قراءة تحليلية في ملامح التحولات الوطنية والديمقراطية المنتظرة في اليمن عقب الانتخابات الرئاسية

الأربعاء 15 فبراير-شباط 2012 الساعة 05 مساءً / مأرب برس/ الدكتور عبد الله أبو الغيث*
عدد القراءات 5096
 
               

بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية الموقع عليها في الرياض بين حزب المؤتمر الشعبي وحلفائه وتكتل اللقاء المشرك وشركائه بتاريخ 23/11/2011م فإن الانتخابات الرئاسية لانتخاب الأخ عبدربه هادي رئيساً توافقياً للجمهورية اليمنية ستتم يوم الثلاثاء 21/2/2012م.

ورغم الصعوبات والعراقيل الكثيرة التي يعمل على افتعالها اللوبي التابع للرئيس المنتهية ولايته علي عبدالله صالح لمنع الشعب اليمني من الوصول إلى هذا اليوم إلا أن الوعي الوطني الذي يبديه اللقاء المشترك وحلفاؤه جعلهم قادرين على كشف حيل ذلك الطرف وألاعيبه الأمر الذي يعمل على انكشافها وفشلها.

ساعده على ذلك الإصرار الذي بات يبديه المجتمع الدولي والإقليمي على تنفيذ بنود تلك المبادرة وآليتها؛ التي يأتي في مقدمتها رحيل الرئيس صالح، لإدراك تلك القوى أن بقاءه في اليمن صار يشكل عبئاً عليها، ويضرها أكثر مما يخدمها كما كان عليه الحال سابقاً؛ بل صار يهدد بقاء الدولة اليمنية ويدفعها نحو الفشل والفوضى.

لذلك أصبح من الواجب على جميع قوى الشعب اليمني تناسي خلافاتها والتكاتف من أجل إيصال وطنهم إلى هذا اليوم الذي سنرى فيه رئيساً جديداً للجمهورية اليمنية – غير علي عبدالله صالح- لأول مرة منذ قيامها، وهو ما سيحتم على أبناء الشعب اليمني الاندفاع نحو مراكز الاقتراع من أجل إعطاء شرعية كاملة للرئيس الجديد، حتى نسحب البساط من تحت أقدام الرئيس السابق وزبانيته الذين ما فتئوا - في السر والعلن- من وصف المبادرة الخليجية بالمؤامرة الانقلابية حتى بعد توقيعهم عليها، ومازالت مخططاتهم مستمرة بغرض إفشالها.

ولا يخفى أن الشعب اليمني صار يعلق أمالاً كبار على هذه الانتخابات لإحداث نقلة تاريخية في حياته نحو الأفضل والأرقى، وهو ما يتوقعه أكثر المحللون، وتتفاءل به النخب اليمنية. بحيث تمثل الانتخابات جسر عبور للتحولات الوطنية والديمقراطية صوب مستقبل زاهر وآمن للمواطن اليمني، على النحو الذي سنتناوله تفصيلاً في الفقرات القادمة..

أولاً: إسقاط هالة الحاكم الفرد

من المؤكد أن لحظة إعلان فوز الأخ عبدربه هادي بمنصب رئيس الجمهورية وتقلده الرسمي لمهام منصبه ستترافق بإنزال صور الرئيس السابق من المؤسسات العامة، وكذلك إنزال ما تبقى منها في الشوارع بعد أن تولى الثوار مهمة نزع معظمها خلال شهور الثورة المنصرمة. وسيندفع الموظفون لتنفيذ تلك المهمة بحماسة من أجل إسقاط هالة القداسة التي حاول نظام صالح المتهاوي إضافتها على تلك الصور؛ وصل إلى درجة إنزال أقسى العقوبات بمن يتجرأ على المساس بها حتى إن تم ذلك في إحدى القرى النائية، في الوقت الذي لا تهتز فيه شعرة الأجهزة الدولة من أجل الدفاع عن مواطن أزهقت روحه أو نهبت أمواله؛ أو مواطنة تم انتهاك عرضها، حتى وإن تم ذلك في قلب العاصمة وعلى بعد بضعة أمتار من مقار تلك الأجهزة.

وبعد أن أسقطت الثورة الشعبية تلك الهالة التي أحيطت بشخصية الحاكم الفرد سيكون علينا أن لا نسمح بتكرارها مرة أخرى مع الحاكم الجديد. لذلك سيكون من الأنسب أن لا تحل صور الرئيس الجديد هادي بدلاً عن صور صالح، ويحبذ بدلاً عن ذلك أن يُملأ فراغ الإطارات التي كانت تحوي تلك الصور بالعلم الوطني أو بخارطة الجمهورية اليمنية، لأنها هي الرمز الأبقى والخالد لليمن، أما الرئيس فهو متغير، وذلك ما يجب أن نجسده ونكرسه في أذهان الناس بمنع تعليق صوره في الشوارع والمؤسسات العامة للدولة.

