حتمية التغيير بلا حدود.. رؤية قرآنية
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 6 أيام
الأربعاء 16 مارس - آذار 2011 05:49 م
التغيير عملية كونية مجتمعية، وفق قانون كوني مضطرد، لايستثني مجتمعا أو قطراً، أو جيلاً قديماً أو حديثاً، مؤمناً أو ملحداً، متحضراً أم متخلّفاً، ذلك ما تشهد به أحداث التاريخ وشواهد الواقع، كما ينطق به الوحي الإلهي المعصوم، فلا اعتبار لأماني مؤمن بالإسلام أو مؤمن بدين آخر بل هي السنن الجارية على كل أحد :

{ ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً} ( النساء: 123). وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ) :"وأمور النّاس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشارك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام" ( رسالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحقيق صلاح الدين المنجد ، ص 40، نقلاً عن السنن الإلهية للدكتور عبد الكريم زيدان، ص 122-123، 1413هـ- 1993م، ط الأولى، بيروت: مؤسسة الرسالة).

  والأصل أن يدرس المسلم سنن الله في القديم والحديث ليأخذ العبرة منها، بغية تقويم سلوكه :

{ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} ( آل عمران: 137)، حيث إنها ثابتة مستمرة لاتتحول أو تتبدل: { سنّة الله في الذين حلوا من قبل ولن تجد لسّنة الله تحويلاً( الأحزاب: 26)

{ فلن تجد لسنّة الله تبديلاً، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً } ( فاطر: 43)

لكن عملية التغيير هذه ونوعيتها رهن بحراك المجتمع وكسبه السلوكي :

{ ذلك بأن الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم} (الأنفال:53 )

{ وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون{ ( هود: 117)

{ وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} ( الأنعام: 129)

ويؤكّد القرآن الكريم أنّه ما كان لطاغية أو مستبدّ أن يقْدُم على فعله لو لم تكن ثمّة قابلية للاستخفاف لدى الجمهور والرّعاع، ولذلك نجده ينحو باللائمة عليهم لا على الطاغية، ويجعلهم عبرة لكل معتبر، فقال - تعالى- في معرض الحديث عن طغيان فرعون وموقف قومه منه: { فاستخفّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين. فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } ( الزخرف:54-56)، أي أنهم – قبل الطاغية- ملومون مستحقون للعقاب، إذ هم المعنيون بتبديل ذلك الوضع، عن طريق التمرّد والرفض والثورة – إذا اقتضى الأمر- كما فعل سحرة الطاغية السابقين الأحرار، الذين أدركوا ضعف حجّة الطاغية المتكئة على سحرهم، فخرّوا ساجدين لربّ موسى بين يديه، في تعبيرهم عن إيمانهم بحجّته الساطعة، وتهافت سحرهم وأوهامهم، بعد أن تبيّن لهم أنه يستند في دعواه إلى معجزة السماء :{ فالقي السحرة ساجدين . قالوا آمنا بربّ العالمين. ربّ موسى وهارون} (الشعراء:46-48)، وهم الذين كانوا في البدء قد التمسوا من فرعون منحهم المكافأة إذا ما تمكّنوا من إسقاط ما ظنوه (سحراً) لموسى، حين قالوا لفرعون: { أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين}(الشعراء: 41) .

ورغم الطغيان والاستكبار والاتهام بالتآمر والتهديد والوعيد الذي أبداه فرعون إزاء موقف السحرة الجديد، وهو ذاته الأسلوب (الإرهابي) الذي تعلّمه الطغاة على مرّ العصور، ومختلف الأقطار وغدا -من ثمّ- درساً محفوظاً يتواصون به- :

{ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنّه لكبيركم الذي علّمكم السحر، فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم أجمعين} ( الشعراء: 49)، إلا أن ردّهم الثابت الواثق بحجتهم في الإيمان بالله وبرسوله موسى، والكفر بالطاغية فرعون، المستخف بوعيده وطغيانه قد جاء مستخفّاً بوعيده راغباً فيما عند الله – وهو خير وأبقى- : { لاضير إنّا إلى ربنا منقلبون . إنّا نطمع ن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنّا أول المؤمنين } ( الشعراء: 50-51).

