ليتني عامل نظافة!
بقلم/ محمد العبسي
نشر منذ: 11 سنة و 8 أشهر و 13 يوماً
الجمعة 13 يوليو-تموز 2012 08:00 م

تكاد تغرق صنعاء في أكوام القمامة. أنا سعيد. هذه أول مرة في تاريخ اليمني تكون مكنسة عامل النظافة أقوى من بندق شيخ قبيلة. أنا سعيد. لا تستجيب الحكومة اليمنية، ولا مجتمعنا المحافظ، لمطالب الأقليات والفئات المسحوقة بينما تخضع بيسرٍ ومذلة لأولئك القادرين على الأذية: كقطع طريق عام، أو خطف سواح أجانب، أو ضرب خطوط الكهرباء أو أنابيب النفط. وفور نزول درجات الوظيفية لعمال النظافة في الخدمة المدنية ستكون هذه أول مرة تستجيب الدولة لإضراب سلمي ناعم. إنها لحظة تحول عظيم. الآن فحسب، وليس يوم انضمام علي محسن، بوسعنا القول أن هناك ثورة شعبية في اليمن.

لست متفائلاً بحدوث تغير سياسي واقتصادي للأفضل خلال سنتين، لكن الآن أنا واثق أن تغييراً جوهرياً حدث في شخصية اليمني ونفسيته: إنه الاحتجاج. هذه أول مرة في تاريخ اليمني يحتج عمال النظافة -وأكثرهم من فئة المهمشين السود الذين يدعون "أخدام"-في وجه الدولة والمجتمع. والاحتجاج حل. كل الأحداث العظيمة وليدة احتجاج صغير! 1000 سنة وهم مضطهدون ومعزولون!! 1000 سنة ولم تسر في الشوارع قط جنازة واحدة أو دفن واحد منهم بكرامة وعزة في المقابر العامة (هؤلاء والأقليات كالإسماعيلين واليهود هم من ينبغي أن نعتذر منهم جميعاً شماليون وجنوبيون، ودولة وشعباً). على ما قامت الثورة إذن! على عفاش! قامت الثورة ضد هذه التسميات النذلة التي تنتقص من مهنة! في محاولة غبية لإيهامنا أن من حكموا اليمن 33 عاماً ليسوا آل الأحمر بل آل عفاش! قامت الثورة على مخلفات الإمامة وإقطاعيات المشايخ والذهنية القبلية والعشائرية. قامت الثورة ضد أولئك الذين هتفت منصة ساحة التغيير: حياااا بهم حياااابهم. وأعتذر كوني وقعت هنا في خطأ لغوي: فقمامة الشوارع هذه هي الثورة الحقيقية ووحدها تلك المنصة قمامة ثورتنا.

40 عاماً فقط بين رفض أول امرأة أمريكية سوداء النهوض من مقعد الباص لسيدة بيضاء وبين جلوس الرئيس باراك أوباما على كرسي البيت الأبيض. بينما مضى على دخول بلال بن رباح الإسلام أكثر من 1400عاماً ولما تنل فئة المهمشين السود المواطنة الكاملة حتى 2012م. الزمن يمر ببطء في العالم الإسلامي. ويدعون الله ويتضرعون إليه في صلواتهم بزوال أمريكا! مستحيل. الله عدل. فأدعوه حتى يجف لعابكم فإذا كان المتكلم مجنوناً فإن المستمع، سبحانه وتعالى، عاقل رحمان رحيم.

أحب سماع القصة من صديقي محمود ياسين. إنه ينقلها، برهافة وإحساس عالين، كما لو كان جالساً في المقعد المجاور لمقعد السيدة العظيمة. كان التمييز في أمريكا، كما وأوروبا، قبل عقود شيئاً اعتيادياً على الحافلة في الشارع والمدرسة لدرجة الفصل بين كنائس البيض وللسود وهذا أحد أسباب انتشار الإسلام بين السود في أمريكا. يرفع محمود ظهره عن المسند ويدخل في انفعالة عاطفية مؤثرة. ثم يقول: "توقعوا أن تنهض من مقعدها فقالت بتحدٍ لن أغادر مقعدي". ثم يقطع صوته لثوانٍ ويكمل عبارة المرأة "لقد سئمت كل هذا". أحياناً حين يصمت محمود ياسين ويشرد ذهنه فأسمع في صمته هذا الاحتجاج الأزلي وأرغب أن أصرخ في وجه كل من سرقوا أحلامنا: "لقد سئمت كل هذا". عظمة أمريكا أنها تتيح للسأم الفرصة وتغذي روح الاحتجاج. عظمة أمريكا أن هذه المرأة وتسعة طلاب رفضوا مغادرة مدرسة عنصرية في 1972 حضروا جميعاً حفل تنصيب الرئيس أوباما. جلسوا عن يمينه وشماله. إن حلماً راود مارثن لوثر كينج قد صار حقيقة. انتظرت بفارغ الصبر اللحظة التي أرى محمد المساح على منصة ساحة التغيير فظهر عسكر زعيل فبدأت بالتشخير!