ويجب أن يرتبط ذلك بالخطة الإعلامية لوسائل الإعلام العامة، بحيث ترتبط المساحة التي تعطيها لأخبار رئيس الدولة وكبار مسئوليها بمدى أهميتها وليس بأهمية المسئولين الذين يحضرونها، بمعنى أنه ليس من الضرورة أن تتم عملية النقل الكامل لأي فعالية يحضرها رئيس الدولة إلا إذا كانت أهميتها كانت ستجعلهم ينقلونها في حال عدم حضوره. وسيمنع ذلك في حال حدوثه الجهات العامة والخاصة من استخدام كبار مسئولي الدولة كواجهات إعلانية يقومون باستضافتها رغبة في الحصول على تغطية مجانية لفعالياتهم من وسائل الإعلام الرسمية. أما نشرات الأخبار فسيكون من السذاجة لو استمرت بعد الانتخابات الرئاسية كما كانت قبلها، حيث أصبح المواطن اليمني يصاب بالقرف وهو يتابع أطول نشرة أخبار في العالم، تخصص معظمها لمتابعة حركات وسكنات (الزعيم الملهم) في حله وترحاله.

ولعله من المناسب أن نختتم هذه الفقرة بالإشارة إلى الضجة المدبّرة والمفتعلة التي أثارها بلاطجة صالح إثر إسقاط هيئة تحرير صحيفة الثورة الرسمية في عدد الأربعاء 1/2/2012م للمربع الذي يحتل أعلى يسار الصفحة الأولى من الصحيفة ويحتوي على صورة صالح و(إضاءات) من خطبه، وفرضهم الحصار المسلح على مقر الصحيفة وعملهم على منع صدور عدد الخميس حتى عاد المربع المذكور إلى موقعه في عدد الجمعة تحت الإكراه المسلح من قبل أولئك البلاطجة، ويكفي ذلك مثالاً على القداسة والهالة التي عملت وسائل الإعلام الرسمية من أجل إضفائها على الحاكم الفرد، خصوصاً عندما نعرف بعدم وجود أي نص قانوني أو أخلاقي يعتمدون عليه في اعتراضاتهم تلك، إلى جانب أن كل تلك الضجة إنما تتم قبل ثلاثة أسابيع فقط من موعد الانتخابات الرئاسية المرتقبة رغم معرفتهم الأكيدة بأن ذلك المربع سيختفي بعد تلك الانتخابات. وأملنا أن لا تحل فيه صورة أخرى وإضاءات جديدة للرئيس القادم سيعتبر التفكير بإزالتها بعد ذلك نوع من الإساءة للرجل.

ثانياً: اجتثاث القيادات الفاسدة من المؤسسات العامة

تمكنت حكومة الوفاق الوطني بالتنسيق مع الرئيس بالإنابة من عزل بعض القيادات الفاسدة من ذوي العيار الثقيل إثر الثورات التي أشعلها الموظفون والأفراد في مؤسساتهم، وذلك بعد الشلل شبه التام الذي أصاب تلك المؤسسات بسبب تلك الثورات، ومع ذلك فقد وقفت تلك الحكومة عاجزة عن الاستجابة لكثير من مطالب الموظفين في كثير من المؤسسات والجهات الحكومية -المدنية منها والعسكرية- وظلت تتفرج بصمت على أعمال البلطجة والاعتداءات التي تمارس في حق المنتسبين إلى تلك المؤسسات من قبل قياداتها، والتي تنفذها عناصر مسلحة تم استجلابها من خارج المؤسسة الرسمية للدولة.

وكان ذلك السكوت مرتبطاً برفض الوزراء المحسوبين على المؤتمر من الانصياع لمطالب تلك الثورات حتى إن أتتهم أوامر من رئيس الحكومة، وتشجيع قيادات الحزب لإعمال البلطجة ضدها، إلى درجة وصلت بها إلى تدبير محاولة اغتيال للأستاذ على العمراني وزير الإعلام في 31/1/2012م لكون وزارته كانت السباقة في تغيير بعض القيادات الفاسدة من مواقعها، وأعادت إليها قياداتها السابقة التي كانت قد استقالت احتجاجاً على عمليات القتل المشينة التي مورست في حق الثوار السلميين، خصوصاً بعد مذبحة جمعة الكرامة في 18/3/2012م.

ولذلك فقد اضطر دولة رئيس الوزراء باسندوة ومعه الوزراء المؤمنون بحركة التغيير نحو الأفضل على إقناع المطالبين بحركة تغيير الفاسدين في تلك المؤسسات بأن يقوموا بتأجيل مطالبهم إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد أن يكون الرئيس هادي قد تسلم زمام منصبه بصفته رئيساً كامل الصلاحيات وليس رئيساً بالإنابة معرضاً للرضوخ للضغوطات التي يمارسها الرئيس السابق واللوبي المحيط به.

وبغض النظر عن الثورات المؤسسية فإن الشعب سينتظر من الرئيس هادي ومعه حكومة الوفاق الوطني بأن يقودوا عمليات تغيير شاملة للقيادات الإدارية التي فاحت رائحة فسادها بغض النظر عن انتماءاتها السياسية والمناطقية والقبلية والأسرية. وأن يترافق ذلك مع عملية التدوير الوظيفي التي أعلن وزير الخدمة المدنية أنها ستبدأ من شهر أبريل في هذا العام، والتي من المتوقع منها أن تنهي عملية التأبيد والتوريث والشخصنة للمواقع الإدارية، وتقوم بتصحيح الاختلالات التي تميزت بها في السابق عملية التعيينات، التي تمت في كثير منها بالمخالفة للدستور والقوانين النافذة، وفقاً لمعايير ضيقة وغير سليمة. ويتوقع أن تسود بدلاً عن ذلك معايير تعتمد الشهادة والنزاهة والخبرة والقدرة في المناصب القيادية للدولة وغيرها من المناصب الوسطية والدنيا. ويفترض أن يترافق ذلك مع إلغاء كامل لجميع المناصب التي لا وجود لها في الهيكل الإداري للدولة، مثل مناصب الوكلاء المتعددون للمحافظات وغيرها.

ثالثاً: إعادة هيكلة وانتشار قوات الجيش والأمن

ركز الرئيس على عبدالله صالح كل جهوده للقضاء على بوادر التكوين الوطني للجيش اليمني التي بدأت في التكون في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، واستطاع بعد ثلث قرن من السنين العجاف – هي مدة حكمه لليمن- تحويل الجيش والأمن اليمني إلى مؤسسة عائلية صرفة، خصوصاً بعد حرب صيف 94م التي حول على إثرها معظم قادة وضباط وأفراد الجيش والأمن الجنوبي إلى عضوية ما بات يعرف بتسمية (حزب خليك في البيت). حيث أصبح معظم قادة الأجهزة العسكرية والأمنية من أبناء أسرة الرئيس صالح أو قبيلته، وإن تعدتهم إلى بعض القبائل والمناطق تتم العملية وفقاً لمفهوم طائفي مقيت.

وقد نصت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية على إعادة هيكلة قوات الجيش والأمن، رغم تأجيلها لعملية الهيكلة إلى الفترة الانتقالية الثانية اللاحقة للانتخابات الرئاسية ورحيل الرئيس صالح عن كرسي الرئاسة. تجدر الإشارة أن اللجنة العسكرية - المشكلة بموجب المبادرة وآليتها- ورئيسها هادي قد وقفت عاجزة أمام الاحتجاجات التي شهدتها بعض الأجهزة العسكرية والأمنية المطالبة برحيل قياداتها الفاسدة، بل واكتفت في أحيان كثيرة بدور المتفرج على الاعتداءات التي تمارسها عناصر مسلحة تتبع بعض تلك القيادات ضد الأفراد المحتجين؛ كما حدث في القوات الجوية وشرطة النجدة وإدارة أمن صنعاء على سبيل المثال، ولا تزال هذه اللجنة غير قادرة على إيقاف العبث والتأمر المفضوح ضد الوطن وأمنه واستقراره الذي تمارسه بعض الجهات الأمنية والعسكرية- على خلاف مهمتها المفترضة في حفظ السكينة والاستقرار- كما حدث ويحدث في رداع وتعز وعدن وغيرها من مناطق اليمن المختلفة.

وفي كل الأحوال فإن المواطنين ومعهم أفراد القوات المسلحة والأمن سينتظرون فور إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية أن يبدأ الرئيس الجديد بالتنسيق مع حكومة الإنقاذ الوطني الشروع في عملية الهيكلة المنصوص عليها في آلية المبادرة، بحيث تتوزع المناصب القيادية في مختلف الأجهزة العسكرية والأمنية على أساس وطني، وفقاً لمعايير الأقدمية والكفاءة والخبرة والقدرة والنزاهة. وارتباط قيادات هذه الأجهزة بالولاء للوطن قبل أي شيء آخر، مع الانضباط الكامل والالتزام بقرارات الجهات المختصة من غير تجاوز أو تهاون، ذلك أن القادة المقربون من صالح لم يكونوا يستمدون نفوذهم من مناصبهم والقوانين واللوائح المنظمة لها فقط ولكن من قربهم من رئيس الدولة، ما جعلهم يعدون أنفسهم فوق المساءلة، ويتصرفون كملاك مخلدين في مناصبهم.

لذلك سيتحتم على الرئيس الجديد القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي سيرأس اللجنة العسكرية المسئولة عن إتمام الهيكلة فرض الضوابط الصارمة لعمل الوحدات العسكرية وقادتها، بحيث تصبح كل قراراتهم وتحركاتهم مرتبطة بأوامر القادة الأعلى منهم، مع منع القيادات العليا من إصدار أوامرها للقيادات الدنيا في الأجهزة التي تقودها بالتجاوز لقياداتها الوسطية المباشرة؛ والعكس صحيح. مع المنع الكامل للأوامر الشفوية والتلفونية، ومحاسبة كل من تصدر عنهم أو من ينفذونها، مع توفير الحماية الكاملة للقيادات التي ترفض تنفيذ مثل تلك الأوامر.

ومن الضروري أن تترافق الهيكلة مع إعادة انتشارٍ للقوات العسكرية وشبه العسكرية، بحيث تنقل معسكراتها من المدن إلى خارجها. إلى جانب منع كبار قادة الجيش والأمن من التدخل في قضايا لا تخصهم خصوصاً في الشؤون السياسية، مع رفع يد أجهزة الأمن السرية من التدخل في شؤون عمل مؤسسات الدولة وتعيين قياداتها الإدارية، وكذلك منع قادة الأجهزة العسكرية والأمنية من الجمع بين مناصبهم وممارسة الاستثمار، والضرب بيد من حديد لمنع عمليات الفساد المرتبطة بالتجنيد الوهمي والسطو على مستحقات أفرادهم، وإيقاف التعديات التي يمارسها الكثير من القادة على حقوق الناس وأراضيهم، على أن يترافق ذلك بعودة المظالم السابقة إلى أصحابها، وكذلك إنصاف أفراد القوات المسلحة والأمن الذين لحق بهم الضيم خلال المراحل الماضية، مع وضع أسس وطنية سليمة للتجنيد الجديد.