الخيرية في التغيير الفعلي لا في الانتماء العنصري:

وإذا كانت المجتمعات الإسلامية -والعربية في مقدّمتها- قد كُلّفت بحمل رسالة الإسلام، ومن ثمّ نالت ذلك الشرف فليس لذاتها، أو لاعتبارات قومية ، أو عرقية، أو عنصرية ما، بل لامتلاكها جملة مؤهلات تجعلها صالحة لذلك الشرف، في مقدّمتها قيامها بالتغيير لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وهو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بمصطلحي ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ومن ثمّ جعل أمّة الإسلام خير الأمم: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} ( آل عمران: 110). 

ويلفت النظر في الآية الكريمة تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، وكان المتوقّع العكس، إذ الإيمان بالله هو رأس الأمر وأساسه( المدخل الكلي)، والعمل الصالح فرع عنه، (المُخْرَج المباشر)، وتلك – والله أعلم- إشارة لمدى الأهمية في التميّز والتفضيل الذي شرف به المسلمون القائمون على مبدأي الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ إن الإيمان (الكلّي) بالله مسألة لانزاع فيها بين كل الأديان والملل ذات البعد السماوي، وذلك من الناحية النظرية – على الأقل- بيد أن التميّز الحق إنما يتحقّق بمدى تجسيد أيّ منها شعيرة التغيير هذه( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ولهذا فإن متابعة الآيات بعد ذلك سيكشف لنا سرّ تميّز أمّة الإسلام على ما سواها من الأمم، وأن ذلك رهن بمدى توافر ذلك الشرط فيها، وهو ما يكشف بالمقابل سرّ تميّز أمم قبلنا بذلك، غير أنّها لم تستمر في مواصلة تحقيق شروط ذلك التميّز فسحب منها؟ أي أنه لاعلاقة لذلك من أي باب باعتبار قومي أو عرقي أو سواها من الاعتبارات الضيّقة المحدودة!

بتعبير آخر: لماذا سحب ذلك التمييّز عن بني إسرائيل –مثلاً- وهم الذين سبق أن سجّل الله بأنّهم(فضلّوا على العالمين):

{ يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (البقرة: 47)، وأكّدها بنص مطابق في الآية (122) من السورة ذاتها، لكنهم ما لبثوا أن وصموا بالذلّة والمسكنة وبآءوا بغضب الله، إذ إن الله –تعالى- بعد أن حكى عنهم جملة من خصائص العناد والغطرسة وصفهم بقوله- سبحانه - { ...وضربت عليهم الذلّة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله} البقرة : 61)، لكن متابعة بقية الآية يجيب على نحو مباشر على سؤال سرّ عدم الاستمرار في ذلك التفضيل، وسحبه منهم لأمة أخرى أكثر تأهيلاً. تتابع الآية السابقة فتفسّر ذلك الوصف السلبي جدّاً في حق اليهود :{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} (البقرة: 60)، لتأتي الآية التالية مباشرة موضحة أن من تأهل للإيمان الكلّي بالله واليوم الآخر، وسلك مسلك الصالحين من عباد الله- وفي مقدّمة ذلك مسلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فإنه مكرّم لايحرم الأجر، وسواء أكان صاحب ديني سماوي: مسلماً- يهودياً – نصرانيا) أم حتى على شبهة أصل دين سماوي كالصابئة – مثلا-:

