قراءة في النتاج الفني لثورة 11 فبراير

الأربعاء 27 فبراير-شباط 2013 الساعة 06 مساءً / مأرب برس -خاص
عدد القراءات 4942

عُرف الغناء كغيره من الفنون القائمة على البناء الجمالي_ كمساحة وجدانية تنتقل بمستمعيه إلى أجواء بعيدة عن الهم العام، عن ميادين السياسة وعن مختلف أنواع الصراع الذي تخوضه الجماعات البشرية، إذ اقتصر تعبير الغناء منذ القدم على مفردات الغزل وعلى قيمة العشق بأطرافه وأطواره وحالاته.أما الأغنية الوطنية _كخروج عن سيادة الغزل في الغناء فلم تظهر كنوع غنائي له سماته وخصائصه المميزة له إلا بظهور الثورات التحررية الحديثة التي أفرزت مفهوم الوطنية كمفهوم سياسي توازيه الأغنية الوطنية كمفهوم فني وأداة مهمة من أدوات النضال الثوري الساعي لتطبيق نظام المواطنة.

في الذاكرة العربية الحديثة برزت الأغاني الوطنية مع ظهور الحركات الوطنية في الدول العربية الرائدة لحركات التحرر كمصر وسوريا ولبنان والعراق ثم برزت كتمهيد للثورات التحررية في منتصف القرن العشرين وكأداة ثورية رافقت الثورات بمختلف البلدان العربية التي تحررت من الاستعمار الخارجي أو التي أطاحت بالأنظمة الملكية،و قد برزت كظاهرة غير مسبوقة من خلال الكمية التي أنتجت ومن حيث الانتشار الجماهيري من خلال وسائط الإعلام المتطورة آنذاك. هذه الأغاني قُدمت من قِبل قامات فنية لم تخلقها الثورة فمشاهير الأغاني الوطنية عرفوا قبل الثورات كمغنين لهم ألوانهم الغنائية المعروفة لكنهم تماهوا مع الثورة كحالة تغير اجتماعي لابد كفنانين من أن يعبروا عنها وعن القيم التي تحملها. اتسمت هذه الأغاني بالنضج الفني وبالاتكاء على مكونات الغناء العربي الأصيل، كما اتصفت بغزارة الإنتاج الذي شجعته الأنظمة الحاكمة بالإضافة إلى النخبة المثقفة التي أفرزت تلك الحالة من الرقي الأدبي والفني. بعد ذلك شهدت الأغنية الوطنية خفوتاً في العقود التالية لعقد الستينيات كنتيجة طبيعية للمتغيرات السياسية المعروفة إذ صعود أنظمة جديدة بخيارات سياسية مختلفة، استمرت هذه الأنظمة في الحكم وفي الانقلاب على أهداف الثورة التي صعّدتها إلى السلطة حتى أطاحت بها ثورات الربيع العربي مطلع العام 2011.

في اليمن ازدهرت الأغنية الوطنية بشكل لافت منذ ثورتي 26سبتمبر و14 أكتوبر وعبرت عن الشعور الوطني وطموحات الشعب اليمني وتطلعاته وشملت مفردات كثيرة ومتنوعة لا يتسع المقام هنا لسردها بل إنها تحتاج إلى فرق من التأليف والتوثيق والدراسات لإيفائها حقها. ويكاد يكون حصاد نصف قرن من الأغنية الوطنية حصاداً مبهراً للمتابع للإنتاج الفني للشعوب، إذ شارك جميع فناني اليمن في هذا الحقل الغنائي الذي ضمن لكل فنان أجاده خلوداً في ذاكرة الشعب.

الأغاني الوطنية في عهد النظام السابق

ولأن جميع الأغاني الوطنية في عهد النظام السابق لم تلامس الروح الوطنية للشعب ودارت في فلك تمجيد القائد الفرد، كان البحث عن أغاني وطنية تعبر عن حالة الغليان الذي يعتمل في أوساط الشعب وإيجادها أمر ميؤوس منه نظراً لسيطرة النظام على وسائل الإعلام وتحجيم الإنتاج الفني إن لم نقل تعمد خلق حالة ثقافة متردية طردت فكرة الأغنية الوطنية من طموح الفنانين الذين غنوا الأغنية الوطنية في السبعينيات وما قبل ناهيك عن جيل الشباب الذي عاش في انحطاط فني واجترار بائس لأغاني التراث اليمني بأنواعه. من أشهر النماذج الغنائية في عهد النظام السابق الأوبريت الغنائي الذي كان يلحن خصيصا للمناسبات الوطنية كذكرى ثورتي سبتمبر وأكتوبر ويوم 22 مايو ذكرى تحقيق الوحدة، إلا أن تفاعل الناس مع المناسبات الوطنية بدأ يخفت وبدت ثورات الستينيات وكأنها تشيخ وتبحث ثورة وليدة يغني لها الشعب أغاني جديدة.