رابعاً: الحوار من أجل المصالحة الوطنية الشاملة

أكدت الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية على ضرورة التحضير لمؤتمر حوار وطني شامل، وذلك من أجل تحقيق مصالحة تاريخية بين الأطراف اليمنية المختلفة، وهو ما تم التأكيد عليه في قانون الحصانة الذي تم إقراره في مجلس النوب 21/1/12م، وبدأت وزارة الشؤون القانونية بإعداده وطرحه للنقاش تمهيداً لعرضه على البرلمان وإصداره. وهذه خطوة مهمة يجب أن تسبق أي صياغة جديدة للدستور اليمني، بحيث ينبني ذلك الدستور على النتائج التي ستسفر عنها عملية الحوار الوطني والمصالحة الشاملة.

ونظراً لأهمية القضية الجنوبية التي صارت بامتياز قضية سياسية إلى جانب كونها قضية حقوقية فسيكون من المناسب أن يتم مناقشتها في إطار لجنة خاصة بها بعيداً عن قضايا الحوار الأخرى. ويفضل أن يتركز الحوار على البعد السياسي للقضية، أما القضايا المطلبية العادلة الناتجة عن مظالم تعرض إليها أبناء الجنوب مثل عمليات النهب المنظم للأراضي والتسريح الإجباري من الوظائف المدنية والعسكرية فالمفترض أن تتم عملية إزالتها بقرارات سياسية سريعة وجريئة بغرض التنفيس عن الشحناء التي صارت تملأ النفوس، وحتى لا تشكل عوامل معرقلة لعملية الحوار السياسي وتلقي بظلالها على النتائج التي ستصدر عنه. بحيث يشعر أبناء الجنوب قبل جلوسهم على مائدة الحوار بأن أي وحدة قادمة لا يمكن أن تتم إلا في إطار من المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، وفقاً لدولة مؤسسية يحكمها القانون، وهو ما كانوا يحضون به في دولتهم الشطرية قبل ذوبانها في دولة الوحدة التي أفقدتهم تلك الحقوق، بسبب السلوكيات الرعناء وتعميم سياسة الهمجية والفيد التي كرسها نظام الرئيس صالح المتهاوي.

وحديثنا عن التركيز أولاً على إنها المظالم الخاصة بأبناء الجنوب لا يعني بأي حال من الأحوال إغفال المظالم التي تعرض لها أبناء الشمال، فالعملية الممنهجة والمنظمة لنهب الأراضي في بلاد تهامة مثلاً لا تقل بشاعة عن النهب الذي تعرضت له بعض أراضي الجنوب. وهناك مظالم تعرض لها أبناء المحافظات الوسطى تمتد لمئات السنين، كرست ضدهم النظرة الدونية، وجعلت سلطات بلدهم تنظر إليهم على أنهم مواطنين من درجات ثانية وثالثة.

أما القضية الحوثية فحلها مرتبط بتكريس ثقافة التعايش واحترام الآخر وعدم إقصائه، والسماح للجميع بحرية المعتقدات وممارسة الطقوس المرتبطة بها التي لا تسيء للآخر ولا تحقر معتقداته. بحيث يتاح للحوثيين فرصة الاندماج في المجتمع ولعب دور سياسي في إطار التعددية السياسية والمذهبية والاجتماعية التي يجب على الجميع الاعتراف بها ورعايتها. ومن البديهي أن يرتبط كل ذلك بحل المشاكل التي أنتجت حروب صعده الستة (2004-2010م) أو التي نتجت عن تلك الحروب التي شهدتها محافظة صعدة وبعض المديريات المجاورة لها من المحافظات الأخرى، على أساس عادل يقوم على مبدأ تعويض الناس وإعادة الحقوق إلى أصحابها من أي طرف كانوا.

أما الثارات والصراعات القبلية فرحيل نظام صالح سيلغي كثير منها لأن سياسته - التي كانت غاياتها التأبيد والتوريث- قد اعتمدت على تشجيع تلك الصراعات وتأجيجها لشغل الناس عن قضايا وطنهم، وذلك سيسهل على الرئيس القادم مع حكومة الوفاق الوطني عملية رعاية وإتمام صلح اجتماعي شامل بين مختلف القبائل والعشائر والمكونات الاجتماعية اليمنية، يهدف إلى تكريس السلم الاجتماعي، ليتفرغ شباب المجتمع اليمني لتنمية وبناء وطنهم وصولاً إلى تحقيق دولتهم المدنية المزدهرة والمتطورة، التي باتت حلم يراود أذهان الجميع غرسته في قلوبهم ثورة اليمن الشعبية الغراء.

ومن بداهة القول إن الحلول الناجعة التي ستقدم لهذه القضايا وغيرها من المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا اليمني لن تترسخ وتكتسب الديمومة إلا بتأسيس نظام قضائي عادل يكون مرجعية لجميع أبناء الشعب يحتكمون إليها لحل أي قضايا أو مشاكل مستجدة تطرأ على مسار حياتهم، وذلك لن يتم إلا إذا تمكنا من غرس مصداقية القضاء في نفوس الناس، وهو أمر مرتبط بنزاهة أحكامه وسرعة إصدارها وصرامة تنفيذها. ووجود قضاء بهذه الكيفية سيحل لنا كثير من مشاكل حياتنا في مختلف مناحيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإدارية لكونها عبارة عن مظاهر ترتبت على مشاكل عجز القضاء اليمني بصورته الحالية عن إنهائها والبت فيها بصورة عادلة وسريعة بعد أن وصلت ثقة الناس به إلى درجة قريبة من الصفر.

