الدراما التركية من التاريخ إلى الخيال العلمي
بقلم/ هاني بشر
نشر منذ: سنتين و 6 أيام
الجمعة 18 نوفمبر-تشرين الثاني 2022 05:01 م
 

احمد عايض: يهرع سكان إسطنبول لارتداء سماعات الرأس بعد أن ضربت جائحة البلاد، وهي وباء ينتقل عبر التواصل اللغوي والكلام فقط. تحميهم هذه السماعات من ثرثرة المرضى الذين أصابتهم الجائحة. ولم ينجُ سوى عدد قليل من السكان من الإصابة بأعراض هذا المرض الغريب، وكان من بين هؤلاء "مراد" المتخصص التركي السابق في العلوم اللغوية والذي يحاول مساعدة فتى صغير، ويدخل في صدام مع مؤسسة مكافحة الأوبئة القاسية بينما يخوض مغامرة من أجل اكتشاف رأسه المحصن ضد هذا المرض في المسلسل التركي "الرأس المحموم" والمقرر عرضه الشهر المقبل يوم 2 ديسمبر/كانون الأول 2022 على منصة نتفليكس من إخراج ميرت بايكال. المسلسل من فئة الخيال العلمي ويعد من أعمال الديستوبيا أو العوالم البائسة التي يعاني فيها كافة البشر من أزمة جماعية كبيرة لا تخص أحد الأفراد، وهي عكس نموذج "يوتوبيا" التي تعني "المدينة الفاضلة" التي يسير فيها كل شيء بشكل مثالي. وهو مكون من 8 أجزاء ومأخوذ من رواية الكاتب التركي آفشين كوم، ويحمل (المسلسل) اسم الفيلم نفسه. فكرة المسلسل ليست جديدة في عالم الفن الذي قدم أفكارا مشابهة لكنها جديدة على صعيد المسلسلات التلفزيونية لا سيما المنصات الرقمية مثل نتفليكس وغيرها. بالإضافة لذلك فإن المسلسل يقدم فكرة خيال علمي تدور في مدينة إسطنبول بكل ما تحمله من ثقافة شرقية وإسلامية. كما أنه يدور في فلك موجة جديدة من المسلسلات التركية التي تتبنى الخيال العلمي كموضوع رئيسي فيها مثل مسلسل "الغواصة ياكاموز S-245" للمخرجين تولغا كاراجيليك وأوموت آرال، والذي بدأ عرضه قبل أشهر على نتفليكس أيضا، ويتناول اكتشاف قاعدة "إنجرليك" العسكرية التركية لظاهرة غريبة تؤدي لخلل في المجال المغناطيسي للشمس مما ينجم عنه انفجار الشمس ومصرع جميع البشر. في فيلم "القمح" استعارات واضحة وكيف أن الإنسان يلجأ أول أمره إلى الكهف بحثا عن النجاة في الانعزال ممثلا في تجربة قصة أصحاب "سورة الكهف" ثم يلجأ للمال كما في قصة أصحاب الجنتين قبل الوصول إلى المحطة الأساسية وهي البحث عن الذات من الداخل وليس الخارج في قصة سيدنا موسى عليه السلام، والتي تقود إلى نموذج العمران الحضاري القائم على البناء الرشيد للعمران وبناء الروح مع قصة ذي القرنين والخيال العلمي على هذا الصعيد ليس مجرد موضوع ترفيه وإنما هو نوع من التنبؤ بمستقبل التطور التقني والعلمي في العالم. وقد أثبتت السينما قدرتها على التنبؤ بأحداث كثيرة منها ما هو سياسي واجتماعي وعلمي. ولعل أبرز مثال على ذلك عدة أعمال فنية توقعت بجائحة كوفيد-19 بتفاصيل تقترب وتبتعد عما شهدناه في الواقع الحقيقي مثل الفيلم الأميركي "تفشي" عام 2011 للمخرج ستيفن سودربيرغ والذي يروي قصة امرأة تعود إلى الولايات المتحدة من رحلة إلى هونغ كونغ محملة بمرض معد. وهناك أيضا فيلم "الجائحة" عام 2016 للمخرج الأميركي جون سوتس ويحكي عن رحلة طبيبة من مدينة نيويورك تسافر إلى مدينة لوس أنجلوس للبحث عن أحياء بعد أن حصد فيروس مميت حياة كثيرين حول العالم. الخيال العلمي بالدراما التركية الحديثة مرت الدراما التركية بعدة مراحل قبل أن تصل إلى مرحلة الخيال العلمي. فقد