المقدس المفقود في بيروت !!
بقلم/ اسكندر شاهر
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 18 يوماً
الأربعاء 05 ديسمبر-كانون الأول 2007 03:36 م

مأرب برس - خاص

لن يكون بمقدوري أن أتجاهل خبراً يخص لبنان ، ليس لأنه فقط بلد عربي ومن أجمل البلدان في عالمنا العربي وأكثرها حيويةً على كافة الصعد ، وإنما استجابة للعلاقة العضوية التي ربطتني به من خلال دراستي في إحدى جامعاته وإقامتي المتقطعة فيه ، ومما يميز لبنان –فضلاً عن الميزات التي لاحصر لها- إن صورته من الداخل والخارج تبدو متماثلة بعكس حال البلدان العربية الأخرى وخاصة بلدان الجزيرة العربية التي يحكمها التعتيم تارةً وقد بات عادة بشعة غير منفكة ، والتنميق المزيف للحقيقة تاراتٍ أُخر .

لبنان الذي نتعلم منه كثيراً من الدروس لاسيما الدروس الصعبة والأكثر جدلية كالحرب والسلم ، هل تُراه بحاجة إلى مُعلم في الظروف الراهنة ؟!. وماهو الدرس الأغلى والأرفع ثمناً والأشرف رتبة والأفضل قدراً ومكانةً في هكذا ظروف .

للإجابة عن هذا السؤال الذي ينبغي لكل من يحب لبنان من اللبنانيين أن يكون قد توصل إلى جوابه الإيجابي الفعال لا العكسي السلبي الذي يخشاه كل مهتم بلبنان ومتطلع لمستقبل أفضل له .

كلمة واحدة هي قطب الرحى للإجابة عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة التي تستطلع حاضر لبنان وتستشرف مستقبله.

إنها (الحوار) الذي ربما يعني للبنان ما لا يعنيه لغيره أو لنقل يعني للبنان أصلاً في كينونته وسبباً في بقائه واستمراره وقوته .

فإذا كان لبنان ما بعد الطائف هو لبنان الجديد الذي يزعم أقطاب اللبنانيين أنه مقدس وأنه المرجعية الفُضلى التي لا مرجعية أجدى منها فذلك لأنها كانت محصلة حوار أفضى إلى تلك التسوية بتلك الصورة التي يعرفها اللبنانيون جيداً ويعرفها غيرهم بنسب متفاوتة و تعتمد بصورة أساسية نظام المحاصصة الذي قد يبدو الأليق والأكثر نجاعة بالنسبة لبلد تحكمه الطائفية والأسرية ويهفو إلى الحرية التي تبدو هي ذاتها ليست حرة لكثرة ما للتقاليد اللبنانية الخاصة من شأن أساسي وأثر عميق على مختلف مفاصل الحياة في هذا البلد الذي يحب الحياة.

 ولكن قدسية الطائف عندما تُستحضر فليس لأن مافي وثيقة الطائف مقدس وإنما لأنها شكلت التسوية التي أوقفت نزيف الحرب الأهلية بعد أن أحرقت باريس الشرق وحولته إلى رماد .

ربما لن يكون من السهل على الزعماء اللبنانيين و معظمهم هم أنفسهم أمراء الحرب أن يعترفوا بعدم قدسية وثيقة الطائف ، ولكن يبدو لكل مراقب حصيف إن هذا الأمر ليس متحققاً بالنسبة لزعامات جديدة لم تكن ذات صلة بالحرب الأهلية بقدر ما لها كل الصلة بالأزمة الراهنة بمختلف تعقيداتها في لبنان ، وأعني بوجه خاص حزب الله اللبناني وبعض الزعامات من مختلف الطوائف والتي تدور في فلك ما يسمى بالمعارضة .

وهذا سمعناه بشكل صريح في أتون أزمة المعارضة والموالاة التي تدور رحاها منذ مقتل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وخروج الجيش السوري وما تلى ذلك من أحداث دراماتيكية .

فبينما يعمد أقطاب المعارضة إلى إعلان التمسك بالطائف بوصفه مقدساً عند البعض أو الكثير من اللبنانيين ، تبقى قوى الموالاة –على حد تعبيرهم- تشكك في إيمان المعارضة بذاك الإعلان حقيقةً من واقع معرفة مستبطنة بأن قدسية وثيقة الطائف ليست محل إجماع اللبنانيين إلا من جهة جزئية ارتباطها بتسوية تاريخية أعقبت حرباً أكثر تاريخية .

وعود على بدء ، فإن لبنان الذي يميل بطبيعته إلى الأضواء وليس "كراعية الطائف" الميّالة دوماً إلى اللعب تحت الطاولات وفي الجحور المعتمة ، فقد بدأت حقيقة عدم قدسية وثيقة الطائف تطفو على سطح الحرب الإعلامية والمناورات السياسية التي لا يكلها ولا يملها ساسة لبنان تماماً كما لا يكل ولا يمل الشعب اللبناني من حب الحياة والرقص على تخوم الأفراح والأتراح.. الويلات والعظائم .

وما التركيز على قدسية الطائف من عدمها إلا مقدمة ضرورية لكسر حاجز الخوف والظهور على المكشوف الذي هو عادة لبنانية بامتياز ، وهنا أحب أن أورد عدة نقاط أعتقد أنها حقائق أو أزعم أنها كذلك مع العلم أني ممن يقولون بثبات الحقيقة وعدم نسبيتها بعكس ما هو شائع في أوساط المثقفين والمتعلمين ، ولست أرى نسبية إلا لفهم الحقيقة وليس للحقيقة ذاتها .

