ثورة على الطريقة المصرية
بقلم/ محمد عبدالقادر الشويطر
نشر منذ: 13 سنة و 9 أشهر و يوم واحد
الجمعة 18 فبراير-شباط 2011 05:54 م

حينما نسمع كلمة ثورة تستبق صورة ذهنية معينة، وحين نقول مصر ترسم مشاهد متعددة، ومنهما ارتسمت ثورة فريدة درامية (حقيقة) فاقت إثارة وتشويقاً المسلسل الأمريكي الأوسع شهرة  Prison Break ‏ (الهروب الكبير)، حتى أن هناك من حاول أن يشكك في أن (هوليود) قد شاركت في اخراج مسلسل (جمعة الرحيل)، إلا أن زواج يوم الأحد الشهير وسط زغاريد المحتشدين أكد أن السيناريو مصري وغير مقتبس.

لقد خُطِفت كما خُطف المشاهد المسلم والعربي والعالمي عن آي اهتمام أو متابعة أخرى إلا مصر على قناة الجزيرة ففي غرفتي التي لا تتجاوز المترين كنت حبيساً لما يزيد العشرة أيام أتابع الأحداث من العاصمة الماليزية، لقد كان المشهد غنياً وثرياً بما يجذبك لهذه الثورة، لقد كان الحماس الوطني ملهماً، متى اخر مرة هزتك الأناشيد الوطنية؟ لقد تحشرجت العبرة في مآقي العيون والمصريون يرددون النشيد الوطني " بلادي بلادي ... لك حبي وفؤادي" ، وأغنية "يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى أستشهد تحتك وتعيشى أنتى" وألهبت النفوسَ (خلي السلاح صاحي) حماساً منسياً، بل لم أتمالك نفسي إلا أن أصفق وأترنم معهم، تذكرت معنى الولاء والانتماء، الآية الكريمة " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم" مخطوطة على إحدى الشعارات كان لها وقعها الخاص في الزمان والمكان، وكشاب في سني لم يدرك إلا بقايا الأنفاس المتأسفة على ثورات القرن الماضي، وجدت كغيري الثورة المصرية توسوس في أذان الشباب وتلاعب ذكريات الكبار.

المولود الأول 

باركت المولود الأول في تونس بخوف وحب، ما أدري أيهما غلب، حب التحرر، أم الخوف من قادم يعيدنا إلى العهد المنصرم، خوف نابع من حب وشفقة على هذا الصغير الذي يحتاج إلى رعاية خاصة، كيف لا وهذه الثورة الوليدة يرصدها ذئاب وسباع! من جديد تولد الثورة المصرية بنفس المشاعر في قلبي، فمصر أكثر خطراً، فأمريكا تُتابع الوضعَ بقلق بيّن، وكأن مصر ولاية أمريكية أو لا يفصلها عنها إلا خليج الخنازير.

وضع العالم يده على قلبه وهو يتابع (معركة الجمل) أو هكذا وصفت، بأنها الحمار في مواجهة الفيس بوك! وهنا يزداد المشهد سخونة وحماساً، ليضيف هؤلاء البُله مزيداً من الإثارة والتعاطف مع أبطال الثورة.

وبقدر هذا الحب والخوف ونشوة الروح الوطنية الملهمة كان المشهد الاجتماعي والثقافي لذيذا بتتبيلته المصرية المتنوعة.

المشهد الاجتماعي والثقافي

في ثنايا المتابعة اللحظية للأخبار أو ما تبثه المواقع أو محاولات تفسير الثورة وأبعادها.. كان المشهد الاجتماعي والثقافي يستهويني فقد برزا سامياً ورائعاً بشكل عجيب! وصفه من كتب عنه من داخل الميدان بإنه مشهد لم يُرَ مثله! فالتكافل بين المتظاهرين، وتوزيع ما يؤتى به من ماء وطعام "اللي جوعان يأكل"، ومتطوعون لأعمال النظافة، وأطباء وممرضون لإسعاف المصابين، ولجان شعبية لتنظيم السير وحماية المنشئات والتصدي للمفسدين، بما خفف أثار الانفلات الأمني، ومن الطرف ما يرويهم أحدهم، أنه رأى سيارة شرطة أوقفها شاب صغير من اللجان الشعبيّة في الحي عمره لا يتجاوز 16 سنة انهمك في تفتيشها، والشرطي الذي كان يقود السيارة يُخاطبه باستعطاف ويقول "يا باشا أنا شرطي، ميصحِّش تفتشني.. فيرد عليه الشاب بمكر: طيب إيه اللي عرفني أنك شرطي وما تكونشي سجين هارب وعاوز تعمل مشاكل.. أديني البطاقة وما تكترش الكلام".

الفن والثقافة المصرية كانت أيضاً حاضرة بأعمالها وأشخاصها، بما أعطى نكهة إضافية لخطبة الجمعة وكلمة القرضاوي الملتهبة، عمائم الأزهر وصلبان الأقباط حضرت رغم تلجلج البعض، رموز من لاعبين وفنانين كانت حاضرة – باستثناء أراجوز مسرحية الزعيم – كان التناغم والتماسك مثيراً، وفي إعادة منظر فتاة بشعرها الأحمر المصبوغ والبنطال الجينز تتراقص مع أغنية (يسقط ..يسقط)، كان يثير الضحك من محاولة نسبة النظام الانتفاضة إلى الأخوان المسلمين!

لقد كان انصهار المحتجون في (جندر) واحد يستعصي التوصيف، ملحوظاً لتتشكل أوركسترا شعبية متكاملة بكامل التنوع وثراء المشهد المصري. و أعجب ألا تفرح الحكومات بهذا الالتفات الذي يجمع الشعب في لحظة تاريخية ، فأراه من منطق غير منطق الحاكم - طبعاً- أن الذكاء أن تغتنم هذه اللحظة الفارقة فتصحح دفة القيادة بما يخدم مصالح الأمة ويجمعها ويجدد عراها.

في ميدان التحرير مش ح تقدر تغمض عينيك - فقد تحول إلى مسرح عام للمواهب الفنية، وصالونا للحورات الثقافية المفتوحة، بما خفف وطأة المعاناة وعزز الروح المعنوية،. ومن وحي السينما المصرية استقى المتظاهرون شعار (طير انت)، ولكثرة ما تغنى مبارك بطلعاته الجوية كان شعار " أخر طلعة جوية لازم تكون ع السعودية" 

لازال المصريون ونحن معهم نشعر أننا في حلم أوخيال، تذكرت مصر، وكل ما له علاقة بمصر، أصدقاء وذكريات، مسرحيات وتاريخ .. حتى أني تخيلت وكأني بعلاء الأسواني يتمنى أن تكون شخصيات روايته (شيكاغوا) التي هربت من ظلم النظام فلحقته ويلاته إلى بلد الحرية أن تكون حقيقية ليعتقها من نهايته المأساوية في الرواية ، وأن أسامة غريب سيعد كتابة روايته من (مصر ليست أمي ..دي مرات أبويا) إلى (مصر أمي وأبويا).

أرض الثورة والنكتة

إذا كانت كوبا توصف بإنها أرض الحب والثورة، فمصر أرض الحب والثورة والطرفة، ومن رحم الثورة تولد النكتة، والمصريون شعب عرف بخفة الدم وولعه بالتنكيت. إذ لم يفقد المصري حسه الفكاهي حتى في أحلك الظروف، ففي إحدى استراحات المحارب يروي القديمي - في يوميات االتحرير- أنه شاهد جمع من الشباب في مقهى وقف زعيم هذه المجموعة خطيباً وخلال ربع ساعة فقط عيِّن حكومة جديدة. وشكّل مجلسا للرئاسة ورئيسا للدولة. ثم أعلن أول عشرة قرارات ستُصدرها الحكومة الجديدة.. أولها قرار إنهاء معاهدة كامب ديفد.. ولم يُبقِ شيئا يُمكن للحكومة أن تفعله خلال عشرة أعوام إلا عمله خلال ربع ساعة.. بعد قليل قال له أحد الجلوس بسخرية "ياعم أنتا باقي بس تعلن الحرب"، وبعد أن فرغوا من هذه المهام النضالية الشّاقة وأنهى الزعيم قراءة البيان، نزل عن الكرسي ليصافح جُمُوع المُواطنين ويقول: "دي حاجة بسيطة كده.. يعني يمكن اعتبارها ترفيه للثورة.. بعدها راجعين تاني لمُبارك"

وحين سُؤل أحد المتظاهرين: إيه توقعاتك لمُستقبل التظاهرات؟.. فرد عليّه بحماس: مش حنرجع إلا لما يسقط النظام.. ثم أضاف بظَرَف: ولما ننتصر.. حنلعب مع تونس ع النهائئ. حتى أن الشخصيات التي تحدثت للجزيرة لم تخلوا أيضاً تعليقاتهم من الظرافة كوصف جمال زيدان لمبارك بإنه حاصل على دكتوراه في العناد!

وأما الطرف فكثيرة، منها أن وزير الدفاع طلب من مبارك أن يلقي خطاب الوداع للشعب، فاستغرب مبارك وقال: ليه هو الشعب ح يروح فين؟ فتولد هتاف المحتجين، " مش ح نمشي ..هو يمشي "

لقد كان مشهد الملايين وقد خرجت في وداع مبارك مؤثراً لدرجة أصابتني بالغبطة لهذا الرجل، وكانت ثورة على الطريقة المصرية.

alshowiter@hotmail.com