وثيقة تأريخية تكشف عن تجاهل الرئيس لمأساة الجعاشن منذ عام 78م

السبت 13 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 الساعة 10 مساءً / مأرب برس - الصحوة نت – تحقيق منصور النجار
عدد القراءات 9194
 
 

صباح الاثنين الـ 16 من أكتوبر 1978م تسلم مكتب القادم الجديد للقصر الجمهوري المقدم علي عبد الله صالح تقريراً أعدته لجنة رأسها أحد كبار ضباط الجهاز المركزي للأمن الوطني(المخابرات).

بدأت اللجنة تقريرها برسالة قالت فيها)الأخ رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمن .. المحترم.. تأدية للمهمة المكلفة بها اللجنة منكم في موضوع الشكوى المرفوعة إليكم من بعض مواطني الجعاشن ناحية ذي سفال ، بالشيخ محمد أحمد منصور ، وعليه ترفع اللجنة لسيادتكم ما توصلت إليه من استقصاء دقيق لكل الحقائق ..)

وعرضت اللجنة – في ملف متخم بالأوراق - تقريرها المثير- قراءته اليوم – للإعجاب والدهشة والغضب والأسى في آن واحد .. ثم اختتمت اللجنة تقريرها بعبارة - ضعوا تحتها ألف خط وخط - وإليكم نصها : (نرجو الاهتمام بالتنفيذ وعمل ما يلزم لعدم تكرار مثل ما حدث وما يحدث مستقبلاً، ولتكن الإجراءات عبرة للآخرين ورادعة ... )

الإشراق (تنبش)أرشيف تاريخ مأساة الجعاشن وتنفرد بالتحقيق والنشر- لأول مرة- لتفاصيل هذا التقرير الممهور – منذ أكثر من ثلاثة عقود- بتوقيعات معديه وهم : الرائد حميد الصاحب مندوباً عن قيادة جهاز الأمن الوطني رئيسا للجنة، الرائد عبد القوي الدميني مدير فرع جهاز الأمن الوطني بإب عضواً، الرائد محمد صالح أبو راس مندوباً عن قيادة اللواء عضواً، علي المتوكل مندوباً عن المحافظة عضواً..

بداية المأساة ..القديمة الجديدة

مداهمة مباغتة ينفذها أتباع الشيخ محمد احمد منصور على منزل المواطن (عبده الحاج عماد)في قرية مُعاين الجعاشن،في ظل غياب ربّ المنزل(عبده الحاج عماد)،فقذ اتباع الشيخ المهمة التي سيتضح لاحقاً أي نوع من المهمات كانت،بسهولة ويسر ، وخلفوا ورائهم صراخ الأطفال والنساء وأبواباً و ( شناط) و ( صناديق) مكسرة ، وأخذوا بغيتهم وعادوا بها إلى الشيخ المذكور ،في هذه الأثناء كان فريق آخر من أتباع الشيخ المذكور قد رصدوا تواجد المواطن (عبده الحاج عماد)في مدينة القاعدة، أبلغوا الشيخ بذلك ، وما هي إلا لحظات وإذا بالمواطن المذكور مكبلاً بالقيود في سجن الشيخ ليقوم بنقله إلى سجن الزاجر بمدينة إب بتهمة ما كان يعرف وقتها بـ ( التخريب )وإيواء المخربين .. وبقرينة مجموعة من الأسلحة (بازوكا – ست دانات – لغم )تم نقلها للجهات الأمنية على أساس أن أتباع الشيخ وجدوها في منزل (عبده الحاج عماد) عندما داهموه .

وفي عملية مماثلة وبدعوى إلقاء القبض على المخربين ، قام الشيخ وأتباعه في عملية خاطفة داهموا بها منزل المواطن (محمد عبده سعيد ) بمدينة القاعدة ، وبعد أن فتش أتباع الشيخ أرجاء المنزل لم يجدوا سوى النساء والأطفال ورجل مسن هو والد ( محمد عبده سعيد).. فهل يشفه له سنه عند الشيخ؟ ستقول لكم اللجنة ذلك لاحقاً.!!.