- قد أثبت اللبنانيون عبر طول الأزمة اللبنانية وشدتها في السنوات الأخيرة ووصولها إلى الذروة المتوقعة وغير المتوقعة أن الحرب الأهلية باتت ماضٍ سحيق يربأ اللبنانيون بأنفسهم منه حتى أولئك الذين أشعلوا فتيل الحرب الأهلية آنذاك .

- ينبغي مع هذه الحقيقة التي يمكن لكل مراقب أن يلمسها ويستشعرها أن تُلغى قدسية وثيقة الطائف وأقول "وثيقة" الطائف وليس الطائف نفسه لأنه سيبقى محل قدسية بوصفه كما أسلفت عنواناً للتسوية التاريخية لحرب لا يريد أن يتذكرها أحد أو يعود إليها.

- تتحول قدسية وثيقة الطائف إلى (الحوار) الذي هو أصل المقدسات وكما أوضحت لولا الحوار لما كان الطائف ووثيقته .

- والحديث عن موجبات الحوار في لبنان ، هو حديث عن فلسفة الوجود اللبناني فلبنان آية الحوار بين الشرق والغرب وكراس تدوين الحوار بين الحضارات والأديان والطوائف والمذاهب ، وخير دليل على ذلك ما نشهده من ائتلاف متنوع في الدين والعرق والطائفة والعادات ضمن قوى الموالاة وقوى المعارضة على حدٍ سواء .

ويقول في هذا الصدد د. ساسين عساف "لقد بات واضحاً في أذهان اللبنانيين أن بلدهم قام على تسوية بعد خلاف ، وهو مبدأ يحكم تاريخهم من نظام (القائمقاميتين) حتى وثيقة الطائف ، فلبنان هو بلد التسويات الدائمة في إثر الخلافات الدائمة .. لا تسوية من دون حوار يدور بين أطراف الخلاف" .

وسأورد تباعاً بعض العبارات التي يركز عليها عساف والكثير من الحواريين اللبنانيين والعرب وهي مبادئ تحكم لبنان بعد التسوية وتسحب كل قدسية فيه إلى (الحوار) وسأعمد إلى وضع كلمة الحوار بين قوسين ومنها:

-لبنان لجميع أبنائه ، وهو مبدأ يدعو الجميع إلى (الحوار) مع الجميع فلا تفرد فيه ولا أرجحيات ولا امتياز فيه لأحد .

- الجمهورية اللبنانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد وهو مبدأ يشترط (الحوار) بالحرية .

-الشعب هو مصدر السلطات وهو مبدأ يوجب (الحوار) الدائم بين الشعب والسلطة . وهذا النوع من (الحوار) قد يتخذ شكل الانتخاب والمراقبة والمحاسبة اليومية غبر الاعتراض والتظاهر ووسائل الإعلام و...إلخ.

- النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها ، وهو مبدأ يوصي حكماً بـ(الحوار) بين المسؤولين . ونلاحظ هنا أنه عندما فقد الحوار في الأزمة الراهنة وصلت الأمور إلى الفراغ الرئاسي فلا رئيس جمهورية للبنان ولا يمكن وصف ما يفعله رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بأنه توازن أو تعاون حيث لا حوار بين المسؤولين الأساسيين الثلاثة لحود –بري-السنيورة ، خرج الأول ولا حوار وتعاون بين الآخرين .

-لكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء من أرض لبنان ، وهو مبدأ يكرس (الحوار) اليومي والمباشر بين الناس في مستوى الحياة المشتركة (التعايش) .

-لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك ، وهو مبدأ يجعل من (الحوار) مدخلاً وحيداً إلى نظام التوافق . ونلاحظ هنا ومن خلال معطيات الأزمة الراهنة أن انعدام الحوار أدى إلى فقدان السلطة الثالثة (الحكومة) شرعيتها –على الأقل بالنسبة للرئيسين الآخرين لحود وبري وفريق من اللبنانيين ، وخرجت طائفة كاملة من التمثيل الحكومي ، وضاعت فكرة "التوافق" التي كما أسلفنا (الحوار) هو المدخل الوحيد إليها .

هذا بعض ما يُمثله الحوار بالنسبة للبنان مابعد الحرب وفي ظل التسوية القابلة للحوار –باعتقادي- في وثيقتها تحديداً لا لشيء ولكن لأن المبادئ التي قامت عليه قدمت الحوار على ما عداه وليس ثمة إجماع يمكن أن ينتزعه مبدأ في لبنان أكثر من مبدأ الحوار بوصفه مدخلاً وحيداً للتوافق وعنواناً للعيش المشترك وأما ما يمثله الحوار في التفاصيل اللبنانية الأخرى فيطول شرحه ولا يتسع له هذا المقال .

(الحوار) الذي غيّبه الفرقاء اللبنانيون لا يزال يحكمهم من حيث يشعرون ولا يشعرون وهم في ذلك يدخلون من "باب دوّار" سيبقون في دائرته وإذا دلّهم على منفذ فلن يكون إلا المنفذ الواحد والوحيد وهو العودة إلى طاولة واحدة مستديرة والاحتكام إلى مقرراتها ، فهل تطول لغة محاكاة الخارج التي انتهجها الزعماء اللبنانيون وأدت إلى الفراغ الرئاسي والضعف الحكومي و الاعتصام المعارض في وسط بيروت والذي سيدخل موسوعة غينتس للأرقام القياسية ، أم أن اللبنانيين الذين طلقوا الحرب إلى غير رجعة ، تخلوا عن أسلحة الحرب القاتلة والفتاكة واستعاضوها بوسائل أخرى تستحضر نكهة الحرب البائدة ، وتستبعد حاضر لبنان ومستقبله ؟! .

eskandarsh@yahoo.com

مشاهدة المزيد