أغاني مهدت للثورة

إن أردنا حصر الأغاني الوطنية التي سبقت ثورة 11 فبراير ومهدت لها بخلق وعي شعبي يرفض الخنوع لفساد السلطة فإننا سنقف أمام اثنين من المغنين هم أبرز من عبروا عن حالة غليان ما قبل الثورة ولكل منهما خصوصية فنية وثقافية إن لم نقل خصوصية سياسية بحتة:

فهد القرني

فهد القرني ممثل كوميدي في الأصل إلا أنه امتلك قدرات صوتية جعلته يوظفها في مسرحياته التي تتضمن أغاني ساخرة يأخذ ألحانها من أغاني تراثية وعربية ويأتي بكلمات بسيطة وشعبية تحمل هجاءاً لاذعا للسلطة أما الخصوصية السياسية فتتمثل بانتمائه لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يمثل _مع بقية أحزاب اللقاء المشترك_ المعارضة التقليدية التي كانت تطمح إلى التغيير عبر الانتخابات الرسمية والتي نافست بها حزب السلطة منذ بداية الألفية الجديدة التي شهدت ولادة الفنان فهد القرني بأغانيه الساخرة من فساد السلطة ومسرحياته الغنائية التي واكبت الحملات الانتخابية وانتشرت عبر أشرطة الكاسيت في أوساط واسعة من الشعب حتى أصبح عنوان أحد أشرطته (على غيري) لازمة يرددها الشباب . بلغ فهد القرني ذروة نشاطه ونشاط أغنيته الساخرة في الانتخابات الرئاسية عام 2006والتي شكلت تهديدا واضحا لنظام الرئيس السابق الذي فاز بها مما جعل فهد القرني يصدر شريطا يسخر به من الانتخابات المزورة كل هذا عرضه للاعتقال أكثر من مرة لتزداد شعبيته وانتشار أشرطته ومسرحياته. بعد دراسته مصر توجه فهد القرني إلى التمثيل والإخراج إلا أن ظهر في ميادين الثورة منذ انطلاقتها في شهر فبراير إلا أنه لم يظهر بقوة نشاطه السابق ولم يبلغ المستوى المأمول منه ونستطيع القول بأنه ترك ساحة الغناء السياسي الساخر للفنان محمد الأضرعي الذي سنأتي على ذكره لاحقاً.

عبود خواجة

شكل عبود خواجة حالة فنية فريدة تمثلت بكونه الفنان الوحيد الذي يخوض المعترك السياسي من بين جميع مطربي الأغنية التراثية، فعبود خواجة العواد الذي رافق بموهبته في العزف الفنان الكبير أبوبكر سالم، و عبود خواجة الذي يجيد الأغنية التراثية باقتدار؛ يخوض الحياة السياسية بكل جرأة بأغانيه التي واكبت انطلاقة الحراك الجنوبي عام 2007 بيد أنها تماهت مع مسار الحراك وخياراته وأطواره المختلفة. هذا التماهي بلغ مداه عندما انحازت أغنية عبود خواجة للفصيل المنادي بفك الارتباط بعد أكثر من عامين من انطلاقة الاحتجاجات الجنوبية، تمثل ذلك بغنائه مجموعة من الأغاني التي جعلته أحد المطلوبين من الأجهزة الأمنية التي اضطرته لأن يهاجر إلى دولة قطر التي منحته جنسيتها وأتاحت له فرصة الانتشار والاحتكاك بمجتمع الفن الخليجي وفضائياته التي يقدم من خلالها ألوان التراث اليمني. ذلك لم يمنعه من مواصلة الغناء للقضية الجنوبية برؤيته لها واستمرار انتشار أغانيه إلا أن اندلعت الثورة الشبابية الشعبية والتي خلقت نوعا من التقارب بين الحراك الجنوبي وبقية المكونات الثورية في اليمن تجلى هذا التقارب بإذاعة قناة الجزيرة مباشر لأغنية عبود خواجة "والله ورب العرش" والتي حذفت من الأغنية المقاطع التي يدعو فيها إلى فك الارتباط. سكوت عبود خواجة إزاء هذا البتر لأغنيته التي يحتج في بدايتها على رأس النظام وأعوانه توافقت مع توجه الحراكيين الذين تخلوا عن مطلب إسقاط النظام في الأشهر الأولى للثورة.

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن