نماذج.. من مَحَاسِنِ المَرض..!
بقلم/ يحي عبد الرقيب الجبيحي
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الجمعة 18 يونيو-حزيران 2010 07:03 م

-"لا تحزن.. إن كنت فقيراً- فغيرك محبوس في دين.. وإن كنت لا تملك وسيلة نقل- فسواك مبتور القدمين.. وإن كنت تشكو من الآم- فالآخرون يرقدون على الآسرة البيضاء ومنذ سنوات.. وإن فقدت ولداً- فسواك فقد عدداً من الأولاد في حادث واحد.. "من كتاب "لا تحزن" لفضيلة الشيخ/ عائض بن عبدالله القرني..

-المرض.. من منا يتمناه؟ حيث يغيب المرء فيه عن حياته المعتادة.. وتتجمد مشاريعه الخاصة والعامة.. ويُجبر على أداء برامج وطقوس غير مألوفة.. ويظل أسير الفراش فترة من الزمن تطول أو تقصر.. وقد يعود إلى حياته المألوفة بصورة أقل وبحماسة مختلفة.. وقد لا يعود أصلاً!!.. ولذا.. لا أخال أحداً يتمنى المرض أو يتطلع إليه؟!.. ورغم ذلك.. فإن المرض ليس مكروهاً بصورة مطلقة.. فقد تظهر خلاله وبعد الشفاء منه.. محاسن قد يكون من الصعوبة ظهورها في غير ذلك.. ويمكن لكاتب هذه "الدردشة" أن يوجز بعض محاسن المرض من خلال معايشته الفعلية له مؤخراً.. فقد يجد القارئ هنا ما يتطابق مع بعض توجهاته وهمومه.. وهذا هو الدافع الأول لتسطير هذه المقالة..

- فمن محاسن المرض.. اكتشاف المرء لعجزه وضعفه أمام النكبات والخطوب والتي تأتي بعضها بصورة مفاجئة وسريعة كما هو حالي.. حيث أجري فحوصات سنوية في أهم وأفضل مشافي العالم.. والذي يعتبر الدخول فيه للمعالجة مجرد أمنية لدى الكثيرين.. ليأتي مرضي الأخير مفاجئ وبصورة غير متوقعة.. ولسان الحال يردد قول الشاعر:-

-"ولكنها الأقدار تجري بحكمها علينا وأمر الغيب سرٌ محجبُ"

فلا يملك المرء أمام تلك النكبات والخطوب إلا اللجوء إلى خالقه رافعاً أكف التضرع بخالص الدعاء وعظيم الرجاء.. بكل ثقة وإخلاص وتجرد وليس بحكم العادة؟!..

-ومن محاسن المرض تجربة معايشة الموت.. حينما يسبق إجراء العملية- قيام الطبيب بالتخدير- حيث تبدو يده شبه ثقيلة وخشنة.. لكنني وقد سلمتُ الأمر لله ووثقت بهذا الطبيب.. حسبتها يداً حانية رغم الاختلاف عند البدء حيال التوقيع على الورقة الخاصة بإجراء العملية.. بسبب بعض الجُمل والتعبيرات التي لا تتطابق مع الواقع، ولا تنسجم مع الحالة النفسية للمريض.. والتي قد تعطي بعض الشكوك والجزم بالفشل وليس العكس!.. وإن كان هذا قد لا ينطبق على طبيبي الذي أصبح بعد الشفاء من اقرب الناس وأحبهم إليّ.. ولأن الطبيب الحاذق لا يقف أمام عمله صياح مريضه ولا شكوكه!..

- ولذا فإن معايشة تجربة الموت من أهم محاسن المرض.. حيث التحرر المؤقت من الشهيق والزفير، ومن الشعور والإحساس، ومن كل ما ومن حولي.. ولبضعة ساعات.. حسبتها عند الإفاقة بضعة ثوانٍ!.. ولعل الحكمة من هذا التحرر.. لكي ترتفع النفس إلى باريها وهي متحررة من القيود المادية والحسية!.. وكنت حينما حُررتُ من ثيابي المعتادة قبل الذهاب إلى غرفة العمليات.. قد تذكرتُ مقولة جبران خليل جبران في كتابه "النبي" حينما قال على الثياب:- "إن ثيابكم تحجبُ من جمالكم الكثير.. لكنها لا تخفي ما قبُحَ فيكم"..