خامساً: النهوض بالشباب والتعليم وتنمية الإنسان

الثورة الشعبية في المقام الأول هي ثورة شباب؛ هو من أشعلها وقدم التضحيات من أجلها وقادها صوب النصر العظيم. وذلك يحتم على الرئيس الجديد وحكومة الوفاق الوطني وضع طموحات الشباب في توفير مستقبل آمن أمام عيونهم. وذلك لن يتحقق ما لم يطلقون لحرية الشباب العنان، حرية هادفة ترفض الجمود المنغلق والانفتاح المنفلت، وتمكنهم من تفجير طاقاتهم الإبداعية من أجل بناء مستقبل زاهر وآمن لهم ولوطنهم ولأمتهم وللإنسانية الخيّرة جمعاء.

والمستقبل الآمن الذي يصبوا إليه الشباب لن يصلوا إليه إلا عبر فتح بوابة المعايير الوطنية السليمة للتنافس فيما بينهم، بحيث تصبح تلك المعايير مرتبطة بمؤهلاتهم العلمية وخبراتهم وقدراتهم وكفاءاتهم ونزاهتهم، وليس كما هو حادث اليوم بحيث حصرت المعايير في ألقاب أسرهم وانتماءاتهم القبلية والمناطقية والطائفية والأمنية والحزبية.

ويفترض أن تكون من أولى أولويات السلطات اليمنية بعد الانتخابات الرئاسية تصحيح مسار التعليم بفروعه الثلاثة العام والتقني والعالي. ويجب أن تتمثل الخطوة الأولى بتجريم الغش في الامتحانات واتخاذ إجراءات صارمة من أجل القضاء عليه، لكونه قد تفشى إلى درجة تجعل منه ظاهرة؛ خصوصاً في مراحل التعليم الأساسي. ومع الأسف الشديد أن عملية الغش تلك صارت تسير وفق برنامج ممنهج هدف إلى مسخ شخصية المواطن اليمني وتحقير كفاءاته حتى يقدم أبناء النخبة المتنفذة – الذين يؤهلون تأهيلاً جيداً- بصفتهم الأكفأ لإدارة مقاليد الأمور في البلد. ولذلك صار الغش في امتحانات الثانوية العامة مثلاً خدمة يتنافس على توفيرها كبار مسئولي الدولة وممثلي الشعب في المجالس البرلمانية والمحلية كل في منطقته.

وزاد الطين بلة عندما هيمنت أجهزة الأمن السرية (القومي والسياسي) على إدارة المؤسسات التعليمة في المدارس والمعاهد والجامعات، وقدمت عناصرها – غير المؤهلة في أغلب الأحيان- لإدارة هذه المؤسسات، بحيث صار الواحد منهم غير قادر على التفريق بين إدارة مؤسسة تربوية وإدارة سجن للمجرمين.

وترافق ذلك مع مناهج سطحية تلقينية تفتقد في معظمها للتأهيل المهاري، وتفرد بتأليفها في معظم الأحيان أصحاب التخصصات التربوية من غير إشراك للمتخصصين الأكاديميين في العلوم المختلفة، الأمر الذي جعلها تفتقر إلى المعلومة الأكاديمية المتخصصة التي لا يمتلكها إلى أستاذ متخصص في مجاله العلمي، لذلك صارت مناهجنا عرجاء تسير برجل واحدة. وكان ذلك يتم في معظم الأحيان بغرض السيطرة على المستحقات المالية التي يتم صرفها لمن يقومون بتأليف تلك المناهج، التي عادة ما يتم سلقها في وقت قصير لأسباب تعود إلى الارتجالية المعتمدة في العمل، وحشر القائمين على التأليف في مدة زمنية محدودة غير كافية لإعداد مناهج علمية سليمة.

ومع الأسف الشديد فقد رافق ذلك عمل حثيث من أجل مسخ شخصية الإنسان اليمني المتحضرة، بحيث انعكست موازين التقييم، وصارت العنجهية والوصولوية والابتذال والتسلق ومخالفة القوانين هي معايير النجاح، بينما صارت شخصية المواطن السوي مثار تندر ومضرباً للأمثال في العجز والفشل. ولذلك فبرامج بناء الإنسان اليمني يجب أن تتصدر مهام الحكومة اليمنية بعد الانتخابات الرئاسية، حتى نعيد لشخصية الإنسان اليمني اعتبارها الحضاري في الداخل والخارج، خصوصاً بعد أن بذل النظام السابق قصارى جهوده لتصوير أبناء الشعب اليمني أمام الخارج بأنهم مجرد مجموعة من الإرهابيين والمتسولين ليتسنى له الخلود على كرسي السلطة في اليمن وتوريثه من بعده لأفراد أسرته.

سادساً: إيقاف الفساد وتصحيح مسار النشاط الاقتصادي

لم يكتفِ لوبي الفساد الحاكم في اليمن بالاستحواذ على مفاصل الحياة السياسية والعسكرية حيث امتد نهمه للسيطرة على الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية في البلد، الأمر الذي جعل النافذون السياسيون والعسكريون يسيطرون على سبعين في المائة من النشاط الاستثماري في اليمن حسب تقرير نشرته مؤخراً وزارة الصناعة والتجارة.