كانت البداية مع المسلسلات الاجتماعية والرومانسية. وروجت هذه المسلسلات لفكرة جمال المكان والأزياء والمشاعر في إطار من التراجيديا. بعد ذلك اتجهت إلى القضايا التاريخية والتي حملت كل الآمال السياسية العريضة التي وضعها كثيرون على تركيا في إطار واقع عربي سياسي وتنموي بائس. وقد كان التاريخ قاسما مشتركا مع عشرات الملايين من الشعوب التركية والعربية، وهو رابط جامع يعزز من الهوية ويعيد اكتشاف الماضي ويقيم جسورا ويغذي شعور الحنين. أما الخيال العلمي فهو على النقيض من كل ذلك، إذ يقفز إلى المستقبل ويحفز على التفكير في العلوم والتقنيات الحديثة ويعزز من القدرة الذاتية وتحقيق المستحيل والتفكير في اللامعقول. وهو تطور طبيعي لأية عملية إنتاجية طموحة تبدأ في النبش بالذاكرة والماضي، وبعد أن يتم استهلاك معظم رموز وأحداث تاريخها الحديث في مسلسلات تاريخية تتجه إلى نوع درامي جديد. وحسنا فعلت الدراما التركية أن نحت هذا المنحى، لأنها من ناحية تقدم رؤية سينمائية شرقية عن العلم، ومن ناحية ثانية تكافح روح الإحباط واليأس التي تعتري الشباب عن طريق تقديم سردية علمية سينمائية من دولة شرقية مسلمة لها سجل من الاختراعات والتصنيع في العصر الحالي. وليس سرا أن الخيال كفكرة هو كلمة سحرية لدى الجيل الحالي من الأتراك حكومة ومعارضة وشعبا. ودلالة هذه الكلمة يوضحها موقف شهير بين رئيسيْ الوزراء الراحلين نجم الدين أربكان وبولنت أجاويد حين اتهم هذا الأخير مشروعات حزب الرفاه (حزب أربكان) بأنها أمور خيالية، فيرد عليه بأنه (أجاويد) كشاعر يعرف جيدا دور الخيال في الحياة وأن حزب الرفاه بالفعل لديه خيال واسع لكنه يسعى لتحقيقه على أرض الواقع. ويعد فيلم "القمح" عالم 2017 من إخراج سميح كابلان أوغلو واحدا من المحاولات الهامة في إطار خيال علمي نابع من الثقافة التركية، وإن كان في إطار سينمائي وليس تلفزيونيا. إذ قدم الثقافة العربية والإسلامية في إطار خيال علمي مشوق وفريد. فهو فيلم باللغة الإنجليزية يتناول فلسفة العلاقة بين الإنسان والطبيعة التقنية الحديثة من إنتاج تركي ألماني فرنسي سويدي قطري مشترك. ويدور حول رحلة البروفيسور "إيرول إيرين" العالِم في مجال الهندسة الوراثية الزراعية والذي يعيش بمدينة مستقبلية محمية من دخول المهاجرين متعددي الأعراق إليها. وبعد أن تتعرض المدينة لمشكلة في الهندسة الوراثية غير معروفة الأسباب، يقرر البروفيسور البحث عن عالم آخر كتب دراسة أزمات المزروعات المعدلة وراثيا. وتقوده رحلة البحث هذه إلى اكتشاف ما كان يجهله عن نفسه وعن الحياة. وفي الفيلم استعارات واضحة لسورة الكهف، وكيف أن الإنسان يلجأ أول أمره إلى الكهف بحثا عن النجاة في الانعزال ممثلا في تجربة قصة أصحاب الكهف، ثم يلجأ للمال كما في قصة أصحاب الجنتين، قبل الوصول إلى المحطة الأساسية وهي البحث عن الذات من الداخل وليس الخارج في قصة سيدنا موسى عليه السلام، هديا لنفس السورة القرآنية (الكهف). وتقود هذه المحطة الأخيرة إلى نموذج العمران الحضاري القائم على البناء الرشيد للعمران القائم على بناء الروح مع قصة ذي القرنين. الفيلم هنا تطبيق لنظرية "السينما القرآنية" التي أتينا على ذكرها بمقال آخر في رمضان الماضي، حول استلهام القصص القرآني سينمائيا من ناحية المعنى والرمز بخلاف القصص المباشر والمعروف.