وجد ( عبده الحاج عماد) نفسه في السجن محاطاً بتهمة التخريب وإيواء المخربين هو ما يعني الاشتراك في صناعة أحداث تلك الفترة في منطقة الجعاشن ، وما نتج عنها من تصفيات كغيرها من المناطق التي وقع فيها ضحايا نتيجة صراع تلك المرحلة وما تلاها ، وقد نجح الشيخ المذكور في إقناع بعض المسئولين في الجهات الرسمية بعلاقة المواطن المذكور بالتخريب ، وهو ما كان بالنسبة للأخير ، انتظار تقديمه إلى مقصلة الإعدام نظراً لحجم التهمة وتباعاتها وطبقة ظروف ومرحلة الحرب الباردة التي كانت اليمن جزءاً منها.

اما (محمد عبده سعيد) فقد وجد نفسه مطارداً ومبلغاً عنه من الشيخ المذكور ومن الجهات الرسمية بأنه هارب بجريرة التخريب.ومطلوب القبض عليه في أي مكان وفي أي وقت ..

تمكن (محمد عبده سعيد) وأقارب (عبده الحاج عماد) وبتعاون عدد من الشخصيات التي كانت مطلعة على طبيعة مأساة الجعاشن ، تمكنوا من إيصال شكواهم إلى مكتب رئاسة الجمهورية بشأن ما حدث لهم وحجم الظلم والبطش والمكيدة التي تعرضوا لها من الشيخ المذكور تزامناً مع بواكير ولوج ساكن جديد إلى القصر الجمهوري..

تشكيل لجنة التحقيق

بعد أقل من شهرين على وصوله إلى كرسي الرئاسة أصدر المقدم علي عبد الله صالح في الـ 3 من أكتوبر 1978م، أمراً إلى رئيس الوزراء – وقتها- عبد العزيز عبد الغني، لتشكيل لجنة من قبل وكيل الجهاز المركزي للأمن الوطني ، وقائد لواء إب ، ومندوب عن المحافظة، ومدير فرع الجهاز المركزي للأمن الوطني بإب، للتحقيق في الشكاوى المرفوعة من بعض المواطنين من الجعاشن والقاعدة، بالشيخ محمد أحمد منصور، وبناءاً على ذلك أصدر رئيس الوزراء مذكرة رقم(8026)وتاريخ 4/10/1978م، قضت بتشكيل اللجنة وبسرعة للتحقيق وتقصي كل الحقائق حول موضوع الشكاوى بالشيخ المذكور.

بعد أربعة أيام على تشكيلها التأمت اللجنة وعقدت صباح الاثنين الـ 9 من أكتوبر 1978م، اجتماعاً لها في مدينة إب ، حضره محافظ اللواء وقائد اللواء، واختارت اللجنة الضابط المكلف من جهاز الأمن الوطني بصنعاء الرائد حميد الصاحب، رئيساً لها، ثم أقرت اللجنة في ذات الاجتماع، التحرك فوراً إلى الجعاشن للبدء في عملها وتنفيذ المهمة الموكلة إليها.

اللجنة في الجعاشن .. نعم في الجعاشن!!

لم تذكر اللجنة في تقريرها ما يشير إلى أن عراقيل اعترضت طريقها أو حتى حاولت عرقلة وصولها إلى الجعاشن ، بل يؤكد تقرير اللجنة - بما لا يدع مجالاً للشك- أن المقدم علي عبد الله صالح، حديث السكن بالقصر الجمهوري، قد ورث وضعاً وواقعاً يجعل من السهولة على رجال الدولة الوصول إلى أي مكان في الجمهورية العربية اليمنية،بما فيها منطقة الجعاشن التي يُحظر – اليوم – على اللجان البرلمانية المتعاقبة الوصول إليها أو حتى الاقتراب منها!!.

وصلت اللجنة إلى قريتي معاين وذي الحود بالجعاشن، بعد ظهر الاثنين الـ 9 من أكتوبر 1978م، وشرعت في تنفيذ مهمتها بجدية ومهنية وحيادية تستحق الإعجاب والاحترام.

استدعت اللجنة مجموعة محايدة من أبناء المنطقة ممن ليس لهم علاقة أو انحياز لأي من طرفي الصراع، يقول التقرير (أخذت اللجنة استقصاءها من كل شخص على انفراد بعد أخذ اليمين المغلظة منه، ومنعت حضور أياً من طرفي المشكلة، أثناء أخذ أقوال الشهود المحايدين).وتعلل اللجنة : (ليتسنى للجنة التحري في معرفة الحقيقة بعيداً عن الشبهات وابتعادا من أن تدخل اللجنة في متاهات خارجة عن المهمة التي كُلفت بها ..).