تجدر الإشارة أن النشاط الاقتصادي الذي يمارسه هؤلاء النافذون هو في معظمه نشاط طفيلي يحصل على معظم خدماته بدون مقابل مثل الأراضي وخدمات الماء والكهرباء والمواصلات، ويتهرب من دفع الضرائب والجمارك إن لم يتم إعفاؤه منها. الأمر الذي ساعد في القضاء على مؤسسات الاستثمار الفعلي التي عجزت عن المنافسة لكونها ملزمة بدفع كل ما يتهرب عن دفعه أولئك الطفيليون، إلى جانب الحصص التي يلزمون بدفعها لشركاء الحماية الذين يستخدمون القوة والبلطجة لفرض شراكتهم على تلك المؤسسات مقابل ما يسمونه توفير الحماية لها. وفوق ذلك تجبر مؤسسات الاستثمار الحقيقي على دفع الإتاوات والهبات لكبار النافذين حتى تستطيع تسيير أعمالها وتضمن عدم عرقلتهم لها.

وقد أدى كل ذلك إلى تنفير المستثمرين الوطنيين والأجانب، وحرم البلد من استثمارات كبيرة كانت مهيأة لها بحكم موقعها الجغرافي وتعددها المناخي ورخص أياديها العاملة مقارنة بدول الجوار الثرية في منطقة الخليج. وزاد الطين بلة عندما عمدت سلطات الفساد على بيع ثروات البلاد بأسعار تقل كثيراً عن مثيلاتها في الدول الأخرى، وذلك مقابل رشاوى كبيرة دخلت إلى حساباتهم الخاصة.. وما صفقة بيع الغاز وكذلك صفقة منطقة عدن الحرة عنا ببعيد.

كل ذلك يجعل من المهام العاجلة التي سيتحتم على حكومة الوفاق الوطني بعد الانتخابات الرئاسية تنفيذها تتمثل بغربلة مختلف مؤسسات القطاع العام والمختلط من القيادات الإدارية الفاسدة، إلى جانب وضع أسس سليمة تنظم شؤون الاستثمار في البلد وتعيد الحقوق المنهوبة إلى أصحابها. وكذلك إعادة النظر في الاتفاقيات المجحفة التي عقدها أقطاب النظام السابق مع شركات عالمية لنهب ثروات البلد وعائداته الاقتصادية والمعدنية، خصوصاً في مجال الثروة البترولية التي ظلت لغز غامض لا يعرفه إلا الله والراسخون في علم الفساد، الذي أكل الأخضر واليابس في هذا البلد التي صارت بفضل ذلك تعيسة بعد أن كانت في الماضي تسمى بالسعيدة.

سابعاً: ترشيد عمل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني

تعد الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني أداة الدولة المدنية الديمقراطية في الحكم وتداوله السلمي، وذلك يجعلنا نعتبرها مؤسسات عامة وليس خاصة كما يقول البعض بذلك، فالمؤسسة الخاصة هي تلك التي يقيمها الشخص من ماله الخاص وليس من اشتراكات الأعضاء.

لذلك من الضروري أن يتم بعد الانتخابات تحويل الأحزاب إلى مؤسسات ديمقراطية، تمارس نشاطها السياسي بصورة علنية وبشفافية مطلقة، وتحقق التداول السلمي للسلطة بين صفوفها، لكونها تقدم نفسها لحكم الشعب والوطن، وبالتالي فهي لن تكون قادرة على تحقيق تلك المفاهيم على المستوى العام مادامت عاجزة عن تحقيقها على المستوى التنظيمي.

وكما قال الشعب ومعه قياداته الحزبية لرموز النظام السابق: لا للتأبيد ولا للشخصنة ولا للتورث، سيكون على أبناء الشعب تكرار تلك الصرخة فو وجوه قيادات الأحزاب والمنظمات الجماهيرية إذا لم تستوعب ذلك من تلقاء نفسها. بحيث تترك القيادات المعتقة في هذه الأحزاب والمنظمات أماكنها لتتيح فرصة لدماء جديدة ممثلة بالقيادات الشابة بعد أن تنقل لها خبراتها وتتحول إن تطلب الأمر ذلك إلى عضوية هيئات استشارية.

تجدر الإشارة إلى ظهور دعوات غريبة تطالب بإلغاء تصريحات عمل منظمات المجتمع المدني، بحيث تكتفي لممارسة عملها بإعلان إشهار نفسها، بحجة أن وزارة الشؤون الاجتماعية التي تمنحها التراخيص هي جهة حكومية يديرها وزير حزبي. لكننا هنا ننبه إلى خطورة مثل تلك الطروحات التي ستجعل البلد ساحة لبعض المنظمات المشبوهة التي تمارس نشاطاً لصالح خدمة جهات خارجية - تجعل مصلحتها فوق مصلحة اليمن- دون رقيب أو حسيب.

والحل لتلك المحاذير إنما يتمثل بتأسيس هيئة مستقلة لا ينفرد بالسيطرة عليها طرف وحيد، تكون مهمتها منح التراخيص لتلك المنظمات والإشراف على سير أعمالها ومتابعة حساباتها الختامية بشفافية مطلقة ، بما في ذلك مصادر دخلها وأنشطة صرفها، لأن ذلك هو المعمول به في كل البلاد الديمقراطية، وإذا شذينا عن ذلك سنصحوا وقد أصبحت البلد "سداح بداح" ، خصوصاً بعد أن أصبحت ميداناً تصفي على ساحاته القوى الإقليمية والدولية خلافاتها التي ليس لليمنيين فيها ناقة ولا جمل.