{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر  فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} ( البقرة: 62). والإشارة إلى أن من أهم عدم توافر شروط ذلك التكريم والتميّز في حق اليهود الذين وصفوا بصفات الذمّ المشار إليها-وفي مقدّمتها طردهم من دائرة رحمة الله - هو عدم قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنتاج تلقائي لكفر ذلك الفريق منهم بالله أولاً؛ ورد صراحة على ألسنة بعض الأنبياء والمرسلين في قوله- تعالى- كما في موضع آخر من سورة المائدة:{ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون. ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيّ وما أنزل إليه ما تخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون} ( المائدة:   78-81). ولابد من التنويه هنا إلى حرص القرآن الكريم على عدم التعميم ولذلك وصف هذا الفريق بأنه كافر غير مؤمن، بخلاف وصفه لبعضهم بالإيمان كما في مواضع أخرى ستأتي الإشارة توّاً إلى واحدة منها، ولذلك تراخى هذا الفريق في مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك أن اليهود ليسوا جميعاً على ذلك المسلك، وإن كان سمة كثير منهم ( ترى كثيرا منهم) ( ولكنّ كثيراً منهم)، وتلك آية الموضوعية في أجلى صورها . وهو مايتأكّد أكثر في آية الخيرية للأمّة المحمّدية المشار إليها آنفاً، إذ إن الله – تعالى- بعد أن ذكر خيرية الأمة المحمدية وشروط ذلك عاد بالتذكير إلى أن الخير كان في أهل الكتاب لو أنهم حافظوا على مكانتهم، من حيث الإيمان والعمل الصالح - وفي مقدّمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-، غير أنّه- في الوقت ذاته- لم يغمط فريقاً منهم حقّهم، ومن ذلك قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد أن أكّد وصف بعضهم بمثل تلك الصفات السلبية السابقة:

{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.لن يضرّوكم إلا أذى، وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار، ثمّ لاينصرون،. ضربت عليهم الذلّة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من النّاس، وبآءوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ليسوا سواء من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، والله عليم بالمتقين) ( آل عمران: 110-115).

وحاصل القول: إن تفضيل أمة الإسلام بالخيرية منوط بقيامها بتحقيق مبدأي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوصف ذلك سر الخيرية، وأنّه متى لم تقم بذلك فإن الخيرية ترفع عنها. وتأكيداً على هذا المعنى فقد روى قتادة بن دعامة السدوسي أن عمر بن الخطّاب رأى -في حجّة حجّها- من النّاس دعة( أي ضعف همّة واسترخاء) فقرأ هذه الآية { كنتم خير أمّة أحرجت للنّاس}، ثمّ قال :" من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤدّ شرط الله فيها" (رواه ابن جرير، وانظر: ابن كثير: تفسير ابن كثير، جـ 1، ص 397،1401هـ-1981م، د.ط، بيروت: دار الفكر). وقد عقّب ابن كثير على ذلك بالقول:" ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمّهم الله، بقوله- تعالى- { كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه} ( المصدر السابق، الجزء والصفحة نفساهما).

وقال الشوكاني ( ت: 1250هـ) في تفسيره للآية:" وقوله:{ تأمرون بالمعروف} إلخ كلام مستأنف يتضمّن بيان كونهم خير أمّة مع ما يشتمل عليه من أنّهم خير أمّة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد : "إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية" "( فتح القدير، جـ1، ص 371،1403هـ-1983م، د.ط، بيروت: دار الفكر).

وقال سيّد قطب ( في سياق تفسيره للآية (47) من تفسير سورة البقرة) في شأن تفضيل بني إسرائيل:" وتفضيل بني إسرائيل موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، فأمّا بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا أنبياءهم، وجحدوا نعمة الله عليهم، وتخلّوا عن التزاماتهم وعهدهم ، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلّة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد، وحقّ عليهم الوعيد.

وتذكيرهم بفضلهم على العالمين هو تذكير لهم بما كان لهم من فضل الله وعهده؛ وإطماع لهم لينتهزوا الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية، فيعودوا إلى موكب الإيمان، وإلى عهد الله، شكراًُ على تفضيله لآبائهم، ورغبة في العودة إلى مقام التكريم الذي يناله المؤمنون" ( في ظلال القرآن، جـ 1 ص 70،1410هـ- 1990م، الطبعة الشرعية السادسة عشرة، القاهرة وبيروت: دار الشروق).

– أستاذ أصول التربية وفلسفتها- كلية التربية – جامعة صنعاء

addaghashi@yemen.net.ye