ثم عاينت اللجنة منزل(عبده الحاج عماد) الذي تعرض لمداهمة ونهب الشيخ المذكور وسجلت كل الملاحظات كما وجدتها .. انتهت اللجنة من العمل الميداني في قرية مُعاين و ذي الحود، وعليها الآن الوصول إلى الشيخ المذكور الطرف المشكو به،لكن المذكور غادر الجعاشن إلى مدينة تعز ورفض الحضور- كما تقول اللجنة – زاعماً أن لديه خلافاً مع بعض المسئولين..

حيال ذلك لم تعود اللجنة دون ان تستكمل عملها، أو تلجأ لمدارة المذكور ولم تقرر الاتصال بالقصر أو تنتظر اتصالاً منه يقول لها ماذا تفعل!؟.

بل عقدت اللجنة اجتماعاً لها في الجعاشن وخرج الاجتماع بتكليف رئيسها الرائد حميد الصاحب،وقائد اللواء محمد عبد الخالق بالتحرك إلى مدينة تعز للتنسيق مع قائد اللواء في الأخيرة لإحضار الشيخ المذكور،وبعد البحث والتحري عن المكان الذي يتواجد فيه ، والوصول إليه، أََََََُحضر الشيخ المذكور في ساعة متأخرة من مساء يوم الخميس 12/10/1978م،إلى فرع جهاز الأمن الوطني بتعز، وهناك كان في انتظاره رئيس اللجنة الرائد حميد الصاحب، الذي رفض إجراء التحقيق مع المذكور في تعز، بل ألزمه للحضور إلى إب ،ليتم التحقيق معه أمام أعضاء اللجنة ،وهو ما تم بالفعل حيث أذعن المذكور وحضر إلى مدينة القاعدة صباح السبت 14/10/1978م، وتم التحقيق معه في الشكوى المرفوعة ضده والسماع لما لديه من أدلة وبراهين على مَن أَسّنَد إليهم من المواطنين تهمة التخريب..

روح الثورة

استطاعت اللجنة خلال ستة أيام من 9إلى 14/ أكتوبر1978م، أن تنجز تحقيقاً مستوفي الأركان الأساسية وفي مدة قياسية ،وإليكم تلخيصاً لأهم ما قامت به اللجنة كما أوردته في تقريرها ..

· النزول الميداني إلى قريتي معاين ، وذي الحود بالجعاشن واستقصاء التحقيق من الأعيان والشخصيات المحايدة هناك حول ما حدث، وحول سيرة وسلوك المواطن (عبده الحاج عماد)، وعن الصورة والطريقة التي قام بها الشيخ المذكور وجماعته في مداهمة وتفتيش منزل (الحاج)ونهبه..

· استدعاء المواطن(عبده الحاج) من سجن الزاجر بإب والتحقيق معه في شكواه ضد الشيخ وفي التهم الموجهة له، وكذلك التحقيق مع (محمد عبده سعيد) ومعاينة منزله في مدينة القاعدة، وسماع أقوال الشهود حول مداهمة الشيخ المذكور، وما تعرض له والد(محمد عبده سعيد)من ابتزاز وسوء معاملة ،رغم عمره الذي تجاوز الـ 85 سنة.

· الوصول إلى مدينة تعز، والتنسيق مع قيادة اللواء والأمن الوطني لإحضار الشيخ المذكور إلى مدينة القاعدة، ثم التحقيق معه، حول الشكوى ضده واتهامه لمواطنين بالتخريب وإيواء المخربين ، وجعله يسجل ذلك بيده ويوقع عليها.

في قراءة متأنية ومتابعة دقيقة للتسلسل الزمني لعمل اللجنة ، لم نجد في تقريرها أو محاضر التحقيق ما يشير إلى انقطاع أو عرقلة أو تأجيل عمل اللجنة ، باستثناء عدم تمكنها من الوصول إلى الشيخ المذكور ، مما اضطرها إلى إرسال رئيسها وقائد اللواء إلى تعز، لإحضار المذكور إلى مدينة القاعدة، والتحقيق معه....