ثامناً: تطوير العلاقات الدولية لليمن وتصحيح اختلالاتها

سيتحتم على الرئيس هادي وحكومة الوفاق الوطني العمل الجاد من أجل مراجعة الضوابط التي قامت عليها العلاقات الخارجية في عهد صالح، التي لم تتوان بالتفريط بسيادة البلد للقوى الخارجية مقابل مكاسب خاصة تحققت للحاكم وأفراد أسرته ودائرة الفساد المقربة منه. بحيث تعمل من أجل ربط العلاقات الخارجية للدولة بمؤسساتها الدستورية، بعيداً عن الاتفاقيات السرية الغامضة التي ميزت السياسة الخارجية لعهد صالح. وأن تكون تلك العلاقات التي ستقيمها اليمن مع دول العالم قائمة على الشفافية وعدم التفريط بسيادة البلد وحقوقه وثرواته مهما كانت الدوافع والمبررات. وكذلك منع القوى الإقليمية والدولية من اتخاذ اليمن مسرحاً لتصفية حساباتها ودفع الأطراف اليمنية لإشعال صراعات وحروب بالوكالة عنها.

وذلك لن يتأتى إلا بتنمية الدولة اليمنية لمصادر دخلها، والحد من عبث الفساد الذي يسيطر على جزء كبير من مقدرات الدولة، وكذلك منع الأطراف الخارجية من إقامة علاقات مباشرة مع أطراف في المجتمع اليمني بعيداً عن القنوات الرسمية المسئولة عن السياسة الخارجية، بغض النظر عن المبررات التي تقدمها تلك الأطراف لإقامة مثل تلك العلاقات.

ومن الضروري أن تعمل الحكومة اليمنية على التوافق مع دول الجوار في مجلس التعاون الخليجي من أجل إقامة علاقات طبيعية معها. والشيء الطبيعي أن تعمل الدول الخليجية على دعم اليمن لتتمكن من إعادة أوضاعها إلى المرحلة السوية، وأن تكون تلك المساعدات غير مشروطة، ولا يقصد منها الضغط على الطرف اليمني للحصول على تنازلات غير مشروعة.

وبعد الدعوة التي وجهتها الدول الخليجية للأردن والمغرب سيكون من الطبيعي أن تواصل اليمن مطالبتها بعضوية المجلس، وهي التي تشارك دول الخليج جوارها الجغرافي في جزيرة العرب. ولكن سيتحتم على اليمن قبل ذلك أن توفر الشروط اللازمة لذلك الطلب -أثناء فترة تأهيل تدعمها الدول الخليجية- بحيث يتم اتخاذ خطوات جادة وحازمة من أجل تفعيل كفاءة النظام الإداري والمالي والقضائي للدولة عن طريق محاربة المحسوبية والفساد. إلى جانب فرض هيبة الدولة على كل أراضيها في إطار من الولاء للقوانين والأنظمة، والحد من فوضى تجارة السلاح وحمله وحيازته. وكذلك حل المشاكل التي تواجهها الدولة في الجنوب وصعدة، والعمل على إنهاء الثارات والصراعات القبلية.

هذه الإجراءات في حال اتخذتها الدولة اليمنية ستعزز من ثقة الدول الخليجية باليمن، وستجعلها تعيد التفكير في وجهة نظرها الممانعة لانضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي، الأمر الذي سيوفر فرص عمل كبيرة للمواطنين اليمنيين، شريطة أن يتم فتح المعاهد والمراكز لتأهيلهم، ليكونوا قادرين على منافسة العمالة الأسيوية في دول الخليج.

ولا يخفي أن من الأسباب التي روجت للعمليات الإرهابية في اليمن سياسة النظام السابق الذي أتخذ من الإرهاب وسيلة يتكسب بها ويخوف بها العالم ليتغاضى عن فساده، وكذلك رغبته في توريث السلطة لابنه من بعده. إلى جانب ذلك تعد مشكلة الفقر وعدم توفر فرص العمل أمام الشباب، وغياب العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، وانتشار الصراعات المسلحة سبب رئيس يساعد الجهات التي تمارس العنف على استقطاب بعض أفراد الشباب اليمني إلى صفوفها. وسيحتم كل ذلك على الدول الغربية أن توسع من دعمها غير المشروط لليمن، بحيث يشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على المشاريع التي توفر فرص عمل للشباب، ودعمها لقيام ديمقراطية حقة في البلد، وعدم النظر للأوضاع في اليمن من زاوية مصالحها الضيقة.

تاسعاً: صياغة الدستور وتأسيس الدولة المدنية الرشيدة

الدولة المدنية الديمقراطية التي تخضع لمعايير الحكم الرشيد هي المطلب الأول لثوار الساحات الشعبية. وكل ما ذكرناه في الفقرات السابقة يدخل ضمن مفهوم تلك الدولة. هذه الدولة التي يجب أن تتجسد في مضمون نصوص مواد الدستور الجديد الذي ستبدأ بصياغته بعد الانتخابات الرئاسية لجنة مخصصة لذلك حسب بنود المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.

وذلك ما يجعلني أقول بأن أهمية لجنة صياغة الدستور تفوق حكومة الوفاق واللجنة العسكرية، ذلك أن مهام الحكومة واللجنة العسكرية تنحصر في الفترة الانتقالية، بينما تتمثل مهمة لجنة صياغة الدستور بإعداد دستور سيحكم مستقبل اليمنيين لفترات مستمرة بعد الفترة الانتقالية. ولذلك فنحن نطالب من هنا بسرعة تشكيل هذه اللجنة المهمة فور إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية لتعطى الوقت الكافي الذي يمكنها من صياغة دستور يلبي طموحات المواطن اليمني في حياة ديمقراطية وحرة وكريمة.

