هي الفأس الأخيرة
بقلم/ جمال انعم
نشر منذ: 12 سنة و 9 أشهر و 28 يوماً
الأربعاء 25 يناير-كانون الثاني 2012 03:14 م

قبل إقرار الحصانة , كان بودي إسداء نصيحة أخيرة للمشمولين بها , صالح ومعاونيه , غير أني خشيت أن تحسب على الإصلاح , أو تعد محاولة للتنصل.

رؤيتي للأمر شخصية بالطبع , ودوافعي إنسانية محضةٌ , التعاطف ليس من بينها بالتأكيد , كان يليق برجل حكم 33 سنه أن يتحمل مسئوليته حتى النهاية , أن يخرج من الحكم كمسئول , لا كمشمول بضمانات .

وددت أن لا يطلبها لنفسه أو سواه , ووددت أكثر لو أقنعته بالعدول , وأبنت له أنها خطة خسف ومطلب هوان , وأنها بحسب ما أراه عليه لا له , وأنها أقوى ما يرديه مما أراده في المبادرة وأليتها التنفيذية , هي الفأس الأخيرة التي يشج بهار أسه ورؤوس من معه , هي مادة النهاية وما سواها من مواد مجرد تفاصيل هامشية , لا تمد مركبه الغارق بحبل نجاة .

كان بودي أن أفعل ذلك مجازفاً , بوضع المشترك وشركاؤه في دائرة الشك , فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات , إذ تبدو لي ضربة معلمين كبار , قاضية وحاسمة فيها من السحر ما يلتبس على النظرات العابرة وما يختلط على الفهوم القاصرة .

طلب ضمانات بعدم الملاحقة ليس إمتيازاً ولا دليل قوة , هي لحظة ضعف ويأس , نهاية فاجعة , وإعلان عن إنسداد الأفق تماما , رجاء بائس أخير , لرجلٍ يحاول بإعياء ترتيب أوضاعه في الهاوية .

أن تعيش بضمانة , أمرٌ قاسٍ ومرير , من الصعب أن تقبل به ناهيك عن أن تطلبه , العقوبة مسألة إنسانية تتعلق بالكرامة والحرية والمسئولية , أنت إما بريء أو مدان , الأنسان الحر لا يتحمل العيش متهماً يلاحقه العار , لا يتحمل البقاء موصوما في أعين الناس مثقلاً بخطاياه , مسكوناً بعقدة الذنب .

هي صفقة يشتري فيها الجناة أماناً مستحيلاً , يصعب عليهم طلبه من أنفسهم , يدركون أن المانح وكيلاً صورياً , لا تتحقق فيه الصفة , وأنه يمنحهم مضطراً الأمان , كي يرفع شبح الخوف عن وطن , وأن الضمانة إدانة , لا يطلبها إلا الخائفون .

يريد الجاني أن يأمن بأي طريقٍ كان , ويعرف أن ليس بمقدوره التعامل مع أصحاب الحق , المهم أن يجد من هو مستعدٌ لمواجهة الضحايا وتحمل اللوم والتبعات بحيث تصير تلك مشكلته.

يطلب الجاني الأمن مقابل تنازله عن بقايا شروره , وكفه عن إقتراف المزيد من الآثام , مقابل تخليه عن السلطة وقد صيرها أداة قتل وإجرام .

يعلم الجناة أن ليس بمقدورهم طلب الغفران لأنهم لا يستحقونه , وأن خروجهم على هذا النحو هو المتاح الوحيد رغم ما فيه من إهانة وإذلال .

هو الحكم الفاسد الذي إعتاش على الفساد يحتاج لكي يغادر صفقه فاسدة , كي يحيا بضمان ويالها من حياة.

لكأن الحاكم يستبطن تاريخه الآثم في هذا الطلب , هو الذي عامل مواطنيه ومعارضيه وخصومه كطرائد , لا حقهم بكل وسيلة ,هو الذي كان يمنحهم الجرم والعفو , ويبقيهم على فائض أخلاقه ومكرماته الزائفة , يستبطن هنا ضحاياه , يطلب الحصانة من نفسه . 

لا يمكن أن يعود المجرم مواطناً بضمانة , يستحيل أن يصير كائناً طبيعياً , الحصانة سجن , بل أكثر من ذلك , إهدارٌ لإنسانية الإنسان , لا يمكن معها أن يبقى حراً مصاناً كامل الأ هلية .

وأن تكون لمعاونيه معه , كرمٌ قاتل يعمم الوصمة , ويثقل عليهم بأكثر مما يخفف , بدا واضحاً ضيق عديدين منها , كان الكل يحاول التبرؤ منها على نحو يبعث على الإشفاق , قالوا أنها مطلب ٌ شقيق , وذهب الصوفي أحمد بعقله الذاهب إلى أنها مطلب اللواء علي محسن في محاولة بائسة لتقديم آخر خدماته المفضوحة في المشهد الجنائزي الغارب . 

هذه وجهة نظر لا تهدف لتبرير أي موقف , ولا تتعمد تسويغ الأمر كفعل سياسي يستدعي النظر من زوايا مختلفة أكثر عمقاً و أتساعاً , إن العدالة تتحقق بوسائل عديدة قد يكون من بينها أن تلاحق بطلبك ضمانات بعدم الملاحقة .

* إجهاشة وطن

أستاذ محمد باسندوه دموعك تبلل القلب , تبلل الكلمات .

إعتدنا صورة نمطية لرجل الدولة والسياسي والقائد الحزبي طابعها الصرامة والجدية, وأعتدنا مسؤولين يبكوننا ولا يبكون , يطالعوننا بوجوه جهمة كابية متغضنة من المكابدة والسهر على الشأن العام , يخطبون بلغة منتقاة بعناية , يقولون كلاماً كثيراً قليلاً ما يعبر عن أرواحهم وعنا .

إجهاشتك بالبكاء أيها الرجل الكبير , إرتعاشة رجلٍ وطني كبير مشفقٍ على بلدٍ مختنق بأدخنة الحرائق , دموعك هناك هي البراءة والصدق , حديث الروح المنسحبة من المشهد الضاج بالمكائد والخدائع الصغيرة , هناك حيث نمثل وننوب عن هذا وذاك , وقليلٌ ما يمثل المرء روحه وإنسانيته وأشواقه وأشجانه , دموعك هناك , تفسح المجال لكي تعاود البراءة الحضور , دموعك أستاذ محمد فاتحة زمن إنساني جديد وشفيف .