لكأن وهج الثورة كان ما يزال متقداً .. أو أن دماء الشهداء ما زالت غضة طرية ، وهتافاتهم ترددها الآفاق ( لا أحد فوق القانون .. لا مهادنة مع الاستبداد)... هكذا يقول لك التقرير ، وأنت تقلب صفحاته .. تحدثك نصوصه عن تلك الروح والمسئولية العالية لرجال الدولة، وهم يقومون بواجبهم للوقوف على حقيقة ما يحدث أياً كان الطرف الذي ستثبت إدانته، ومهما كان موقعه أو مكانته، كل ذلك من أجل بناء دولة العدل والمواطنة المتساوية..

اللجنة تعلن نتائج التحقيق

أكملت اللجنة الجزء الأول من مهمتها، وهو العمل الميداني، لقد عادت إلى مدينة إب، إنه عصر السبت الـ 14 من أكتوبر 1978م، وقد بدأت اللجنة في الجزء التالي من عملها ، وهو مراجعة كل ما جمعت من محاضر تحقيقات ومشاهدات ، وانطباعات أولية ، وإخضاع كل ذلك للمناقشة والدراسة للوصول إلى النتائج ، ثم إصدار رأيها في القضية..

وبالرغم من أن النتائج التي توصلت إليها اللجنة- كما ستقرؤونها- كانت صادمة ومؤلمة، غير أن ما لفت انتباهنا أن المفردات الواردة في صياغة التقرير لم تذكر أو تشير إلى الانطباعات الشخصية والإنسانية لأعضاء اللجنة تجاه ما توصلوا إليه! بل جنبوا مشاعرهم وعواطفهم وعرضوا النتائج كما وجدوها مجردة ، لكنها - بالطبع - جاءت مستفزة لضمير أي إنسان – أي إنسان- مهما تراجعت درجة إنسانيته ..

احبسوا أنفاسكم ، وإليكم النتائج كما قدمتها اللجنة إلى فخامة رئيس الجمهورية :

- شهد المواطنون المحايدون الذين أحضرتهم اللجنة بصلاح وحسن سيرة وسلوك (عبده الحاج عماد) مع كل المواطنين ، وأنه من أعيان القرية ، وليس له أية علاقة بالمخربين ، وأن بينه وبين الشيخ المذكور خلاف قديم على قطعة أرض.

- ثبت للجنة أن الشيخ المذكور محمد احمد منصور- من خلال إفادته-أنه كلف ستة أشخاص من جماعته لتفتيش منزل المواطن( عبده الحاج عماد) دون أن تشاركه الجهات المختصة، وأنه قام باعتقال المواطن المذكور وإرساله إلى سجن الزاجر بإب ، وقد برر الشيخ عمله هذا بأن لديه أوامر من الأخ الرئيس القائد لمطاردة المخربين .. واعترف الشيخ المذكور ببعض المنهوبات (بندقية ، جنبية ، ومسدس) وأنكر الذهب والفلوس والأوراق. لكن الشهود أكدوا أنهم رأوا " خبرة" الشيخ المذكور بعد خروجهم من منزل( الحاج)وهم يحملون شنطة لم يعرفوا ما بداخلها ، وشاهدوا بيد أحدهم حافظة مسودات تخص ممتلكات وأراضي (الحاج وإخوانه)، وأكد الشهود أنهم سمعوا ضجيج وصراخ أسرة الحاج فدخلوا – أي الشهود- بعد مغادرة جماعة الشيخ ، فوجدوا أربع شناط ، واثنين صناديق كُسرت أقفالها، وبعثرت الملابس والأوراق التي كانت فيها في فناء الغرفة. وتؤكد اللجنة أنها زارت المنزل نفسه ، ووجدت الوضع كما شهد به الشهود،وأنها وجدت أيضاً " مغلقة البوابة العمومية " لمنزل المذكور مكسورة، وكذلك باب إحدى الغرف داخل المنزل، وسجلت اللجنة بعد القرائن والأدلة ،وبعد أخذ اليمين من (عبده الحاج عماد) وابنه ( أحمد) لدى( عبده الحاج عماد)أن ما نهبه الشيخ المذكور بالإضافة إلى ما اعترف به مبلغ (69.000 ريال) كانت مودعة كأمانة لديه، ومبلغ( 20.000 ريال) كانت تخص ابنه أحمد،وكذلك (12 حبة جنيهات)و (4 أربع خواتم بالإضافة إلى 5 دُبل ذهب)و( ساعة رولكس وساعة صليب)و(شنطة فيها بصائر ممتلكات خاصة بـ(عبده الحاج عماد)و أخرى فيها بصائر مشتركة بينه وبين إخوانه متعلقة بتركتهم من بعد والدهم).