- ومن محاسن المرض.. إعادة الثقة ببعض مشافي وأطباء الوطن.. فقد ظليتُ متردداً على إجراء العملية رغم سهولتها كما قيل.. لعدم وجود الثقة جراء ما أقرأ عن تجاوزات وأخطاء بعض مشافي وأطباء الوطن.. لتأتي نصيحة الطبيب/ عبدالواسع العاقل- بأهمية إجراء العملية عاجلاً وليس آجلاً هي الدافعة لي.. ثم لتردد اسم الطبيب/ محمد عبدالغفور لدى العشرات ممن استشرتهم!.. ولأن الكلام المتواتر يُعمل به شرعاً.. فقد اخترته عما عداه.. ليتأكد كلام المستشارين عنه.. حينما وجدته فوق وصفهم أخلاقاً وتعاملاً وتواضعاً ثم وهو الأهم خبرة ودراية.. واخترتُ مشفى "جامعة العلوم والتكنولوجيا" عما عداه.. لمعرفتي المُسبقة بحرصه على السمعة وعلى التحلي بالأمانة- ولو حسب الظاهر المُعلن.. رُغم حرصه على أخذ حقوقه كاملة تحت أي ظرف كان ومقدماً؟!.. والتي قد تكون كبيرة عند المقارنة!..فللطبيبين القديرين.. محمد عبدالغفور، وعبدالوسع العاقل، ومن خلالهما لمشفى "جامعة العلوم والتكنولوجيا"..(جُل الشكر والتقدير والعرفان- ولأن "من لا يشكر الناس- لا يشكر الله")..

- ومن محاسن المرض.. شعوري بعده بتغيير بعض المفاهيم والسلوك.. فقد كنت قبل مرضي أحمل بعض الغيرة.. خاصة ممن لم يجزم عاقل بوصوله إلى ما وصل إليه لانتفاء الأسباب الجوهرية المعتادة في غير وطننا!.. لكنني بعد مرضي.. حسبتُ أن الله يحبني حينما لم أُحظى كما حَظِيَ به المَعني بهذا الحديث العابر وبنفس طريقة الاختيار؟!.. كما كنتُ قبل مرضي أحمل بعض الشماتة للبعض ولو سراً!.. وأضيق من أي ألم.. وأغضب لأحقر الأسباب.. واقسو بشدة أحياناً.. وأُصدق معظم ما أسمع.. لكنني بعد مرضي.. أشعر بأني أصبحت عكس ذلك تماماً.. وكما كنت قبل مرضي أعيش في ذات الغير أحياناً.. أصبحتُ بعده أعيش في ذاتي دائماً..!!

- ومن محاسن المرض.. اكتشافي لمحبين من كل التوجهات والأصناف.. حيث تواصل الزيارات ليل- نهار.. والاطمئنان عبر التليفون من داخل الوطن وخارجه.. وعلى رأس هؤلاء: سعادة سفير خادم الحرمين الشريفين بصنعاء الأستاذ/ علي محمد الحمدان- الحريص على علاقاته مع مختلف الشرائح اليمنية بوجهٍ عام ومع الصحفيين ورجال الفكر بوجهٍ خاص.. والفضل لله ثم للزميلين القديرين- عرفات مُدابش، وأحمد غراب.. فقد كان للخبرين المنشورين بموقع "التغيير" وبصحيفة "السياسية" عن مرضي.. دورٌ كبيرٌ في معرفة هؤلاء الزوار والمتصلين.. كما عرفت لاحقاً.. فللزميلين القديرين كل شكر وتقدير وعرفان.. ثم إلى الزميل القدير/ نبيل الكميم.. الذي بتواصله معي أحسبه الوحيد من زملاء المهنة المُتابع لما نُشرَ عني!.. وهذا عند افتراض حُسن النية..

- وكان الأغرب عندي.. ظهور مُحبين لم أعرفهم قبلاً!.. ومن يدري.. فربما كنا في الظاهر على افتراق بينما نحن في الباطن على تلاق.. وربما كنا نتناجى بالضمائر.. ونتخاطب بالسرائر..

- ورغم كل ما سبق.. فقد حدث بفضل المرض.. مالا يُتوقع- حيث كان تطلعي بما يخص الزيارة أو حتى الاستفسار فحسب..إلى جهتين- إحداهما/ التي اعتبرتها عند حصولي على بطاقة العضوية فيها بمثابة"قبيلتي" كما اعتبرها قبلي زميلي عبدالكريم الخيواني.. والأخرى/ التي أنتسب إليها وظيفياً.. التي ذقتُ فيها من آلام الحياة وضنك العيش مالا يتناسب مع سُمعتِها؟!.. والتي أخذتني لحماً ورمتني عظماً!!.. ولولا وجود أمين عام فيها صادق ووفي مع زملائه- لمعايشته قبل منصبه الجديد هموم الموظفين عملياً.. لكان مصيري كمصير بعض زملائي في المهنة ممن يُحسبون وظيفياً على وزارة الإعلام؟!.. مع انه بفضل الله ثم بفضل قلمي لم أعد أعول عليها كثيراً.. نعم كان تطلعي إلى هاتين الجهتين مضاعفاً.. لأفاجئ منهما بالجفاء واللامبالاة على المستويين الخاص والعام..رغم معرفتهما قبل غيرهما.. ولسان الحال يردد:-

-"جزى الله الشدائد كل خير عرفتُ بها عدوي من صديقي"..

