النحو التالي: 

تكوينات السلفية وفصائلها:

أولاً: السلفية التقليدية (الماضوية) وفصائلها:    

تمثل السلفية التقليدية (الماضوية) بزعامة الشيخ الراحل أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي النواة الأولى للدعوة السلفية باليمن، وتتسم باهتمامها التقليدي بمباحث العقيدة (التاريخية) وأقسامها (الربوبية والألوهية والأسماء والصفات) التي أسس لها الإمام أحمد بن تيمية (ت:728هـ- 1327هـ)، ثم تبناها على نحو (صارخ) الشيخ محمّد بن عبد الوهاب، كما في كتابه (التوحيد)، ورسائل: الأصول الثلاثة، وكشف الشبهات، وغيرها، وما ينبثق عن ذلك من محاربة لمظاهر القباب والأضرحة والتوسّل بـ(الأولياء)، ومهاجمة كل الفرق الإسلامية الغابرة منها والحاضرة كالمعتزلة والأشاعرة والجهمية والمرجئة والشيعة والصوفية، جملة وتفصيلاً، وتقف بشدّة ضدّ ما تعتقده ابتداعاً في الدّين، هذا إلى جانب الوقوف مع النظام السياسي طيلة عهده، وتقديم فتاوى تحريم المعارضة السياسية وآلياتها في صورة تشكيل أحزاب، أو عمل مسيرات وتظاهرات، أو تعبير عن الرأي بأي صور الاحتجاج، بوصف ذلك كلّه يمثّل خروجاً عن الحاكم الشرعي، ومنازعة لأولي الأمر . وبعد وفاة الشيخ الوادعي بمكة المكرمة( 1422هـ- 2001م) على إثر مرض عضال، حدث انقسام عاجل في جماعته حيث شقّها إلى قسمين: أحدهما يتزعمه الشيخ أبو عبد الرحمن يحيى الحجوري، الذي زعم بأن لديه وصية من الشيخ بالقعود على كرسيه من بعده، والخلافة على الجماعة عقب وفاته، في حين نازعه في ذلك الشيخ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني المأربي ذي الأصل المصري، وكان كلاهما يستمد مشروعية زعامته من خارج الحدود، أي من الشيخ ربيع بن هادي الوادعي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وراعي الدعوة السلفية التقليدية (الماضوية) في السعودية وخارجها، لكن الحجوري تمكّن لأسباب عدّة من بينها استباقه المأربي إلى الشيخ المدخلي وإلصاقه أقوالاً بالمأربي تبدو (شنيعة) عند أرباب الدعوة وداعميها، من مثل ما ورد في بيان أصدره الحجوري بتاريخ 3 ربيع ثاني 1423هـ، وفيه أن أبا الحسن أقدم على فواقر في منهج (أهل السنّة) من مثل: 

1-اختطاط أصول، واختراع أقوال، وانتهاج طرق، مختلفة المشرب، متباينة

2-السعي لتفريق الدعوة السلفية وتمييعها، والتأكيد بأن هذه وصية الشيخ الوادعي في التحذير من أبي الحسن.

3-لم يعد الخلاف مع أبي الحسن في مسألة أو مسائل تصل إلى عشر أو عشرين بل في منهج.

4- الثورة على دعوة أهل السنة في اليمن، ومحاولة جمع الشيعة والصوفية ودعاة الإخوان المسلمين والتبليغ في إطار أهل السنة.

5- الفكر الدخين، والحقد الدفين، والحسد المبين على أهل السنة ومعهد دمَّاج خصوصاً الذي يزخر بالآلاف من طلبة العلم، على حين لا يمتلك أبو الحسن في معهده سوى ثمانين طالباً يزيدون يسيراً أحياناً.

 6- استغلال أموال جمعية البّر في تكتيل أنصاره، واستمالة من استخفّ بهم لدعوته. 

أما أبو الحسن المأربي فلم يستسلم لاتهامات الحجوري بل قام فأصدر عددا قارب العشرين من أشرطة (الكاسيت)- حسب المتابعة الذاتية لكاتب هذا الدراسة- وهي عبارة عن جلسات مسجّلة مع بعض أنصاره، وقد أطلق عليها «القول الأمين في صدّ العدوان المبين»، وصف فيها خصومه بأنهم حدَّادية مغالية (نسبة إلى داعية من أتباع المدخلي ظهر بالمدينة المنوّرة يُدعى محمود الحدَّاد، وقد دعا إلى (تطهير) دعوة أهل السنة والجماعة من الميراث الأشعري ( نسبة إلى أبي الحسن الأشعري ت: 324هـ، وفي مقدّمته فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، وشرح صحيح مسلم لأبي زكريا النووي، ويقال إنه قام بإحراقهما مع مصادر أشعرية أخرى -حسب زعمه- تؤخذ بالقبول والمرجعية لدى أهل السنة المعاصرين).