- وتوصلت اللجنة أن قضية خلاف الشيخ المذكور مع (محمد عبده سعيد)هو قيام الأخير بقبول التوكيلات والترافع لدى المحاكم عن أبناء الجعاشن في أي قضايا، لا سيما وقد منحته وزارة العدل في وقتها بطاقة محاماة. وتوصلت اللجنة أن محمد عبده سعيد لا علاقة له بالتخريب لا من قريب ولا من بعيد ،وأن الشيخ المذكور وأتباعه حضروا إلى جوار منزله بمدينة القاعدة ، وقام أتباع الشيخ المذكور بمداهمة المنزل لاعتقاله وتسليمه إلى السجن، ولأنه كان قد هرب باتجاه صنعاء فقد قام الشيخ المذكور بفرض مبلغ(5.000 ) ريال ، على والده البالغ من العمر – حسب اللجنة – 85 سنة، وكان هذا المبلغ أجرة الطقم وبمقابل أن يخلي الشيخ المذكور سبيل الرجل العجوز،وإلا سيقوم بإيداعه سجن الزاجر إذا لم يدفع ، وقد اضطر الرجل المسن تحت تهديد الشيخ ابتزازاً لدفع المبلغ للشيخ لينفذ بجلده..

  - ثبت للجنة أن الجهات التي تورطت في التعامل مع المعلومات الملفقة باتهام عبده الحاج عماد بالتخريب هي مدير ناحية السفال(أ . ك)و مدير أمن ذي السفال النقيب( م . أ)..تحتفظ الإشراق بعدم ذكر اسميهما.

الأمن الوطني يحل لغز الأسلحة

أوشكت اللجنة أن تستكمل نتائج التحقيقات وإبداء رأيها في القضية برمتها، لكن بقي أمام اللجنة الكشف عن مصدر الأسلحة(البازوكا والست دانات واللغم) والمتهم في حيازتها والتصرف بها( عبده الحاج عماد)كقرينة على علاقته بالتخريب مدعومة بمعلومات تقول بأنه ثم العثور على تلك الأسلحة في منزله وإخراجها ونقلها إلى مدينة القاعدة في نفس يوم حادثة تفتيش ومداهمة منزله من قبل أتباع الشيخ.

وكل الذي كانت اللجنة قد توصلت إليه وسجلته في نتائج تحقيها حول قضية (الأسلحة)هو لم يثبت لدى اللجنة بأن هذه الأسلحة خرجت من منزل (عبده الحاج عماد) أو عثر عليها في منزله،و لم تقف اللجنة عند هذا الحد،وتسجل القضية ضد مجهول بل قررت اللجنة العودة إلى أرشيف جهاز الأمن الوطني ، وأرشيف الاستطلاع والأمن الحربي، وكذلك أرشيف قيادة اللواء، للبحث عن معلومات قد تقود إلى معرفة من أين جاءت تلك الأسلحة؟.

وهناك في أرشيف فرع جهاز الأمن الوطني تناولت اللجنة ملفات ما كان يعرف وقتها بملفات التخريب لتضع اللجنة يدها على وثيقة – وقف أعضاء اللجنة أمام محتواها في حالة من الذهول إنه محضر تحقيق مع صاحب السيارة التي نقلت تلك الأسلحة من الجعاشن ، اقرؤوا حجم المكر والدسيسة، يقول المحضر: " أنه تم القبض على ( ع. م) تحتفظ الصحيفة بعدم ذكر اسمه، صاحب السيارة التي كانت حملت البازوكا والست الدانات واللغم" وأنه بعد إخضاعه للتحقيق ، اعترف بأن البازوكا والدانات واللغم تم نقلها من بيت الشيخ محمد أحمد منصور بالعنسيين إلى فندق (ع. م) تحتفظ الصحيفة بعد ذكر اسمه، وانه تم نقل تلك الأسلحة من بيت الشيخ المذكور بعد ثلاثة أيام على قيام أتباعه بمداهمة وتفتيش منزل (عبده الحاج)... هنا تنفس اعضاء اللجنة الصعداء ، فقد تمكنوا من حل اللغز المعضلة.. ، نقلت اللجنة – حرفيا- نصوص هذا المحضر إلى نتائج تحقيقها وأضافت(وهذا يثبت ما شهد به المواطنون بشأن حسن سيرة وسلوك عبده الحاج عماد وأنهم لم يشاهدوا خروج شيء من تلك الأسلحة من منزله عند التفتيش سوى سلاحه الشخصي)..