لكن الأهم من تشكيل هذه اللجنة هو حسن اختيار أعضائها الذين نتعشم من مختلف أطراف القضية اليمنية أن تحرص على أن يكون أعضاء هذه اللجنة من الخبراء في مختلف مناحي الحياة، من الذين يحملون رؤى وسطية ومعتدلة، ويؤمنون بثقافة التعايش ويرفضون سياسات الإقصاء، ذلك إن أردنا الدفع بوطننا صوب مستقبل زاهر وآمن. أما إن رمى كل طرف بمتطرفيه إلى عضوية هذه اللجنة فعلينا أن نقول على الدنيا السلام؛ ولا فرق أن يرتدي أولئك المتطرفون العمائم أو بنطلونات الجنز، أو أن يمارسوا تطرفهم باسم الدين أو باسم الحداثة، فالطرفان في حقيقة الأمر يعدان وجهان لعملة واحدة حتى وإن كان كل منهما نقيض للآخر.

وفي رأيي بأنه ليس مهماً أن نتوقف كثيراً عند المصطلحات والمسميات التي يجب أن نصف بها الدولة اليمنية العصرية المزدهرة التي ننشدها جميعاً، لكن الأهمية الحقيقية إنما تتمثل بنوع النصوص التي سيتضمنها الدستور والقوانين التي ستنتج عنه، التي يفترض أن تتجسد من خلالها دولة المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون، دولة تسود فيها العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، دولة ترسي مبدأ التداول السلمي للسلطة وتمنع التوريث والتأبيد والشخصنة وعودة الحكم الفردي الدكتاتوري من جديد.

وعلينا أن نظل نتذكر الفخ الذي أوقعنا فيه نظام الرئيس السابق الذي جعلنا نتصارح حول ما إذا كان الإسلام سيعد المصدر الوحيد أو الرئيسي للتشريع، بينما تفرغ هو لتضمين الدستور في تعديلاته المتعددة مواد كرست نظام حكم مطلق فاسد ومستبد، وهو ما أوصلنا في نهاية المطاف إلى طريق مسدود. فهل تتيقظ أطراف اللعبة السياسية في اليمن وتدرك أنه ليس بإمكان أي طرف أن يقصي الأطراف الأخرى، وأنه من العقلانية أن نعمل مجتمعين على تعميم ثقافة التعايش بدلاً من تكريس حماقات الإقصاء، ذلك أن تاريخ هذه البلدة الطيبة يخبرنا أن كل مشاريع الإقصاء السابقة قد باءت بالفشل بعد أن تم تشييع أصحابها إلى مزبلة التاريخ.

وعلينا أن ندرك بأنه مثلما أن لكل منا مشروعه الخاص فالآخرين أيضاً لهم مشاريعهم الخاصة بهم، التي تختلف في كثير من مضامينها وغاياتها عن ما يحتويه مشروعنا، وأن إصرارنا على تنفيذ مشروعنا الخاص بكامل أهدافه سيعني الحكم على مشاريع الآخرين بالفشل، وكذلك سيكون مصير مشروعنا لو أن الآخرين فكروا بنفس طريقتنا الأنانية، وهو ما لن نرضاه نحن ولا هم.. إذا، الحل يكمن في عملنا سوياً في إطار القواسم التي تجمعنا – وهي كثيرة- بينما نحترم خصوصيات بعضنا في القضايا التي تختلف رؤانا بخصوصها، لأن البديل لذلك سيتمثل بإغراق البلد في صراع دامٍ سنخرج منه جميعاً بالخسران المبين. 

أخيراً:

بيدنا جميعاً أن نجعل من انتخابات 21 فبراير عيداً لانتصار ثورة اليمن الشعبية، وبداية فعلية لتحقيق أهدافها، سواء كنا من الموقعين على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية أو من الرافضين لبعض أو كل بنودها. وسيكون من المناسب لو تكاتفت جهودنا من أجل تحسين شروط تنفيذها بما يخدم المصلحة العامة للوطن اليمني بأكمله. لكون الانتخابات القادمة تمثل الخيار المتاح أمام الجميع لإخراج الوطن من أزماته الخانقة ووضعه على بداية الطريق الصحيح.

ومع تسليمنا بأن مقاطعة الانتخابات الرئاسية القادمة – أو أي انتخابات أخرى- يظل حقاً يكفله الدستور والقوانين النافذة، إلا أن ذلك الأمر عندما يتطور إلى حديث عن منع تلك الانتخابات والعمل على عرقلة سيرها، سيشكل حجر عثرة أمام بناء الدولة المدنية الديمقراطية الرشيدة التي ينشدها الجميع، لكونه سيمثل رفضاً للاحتكام إلى صندوق الاقتراع ويستبدله بسياسات الاستقواء بأساليب غير ديمقراطية وغير دستورية، وسيجعلنا نظل ندور في نفس المتاهة التي دخلنا فيها منذ ثلث قرن من السنين العجاف، وستشكل الانتخابات الرئاسية القادمة بصيص نور يساعدنا على الخروج منها.

* (أستاذ جامعي وكاتب وناشط سياسي) دراسة مقدمة إلى ندوة: الانتخابات الرئاسية.. العبور الآمن لمستقبل أفضل

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن