أستاذي الديلمي الذي عرفت
بقلم/ أ د فؤاد البنا
نشر منذ: 3 سنوات و 5 أشهر و 9 أيام
الإثنين 14 يونيو-حزيران 2021 07:09 م
 

الدكتور عبد الوهاب الديلمي رحمه الله من أهم الأساتذة الذين درست على أيديهم في كلية الآداب بجامعة صنعاء عندما كنت في المستوى الأول، فقد كان يصيبنا الذهول حينما نراه يتصبب علماً وفقهاً، ويتدفق حيوية وجدية، وكان ذا هيبة عجيبة، حيث ترى الطلاب في محاضرته وكأن على رؤوسهم الطير، بمن فيهم من اشتهروا بالمشاغبة والشجاعة الأدبية، وكان حينما يدخل القاعة لا يجرؤ أحد على الدخول بعده بعكس آخرين من الأساتذة ولا سيما من الأزهريين المصريين.

 ومن أطرف ما أتذكره في هذا السياق أن طالبة استأذنت في دخول القاعة بعد أن بدأ بشرح المحاضرة، فقال لها: لماذا تأخرت يا ابنتي؟ فقالت: ظروف. قال لها: ظروف وإلا أوراق؟!..ولما كانت مثل هذه المواقف الطبيعية الطريفة تُضحكني؛ فقد كتمت ضحكة قوية تحت أنفاس حيائي وهيبة أستاذي، إذ لم أكن أتصور أن ذلك الدكتور الذي تسبقه هيبته إلى القاعة يمكن أن يمزح مع فتاة صنعانية متلفعة بمشاعر الحياء إلى النخاع ومتسربلة بثياب الخجل إلى القاع!

وبسبب حيائي الشديد فقد كنت نادر التفاعل مع أسئلته، وهذه الندرة لا تقع إلا إذا لم يرفع أي شخص في القاعة يده لطلب الإجابة، وكان ذات يوم قد سأل عن سر رفع كلمة رسوله في قوله تعالى: {أن الله بريء من المشركين ورسولُه}، فذهب طلاب عديدون مذاهب مختلفة في الإجابة الخاطئة، وبعدما رأيته محبطا من كثرة الإجابات الخاطئة رفعت يدي وأجبت، فصوّب الدكتور إجابتي، ونظر إليّ زميلي الذي كان ينافسني والشرر يتطاير من عينيه وكأني نلتُ منه؛ ذلك أن الدكتور كان قد سمح له بالإجابة مرتين وفي كليهما كان يبعد النجعة!

وأتذكر أنني قابلت ذات صلاة ظهر في مسجد الجامعة الجديدة شخصا تنحى بي بعيدا في إحدى زوايا المسجد، وفهمت في ما بعد أنه كان يحمل فكرا خمينيا يتغطى بثياب الزيدية، وكان يحاول تزيين ذلك الفكر لي وربما كسبي، وأعطاني اسمه وأصر على مقابلتي مرة أخرى رغم أني لم أتجاوب مع طرحه، ولما أطال علي قلت له بكل براءة: عندي محاضرة بعد قليل (الساعة الثانية بعد الظهر) في كلية الآداب للدكتور عبد الوهاب الديلمي ولا يسمح لأحد بدخول القاعة بعد أن يدخلها هو؛ فشعرت بأن لونه قد تغير حينما سمع اسم الدكتور وعرف أنني من طلابه، وطلب مني أن لا أذكر اسمه عند الدكتور، مؤكدا على ذلك بشكل يثير الشكوك، لولا أنني كنت أحسن الظن بالآخرين إلى درجة السذاجة، ولم نلتق بعد ذلك أبدا بل ونسيت اسم ذلك الرجل وصورته، وربما صار اليوم من القيادات الحوثية!

ولما لم أكن أعرف كثيرا عن ما يدور في الساحة الدعوية من صراعات مكتومة بين الإسلاميين والملكيين الإماميين؛ فإني لم أخبر د. الديلمي عن ذلك الرجل شيئا والذي يبدو أنه كان قد سمعني ألقي كلمة في إحدى الندوات التي كنا نقيمها أحيانا في ذلك المسجد بين المغرب والعشاء، فأعجبته وطمع في تجنيدي!

ونعود إلى الدراسة فقد انتهيت من المستوى الأول في الجامعة وحولت بعدها من صنعاء إلى تعز، حيث درست بقية السنوات في فرع جامعة صنعاء بتعز، ولم أتشرف للأسف بدراسة مادة أخرى على يد د. عبد الوهاب الديلمي، وعندما كنت في المستوى الرابع فوجئت بالدكتور عبد الوهاب يسير في ممرات كليتنا بتعز وحده قبل الظهر، ورغم أنني كنت شديد الحياء وأخجل من الكلام مع واحد من أساتذتي فقد سلمت عليه وعرفته بنفسي؛ وكنت إذ ذاك قد صرت كاتبا معروفا في صحيفة الصحوة، ثم سألته عما يعمله هنا، فعلمت منه بأن إدارة الجامعة انتدبته لتدريس إحدى المواد في فرعها بتعز، لكنه بسبب ميعاد الطائرة نزل قبل موعد المحاضرة بأكثر من ثلاث ساعات.

ولما كنت أسكن في غرفة ضمن شقة طلابية قريبة من الكلية؛ فقد عرضت عليه أن يأتي معي للراحة حتى يأتي موعد المحاضرة في الثانية ظهرا، فوافق دون تردد، وجاء معي رغم أنه لم يكن يعرفني، فقط ثقة بما قلت أنني درست عنده مادة في المستوى الأول، وربما يكون قد قرأ لي في صحيفة الصحوة، وجاء معي الشقة وتكلمنا حول الأوضاع السائدة آنذاك، ولما كان يبدو عليه آثار الإرهاق، فقد تركته يرتاح، وقبل موعد المحاضرة بقليل ذهبت به إلى قاعة المحاضرات، وبعدها لم أكن أره إلا في بعض المرات التي كنت أسافر فيها إلى صنعاء لعمل أو معاملة ما، حيث كنت أتنقل أيام الجمع بين أشهر خطباء صنعاء، وهو منهم، لسماع خطبة الجمعة، ولكن حيائي، مرة أخرى، منعني من الذهاب بعد الصلاة للسلام عليه، حيث كنت أنصرف فورا بعد انتهاء الصلاة!

تقبله الله تعالى في المتقين ورفع درجته في عليين، ونسأل الله أن يمنحنا علماء ربانيين يربّون الناس بأفعالهم قبل أقوالهم وبسلوكياتهم قبل معارفهم.