اللجنة تسجل رأيها للرئيس .. أم للتاريخ ؟؟

نجحت اللجنة في كشف كل الملابسات وقاد خط سير التحقيق والمنهجية والآلية التي اتبعتها إلى أن أصبحت تقف على حقيقة تفاصيل ما حدث بأشخاصه و دوافعه و أيضاً أسبابه...دخل عمل اللجنة يومه السادس، إنه الأحد الخامس عشر من أكتوبر 1978م، وعلى اللجنة أن تكمل تدوين رأيها في القضية لتقدمها صباح اليوم التالي لمكتب رئيس الجمهورية.وفعلاً استكملت اللجنة تسجيل رأيها في الحادثة والأطراف و قضية الجعاشن بشكل عام وإليكم رأيها كما أوردته في تقريرها المقدم بين يدي الرئيس وفي ذمة التاريخ :

- ترى اللجنة براءة المواطن (عبده الحاج عماد)من تهمة التخريب، وعلى الدولة الإفراج عنه ، ورد اعتباره ، وإعادة ما تم نهبه من منزله ، من قبل الشيخ المذكور وجماعته .. وأن المعلومات التي أدت إلى سجنه واتهامه ليست إلا معلومات صادرة من جهات مغرضة، تحاول إثارة الاستياء من الدولة بين صفوف المواطنين .. وأن الجهات التي وجهت إليه تهمة التخريب قد أصدرت ذلك بدون رؤية ، وقبل أن تستقي المعلومات الصحيحة من مصادرها الموثوقة..

 

- فيما يتعلق بالمواطن( محمد عبده سعيد) فلم تتوصل اللجنة إلى أية أدلة تدينه بأنه مخرّب، بحسب التهمة التي ألصقت به من قبل الشيخ المذكور ، ولهذا رأت اللجنة براءته ..

- ولأن اللجنة أدركت أسباب وعوامل ما يحدث في الجعاشن، فقد سجلت رأيها بنظرة ثاقبة، وللحيلولة دون استمرار وتكرار ما حدث فقالت ( بما أن الدولة قائمة و قوية، وهناك جهات مختصة ومسئولة عن أمن وسلامة المواطنين في حماية حقوقهم وأعراضهم ، فإن اللجنة ترى عدم إسناد أي إجراءات أو مهام إلى جهة غير مسئولة ، حيث توصلت اللجنة إلى أن مثل هذه الأعمال تُستغل وتؤدي إلى متاهات وأمور تشغل الدولة عن مهامها الأساسية).

- اللجنة حرصت أيضاً على حماية الشهود ، وسجلت رأيها بالقول : ( إن المواطنين الذين شهدوا بالحقيقة ، وما أوضحوه للجنة من مآسي و مظالم، يخشون التعرض مستقبلاً للانتقام من قبل الشيخ محمد أحمد منصور، عقب مغادرة اللجنة من المنطقة خصوصاً عندما تعرف أسماءهم ولما فيه الصالح العام،اللجنة ترى الاهتمام والحرص على حمايتهم من أي شيء قد يحدث لهم ... ).

- ولضمان إنهاء مشكلة الجعاشن تسجل اللجنة رأيها مخاطبة الرئيس : (ترجوا اللجنة الاهتمام بالتنفيذ وعمل ما يلزم لعدم تكرار ما حدث ، وما يحدث مستقبلاً،ولتكن الإجراءات عبرة للآخرين ورادعة.. ذلك هو رأي اللجنة لما توصلت إليه من نتائج والرأي الأول والأخير متروك لسيادتكم).

فماذا كان رأي سيادته ؟

في استقصاءنا وتتبع مصير ( عبده الحاج عماد) فقد تأكد لنا أنه لم يتم الإفراج عنه إلا بعد تدخل (م . ع )وهو أحد الشخصيات الاجتماعية في المحافظة نتيجة قيام أولاد وأقارب (عماد) بوصلة ( م . ع) وتفهم القاضي ( ع . ز ) تحتفظ الصحيفة بعدم ذكر اسميهما . كما اتضح لنا أن المواطن المذكور انتقل بعد صراع طويل مع الشيخ المذكور إلى رحمة الله تعالى .. وفي استقصائنا لأرشيف تاريخ مأساة الجعاشن لم نعثر على أي وثيقة تؤكد أن الرئيس تفاعل ونفذ رأي اللجنة في اتخاذ الإجراءات الرادعة والتي تكون – حسب وصف اللجنة – عبرة للآخرين و رادعة لضمان حل مأساة الجعاشن ولعدم تكرار ما حدث في المستقبل.

