القيام في عيد الجلوس!
بقلم/ اسكندر شاهر
نشر منذ: 17 سنة و 3 أشهر و 26 يوماً
السبت 28 يوليو-تموز 2007 08:44 م

 مأرب برس ـ دمشق ـ خاص

"شاعر بصيرٌ في شعب أعمى " إنه عبد الله البردوني الشاعر اليمني الكبير الراحل على ما وصفه الشاعر د.عبد العزيز المقالح .. وهذا الوصف الجدلي لهذا الشاعر الاستثنائي ينتظم مع ما يعج به ديوانه وكتبه من قصائد بصيرة حكيمة ، أبصر بها ما عجز عن لمحه كل هؤلاء المتزلفين ذوي العيون الجاحظة ، التي لا يدل جحوظها على أنها أشد رؤيةً لأكثر الصور اتساعاً بقدر ما تدل على مرض قد أصابها فأفقدها نعمة البصر وقوة البصيرة.

فماذا يمكن أن نستحضره من ذلك البصير – وهو الجدير والغني بما يمكن أن نستلهمه منه في كل مناسبة- ماذا نستحضر منه لشعب أعمى –بشهادة مستشار رئيس الجمهورية- في الذكرى الـ29 لاعتلاء الرئيس علي عبد الله صالح سدة الرئاسة .

لم أجد أفضل من قصيدة البردوني المتمردة "عيد الجلوس" والتي يمكن أن تعد ثورة على الجلوس بالقيام –والثورة مدلول التزامي لـ"القيام" في الحسابات المنطقية فضلاً عن المدلول الثوري المتضمن في لفظ القيام .

وبعيداً عن المناسبة التي أطلق فيها الشاعر البردوني هذه القصيدة والتي كانت موجهة ضد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين في ذكرى انتصاره على أول انتفاضة ثورية شعبية – إلا أن النقاد يقرؤون القصيدة -أية قصيدة- على أنها مادة حية خاصة إذا كانت كقصيدة "عيد الجلوس" ملآى بكل ما يمكن إسقاطه على واقع اليوم ، وانظروا كيف يحصل الإسقاط دون أن يحصل السقوط .

يقول البردوني -رحمه الله-:

عيد الجلوس أعر بلادك مسمعاً تسألك أين هناؤها هل يوجدُ ؟

تمضـي وتأتي والبلاد وأهلها في ناظريك كما عهدت وتعهدُ

يا عيد حدث شعبك الضامي متى يُروى ، وهل يُروى وأين الموردُ ؟!

حقاً .. إن عيد الجلوس هذا لم يعر البلاد مسمعاً ، ففي حين يئن الشعب من جوعه تهدر أمواله للاحتفال بعيد الجلوس وبأعياد الحروب ، وفي حين يرزح الشعب تحت وطأة الظلم والقتل واستباحة الأرض والعرض في صعدة الجريحة ، يرقص تجار فقهاء الحروب وتجار والسلاح على جثث الموتى وعلى الحاضر والمستقبل .

وفي حين يشكو الصحفيون والسياسيون ونشطاء المجتمع المدني من الاستبداد والقمع الذي يمارس ضدهم ويعتصمون في ساحة الحرية بصنعاء تأتي جحافل المنافقين الأفاقين الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، يأتون وقد خنزرتهم أموال عيد الجلوس التي هي أموال الشعب ليفرقوا ساحة الحرية "المتحدة" جاؤوا حتى لا يعير عيد الجلوس مسمعاً للبلاد كما في قصيدة البردوني .

وفي حين يئن الجنوب كله ماعدا من باعوا ضمائرهم من ضعاف النفوس مقابل "وظائف" ويا ليتها "مسؤوليات " ، وفي حين يخرج المتقاعدون الجنوبيون عسكريون ومدنيون إلى ساحة أخرى للحرية في العاصمة المسلوبة "عدن" ليطالبوا بحقوقهم المكتسبة التي صودرت منهم ظلماً وعدوانا ، صودرت باسم هيمنة المنتصر عسكرياً ، تخرج جموع المجبرين والمهددين ببعض مصالحهم والمستأجرين بأموالهم أنفسهم من حيث يعلمون و لا يعلمون يخرجون لكي لا يعير عيد الجلوس مسمعاً للبلاد والعباد ، يخرجون ليجعلوا من الرئيس إماماً جديداً ومن الشعب ضحية مجدداً ، يمدحون الجلاد، ولا يخرج من بينهم بردونيُ واحد يشذ عنهم ويقول :