كما دافع أبو الحسن عن نفسه وفكره، موجهاً اتهامات مقابلة للحجوري ومن يشايعه، معلناً –بعد أن أدرك أن الحجوري سبقه إلى المدخلي فكان ألحن حجّة- للمرة الأولى- فيما يبدو- عن اختلافه الكلّي مع الشيخ ربيع المدخلي. ويمكن تلخيص أبرز اتهاماته للحجوري بحسب مقالة صحفية نشرت في صحيفة البلاغ (اليمنية) (العدد (480)، 13 جماد الأولى /1423هـ الموافق 23/ يوليو/2002م ص4)، بعنوان ( شبهة فاسدة والرد عليها) بما يلي:

شق الصف السلفي، والاستسلام للشيخ ربيع المدخلي، والتقليد الأعمى لتوجيهاته وأوامره، مع قيام النفس القومي الجاهلي في خلافهم .

وعقب ذلك الانفراط في العلاقة بدا أن المأربي يبحث له عن (ظهر) جديد، وكانت هناك محاولات أولية غير مباشرة في طرق باب جماعة الإخوان المسلمين أو ما غدا يُعرف بـ( التجمع اليمني للإصلاح) منذ العام 1990م، بعد أن بدأ أبو الحسن في تغيير – ولا أقول تعديل- خطابه من الاتجاه السلفي التقليدي بسماته المعروفة نحو نحو خطاب شبه جديد يتسم بالاعتدال والمرونة والانفتاح والإيمان بالعمل السياسي والمشاركة (الديمقراطية)، والتعايش مع (الآخر)، ويبدو أن الإصلاح أعرض عن ذلك لأسباب تعنيه، فلم يلتفت إلى (مغازلة) أبي الحسن، مما دفع هذا الأخير ليتجه نحو جمعية الحكمة اليمانية (الخيرية) فعقد معها تحالفاً معلناً في وادي حضرموت 22/6/1425هـ الموافق 2005م كتبه الشيخ سعد الحميد بتوقيع الشيخ أبي الحسن المأربي من طرف و الشيخ أحمد المعلّم أمين عام جمعية الحكمة بحضرموت من الطرف الآخر وبحضور أبرز قيادة الجمعية في أبرز محافظتين للجمعية الحضور الأكبر فيهما ( إب وتعز) وهم: محمّد المهدي وعبد الله بن غالب الحميري (إب)، وعقيل المقطري (تعز)، وظهرت آثار ذلك التحالف بعد ذلك من خلال الأنشطة المشتركة بين الجهتين، وبلغت إلى حدّ التماهي أحياناً، هذا بعد أن كان الخلاف قد بلغ أوجه بين زعيم الحكمة في محافظة (إب) الشيخ محمّد المهدي وزعيم الحسنيين الشيخ أبي الحسن المأربي، وذلك في منتصف عقد التسعينات من القرن الميلادي الماضي، وقد برز ذلك (صارخاً ) على صفحات مجلة (الفرقان) الشهرية التي كانت تصدر منتصف التسعينات من القرن الميلادي الماضي، عن جمعية الحكمة بـ(إب معقل الشيخ المهدي،) وهو الذي تصدّر لمواجهة أبي الحسن ومن ورائه الشيخ الوادعي، ولعل من أبرز تلك العناوين التي غطت جانباً هاماً من غلاف مجلة (الفرقان) في تلك المرحلة في أحد أعدادها ( العدد العاشر، ربيع أول 1417هـ- 1996م) ( ماذا يريد أبو الحسن من الفتن في اليمن؟)، وذلك على خلفية اختلاف مدرسة الشيخ الوادعي ذاته وأتباعه وفي مقدّمتهم أبو الحسن مع رموز جمعيتي الحكمة والإحسان، وظل ذلك الخلاف يتصاعد لعدة أشهر عبر أعداد المجلة، فيما تجسّد قدر محدود من ذلك الخلاف على الجانب الآخر (جمعية الإحسان) عبر شريط (كاسيت) أصدره الشيخ الريمي عنوانه ( حوار هادي مع مقبل بن هادي) .يتبع في العدد القادم – بإذن الله .