وكما لم نجد رداً صريحا للرئيس أو لمصدر في مكتب رئاسة الجمهورية، ينفي زعم الشيخ المذكور بأن ما اقترفه من جرائم كانت بأمر من الرئيس القائد ، كما لم نجد ما يدل على أنه تم تقديم الشيخ المذكور للمحاكمة بتهمة اقترافه لجرائم تمثلت في تضليل أجهزة الدولة وتلفيق التهم ضد الأبرياء، وارتكابه لجرائم لا تسقط بالتقادم كتقييد حرية مواطنين في سجونه الخاصة..

وما أثبته استقصائنا هو أن آخر إجراء ضد الشيخ المذكور تم اتخاذه قبل عام وثلاثة أشهر وثمانية أيام من وصول المقدم علي عبد الله صالح إلى كرسي الرئاسة، في توجيه للرئيس الراحل إبراهيم الحمدي – رحمه الله – في الـخامس من إبريل 1977م، وبمذكرة رقم (1563) إلى محافظ إب وقتها المقدم يحيى مصلح مهدي ، قال فيها الرئيس الحمدي : ( الأخ محافظ لواء إب، حياكم الله... بعد التحية .. مرفق لكم تقرير اللجنة المكلفة ببحث تظلمات المواطنين في ناحية ذي السفال بالشيخ محمد احمد منصور، وعليه فليكن منكم العمل بمقتضى ما نص عليه قرار اللجنة ، وطلب الشيخ المذكور وإلزامه بالتعهد بعدم التدخل في شئون المواطنين .. وأفيدوا .. ).

أما ما تلى ذلك وما شهدته مأساة الجعاشن خلال السنوات الماضية ، وما يحدث اليوم فهو التطور الأخطر في فصول القضية، إذ ازدادت الأمور مأساوية إلى درجة وصلت حد توفير الحماية للشيخ المذكور، ومنع اللجان المكلفة من البرلمان لتقصي الحقائق في قضايا مهجري الجعاشن ،منعها من الوصول إلى منطقة الجعاشن أو حتى الاقتراب منها، وتعدى ذلك إلى قمع الفعاليات السلمية لمهجري الجعاشن وتعرضهم مع المتضامنين معهم للاعتقالات والاعتداء المباشر من قبل السلطة.

كل ذلك وما يوفره أرشيف القضية يؤكد على توافر كم – غير مسبوق- من الوقائع والوثائق والأدلة التي أبرزت مأساة الجعاشن – في حالة نادرة – كقضية للرأي العام ، متداولة في اليمن ، عبر فترة زمنية تقدر بالعقود لا بالسنين، وأن هذه المأساة أصبحت – اليوم – قضية تاريخية لصيقة بالشخصيات التي تعاقبت على حكم اليمن، ومؤشراً – معتبراً – على أدائهم ، ومدخلا – مهماً – لإجراء الدراسات التحليلية النفسية وتتبع تطور الفكر الحقوقي والإنساني في العقل اليمني ،وإشكالية بناء الدولة ، والمسئولية التاريخية والجنائية عن الإخفاقات التي حدثت ..

ثم ماذا بعد ؟

أما الجعاشن فَيضع إرشيف مأساتها كل الوثائق والمستمسكات القانونية بين يدي محاكم الداخل والخارج .. وأما ( عبده الحاج عماد) ففي ذمة الله رب العالمين .. وأما كل مستبد ظالم فيتخبطه الشيطان الرجيم .. وغداً يمثل علي عبد الله صالح و محمد أحمد منصور وعبده الحاج عماد وجميع مهجري الجعاشن وكل الخلائق بين يدي محكمة العدل الإلهية .. ينادي – يومها- الحليم الجبار العدل المنتقم :(أنا المَلك .. أين ملوك الأرض؟؟.. تقدم يا عبدي خذ مظلمتك ممن ظلمك).

  
اكثر خبر قراءة أخبار اليمن