عيد الجلوس أعر بلادك مسمعاً تسألك أين هناؤها هل يوجدُ ؟

****

ألا ترون أن هذا العيد "عيد الجلوس" هو الـ29 ألا يدعو هذا الرقم إلى ترديد بيت البردوني :

تمضي وتأتي والبلاد وأهلها في ناظريك كما عهدت وتعهدُ

***

وبقراءة سريعة لواقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي وعلى مختلف الصٌعد الذي نعيشه اليوم ، واقع دولة منهارة وعلى شفير هاوية –بحسب تقارير ودراسات دولية- بطالة في الداخل ومشردون في الخارج وتواقون للهروب علقت أنظارهم على الحدود ليأمنوا بما تبقى فيهم من أروح محبطة تملأ بقايا أجساد ، ألا يدعو هذا الواقع ليخرج الناس ليرددوا مع البردوني في وجه صاحب المناسبة:

فيم السكوت ونصف شعبك ها هنا يشقى ونصفٌ في الشعوب مشردُ

****

ألم يستفز النبوغ أو-ما تبقى منه- في اليمن هذا الخروج السافر المتعجرف للاحتفاء بعيد الجلوس الـ29 للرئيس.

ألا يجعلنا ذلك نتابع مع البردوني :

يا عيد هذا الشعب ذلّ نبوغه وطوى نوابغهُ السكون الأسودُ

ضاعت رجال الفكر فيه كأنها حــلمُ يبعثره الدجى ويبددُ

للشعب يوم تستثير جـراحه فـيه ويقذف بالرقود المرقدُ

****

ولأنني وكثير من أمثالي المشردين في الداخل والخارج نؤمن أشد الإيمان بأنه " ليس السكوت الذي يحدثه الملل كالسكوت الذي يحدثه الألم " فإننا سنتابع وكلنا إيمان بالحرية وكفر بالاستبداد الذي يعد الاحتفال بعيد الجلوس أحد مظاهره الصارخة سنتابع مع البردوني :

ولقد تراه في السكـينة إنما خلف السكينة غضبةٌ وتمردُ

تحت الرماد شرارةٌ مشبوبةٌ ومن الشـرارة شعلةٌ وتوقدُ

لا لم ينم شعب ويحرق صدره جرحٌ على لهب العذاب مسهدُ

شعبٌ يريد ولا ينال كأنهُ مما يُـكابد في الجحيم مقيّدُ

****

ولأن عقيدة الحياة هي عقيدة البردوني وعقيدتنا فإنه قد ختم بها الأنفاس

إذ يقول :

أهلاً بعاصفة الحوادث إنها في الحي أنفاس الحياة ترددُ

وأضُيف من عندي :

وإذا أقاموا للجلوس موائداً يهتزٌ من تحت الموائد موعدُ

سنقيم عرساً للقيام وثورةً للجوع تهزمهُم وإن لم يقعدوا 

****

سؤال مشروع: هل يليق برئيس يفترض أنه منتخب ديمقراطياً وعبر صناديق الاقتراع وبرئيس لا يملك صكاً سماوياً كصكوك الأئمة ، ولا ملكاً كملوك نجد والحجاز أن يحتفي بعيد الجلوس ؟!

فإذا كان "يليق" فلماذا التغني بالتميز الديمقراطي المزعوم ؟ وإذا كان "لا يليق" فلماذا يُسمح به وبهذه الصورة الموتورة ، أم أن الوعاظ سحبوا البساط ولم يبق منه إلا أطرافه ، أم أنه كما يرى –علماء النفس وعلماء الاجتماع السياسي- صورة من صور الدوخان الأخير بعد أن استزفت الحيل والألاعيب والشعوذة السياسية ؟!

* باحث وكاتب صحافي يمني

eskandarsh@yahoo.com