أعرف مسبقاً ما الذي سيقال عن إضراب عمال النظافة. سيقول دهاة أحزاب المشترك بحس المؤامرة: هؤلاء مدفوعون من الرئيس المخلوع لإفشال الحكومة. سيقول دهاة حزب المؤتمر بانتهازية الأبله: القمامة في كل مكان هذا ما جنيناه من الثورة وحكومتها. وسمعت أناساً ممن يعرّفهم مجتمع صنعاء بـ"عيال ناس" يقولون: "هؤلاء أخدام ما لهم إلا الصميل". أما أنا فأنصحكم أن تقولوا مثل محمود وتلك المرأة: "لقد سئمت كل هذا". على عمال النظافة ألا يتراجعوا سنتمتراً واحداً عن مطالبهم. القمامة ليست في الشوارع بل في النفوس. هذا أعظم إضراب في تاريخ اليمن. إنه الإضراب الوحيد الذي ليس عليه الوقوف أمام بوابة رئيس الحكومة من أجل إيصال صوته ومظلمته. الإضراب الوحيد الذي لا يحتاج تغطية الصحف والقنوات ولا يتوجب عليه إصدار بيان لإعلام الناس بقضيته. ستعلم البلدة كلها بشأن الإضراب في أقل من 24 ساعة. إنه ينتشر في كل مكان. حتى حميد الأحمر بسطوته ووسائل إعلامه لا يستطيع إيصال صوته مثلكم. لديكم سلاح عليكم إحسان استخدامه وألا تفرطوا به أو ترخصوا قيمته.

ثم ما هي الثورة؟ إنها تحول جذري. إعادة اعتبار للمستضعف التاريخي. تغيير قواعد المجتمع وتفكيك المنظومة السابقة. إنها أن يُجبر أبى سفيان على الانتظار طويلاً أمام باب عمر بن الخطاب، حتى يؤذن له، فيما بلال العبد الحبشي لا ينتظر إذناً ولا يسد باب بوجهه. انظروا حولكم هل تحققت في اليمن ثورة؟ كان لدينا قبل نظام عائلي وإقطاعيات مالية وقبلية وعسكرية والنافذون قبل الثورة هم النافذون بعدها مع بعض التبادل في المواقع!

لم تقم ثورة في اليمن إذا لم تقتلع الثقافة العرقية التي ترفع من شأن ثلاثة (السيد، القاضي، الشيخ) وتحطِّ من ثلاثة (الجزار، الحلاق، المزمر) ناعتاً إياهم بـ"المزَاينَةْ"! منذ مئات السنين والجزار لا يتزوج إلا بجزارة، الحلاق يتزوج من منقشة، والمزمر قشامة.. هذه جرائم ضد مشاعر الإنسان وكرامته. إذا لم يتزوج ابن القاضي من مزينة كما تخيل بدر الحراسي في عمله السينمائي العظيم (يوم جديد في صنعاء القديمة) فلم تقم ثورة في اليمن ولم يتغير شيء. فقط تبادل الطغاة والنافذون مواقعهم "وعدت إلى جولتي أبيع البطاط" كما يتهكم رسم كاريكاتوري بديع انتشر في الفيسبوك.

أراد أبو سفيان عزل النبي الكريم والمسلمين بصحيفة المقاطعة القُرشية فلا "طعام يباع لهم أو يُهدى، لا نتزوج منهم ولا يتزوجون منا، لا بيع لهم ولا شراء" على هذا تعاقد سادة مكة فطرد المسلمون إلى شِعب أبي طالب! ولأن الضحية قد يصبح جلاداً عند الوصول للسلطة اتبع الأئمة العلويون الذين حكموا اليمن طويلاً نهج أبي سفيان لا النبي فطبقوا شطراً من الوثيقة "لا نتزوج منهم ولا يتزوجون منا" حرفياً على المزاينة والمهمشين. الفرق الباعث على التقيؤ أن مقاطعة أبي سفيان كانت بقانون مكتوب فيما الثانية بالعرف المنطوق. الأولى لأسباب سياسية ودينية والثانية بسبب المهنة ولون البشرة. الأولى دامت سنتين فقط فيما الأخرى تنتظر منذ مئات السنين تدخل الأرضة.. المعجزة!

في روايته "مات الرجل" يصور النيجيري النوبلي وول سونيكا كيف كانت سجون حكومة غوون من البشاعة والتمييز: فالسجناء المنتمون إلى ابيادان أو لاغوس يعيشون حياة مُرفّهة قياساً بأقرانهم المنتمين إلى إقليم الإيبو -الغرب أوسطي. وإن كانوا في نهاية المطاف، جميعاً سجناء. كان السجناء الأيبوويون ينامون عراةً، على الأرض، فيما البطانيات في العنابر المقابلة مرصوصة إلى قُرابة السقف. دعك من السجائر لقد حرموا حتى من المناشف والاستحمام واستنشاق الهواء الطلق المباح لغيرهم عدا في اللحظات الخاطفة لتناوبهم، سجيناً فآخر، على تفريع سطل الخلاء! والحال هذه في اليمن لا داخل السجون بل خارجها: على طول البلاد وعرضها.

Absi456@gmail.com