- رغم أني لا أملك إلا أصدقاء ولا أقتني إلا محبين..

- ومن محاسن المرض.. أنني اكتشفتُ أن بعض الخدمات التي قدمتها لمن يستحق ولمن لا يستحق.. لا تتناسب مع حجم العواطف التي شعرت بها عند مرضي.. وهو ما قد يدفعني اليوم لمضاعفتها!..

 ومن هنا.. أستطيع الجزم.. إن للمرض محاسن عديدة.. والتي منها ما قمتُ بسردها آنفاً بكل إيجاز ممكن!..

-وان أنسى.. فلن أنسى هنا.. ترددي على بعض جيراني من المرضى.. بعد الإفاقة والقدرة على السير.. وعندما أطلعتُ على مدى حجم الآم بعضهم.. بما في ذلك بقاؤهم على الأسرة دون حركة لأسابيع والبعض منهم لشهور.. تذكرتُ تلك الجمل الخمس المتصدرة لهذه المقالة والتي تضمنها كتاب"لا تحزن" الذي كان بعد كتاب الله هو رفيقي في المشفى وأثناء فترة النقاهة.. بل كم سُعدتُ حينما تواصل معي فضيلة الشيخ/ عائض بن عبدالله القرني تليفونياً للاطمئنان عليّ.. وبين يدي كتابه "لا تحزن".. هذا الكتاب القيم الذي جَسّدَ العنوان بعرضه وجوهره.. لما حواه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية.. ونماذج وأمثال وَعِبَر.. عبرَ سردٍ نادر وعرض مُشَوق غير مألوف في مؤلفات اليوم.. ليصبح حديث المجالس الخاصة والعامة في مختلف الدول العربية والإسلامية.. ولتتجاوز طباعته المليونين نسخة.. فكم يتمنى أمثالي وضع كتاب"لا تحزن" بجانب كتاب الله.. على أسرة المرضى.. خاصة في وطننا اليمني.. حيث يتعايش معظم المرضى مع أمراضهم الجسدية والحسية والمادية والنفسية وبآنٍ واحد..

- وفي اليوم الذي غادرتُ فيه المشفى عائداً إلى المنزل- والفرحة تغمُرُني- أسعف إلى نفس المشفى العزيز القدير الزميل الراحل/ يحيى علاو- الذي كنتُ أجده عند زياراتي له بالرياض أثناء تلقيه العلاج.. قمة في الإيمان والثبات والتفاؤل.. وهاهو يُسعف مرة أخرى بعد انتشار المرض- ليُفضل جوار الله عما عداه- يرحمه الله- وظل بجواره هنا وهناك- العزيز/ عبدالغني الشميري.. الذي بقدر ما تجسد فيه الوفاء بقدر ما تجسد الوفاء فيه..

- هكذا هي الدنيا.. نخرج من محنة إلى أخرى.. ومن أفراح إلى أتراح..

-"يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً"

فرحم الله الفقيد العزيز/ يحيى علاو..رحمة الأبرار..الذي بوفاته- خسرنا فارساً من أهم فرسان الإعلام اليمني.. والذي كان صادقاً مع الله ثم مع رسالته التي ستظل في قلوب ووجدان وشعور مشاهديه في كل زمان ومكان.. وهو ما ظهر بجلاء من خلال حجم وكثافة مُشيعيّ جنازته، ونظراتهم الحزينة، وقلوبهم المكلومة على فقدانه - يرحمه الله-..

- وبعـــد..

- لقد تمنيتُ لو أن بعض عِلْية القوم بوطننا اليمني ممن يعيشون في بروج وحصون.. لا يبلغها عدو، ولا يصل إليها صديق.. المنشغلين بأنفسهم حتى يئس الناس منهم وأعرضوا عنهم!.. كم تمنيتُ لو أن مثل هؤلاء يُعايشون تجربة الموت المؤقت-!! فلعل ذلك قد يغير من بعض ما هم فيه!.. وان كنت شخصياً أشك في ذلك؟!.. حتى ولو حدث فإنهم سيعودون طريدي الموت، أسيري الحياة.. كسابق عهدهم.. ولسان الحال يردد قول الشاعر:

-"أبتِ الشقاوةِ أنْ تُراوِدُ نفسها وأبى الشقيُ أنْ يكونَ سعيداً"..