تحديات معاصرة: المرجعية وتطبيق الشريعة الإسلامية
بقلم/ زيد علي باشا
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 24 يوماً
الأربعاء 31 يوليو-تموز 2013 09:48 م

تواجه مجتمعاتنا اليوم تحديات عديدة نكدت علينا عيشنا وأقلقتنا. ولا يكفي أن تكون هذه التحديات حاضرة في الأذهان لترف فكري أو ترويج إعلامي، بل يجب النظر فيها بإمعان والتعامل معها باجتهاد على كل المستويات وفق منهجية علمية شاملة، مع مراعاة خصوصيات المجتمعات وخلفياتها، ثم اسقاطها على واقعنا الذي نعيشه، لأن تجاهلها أو عدم إعطائها حقها يلحق أضرارا كبيرة بقواعد وأركان مجتمعاتنا. وأستعرض هنا أبرز تلك التحديات في تقديري، وهي حول المرجعية وتطبيق الشريعة الإسلامية. وهو حديث يتجاوز حدود بلد إسلامي بعينه باعتباره من أهم قضايا الساعة، لا سيما في المنطقة العربية وفي ظل الظروف الراهنة. حيث يمكن تقسيم موقف دساتير الدول ذات الغالبية المسلمة، وهي 44 دولة، من النص على مرجعية التشريع الإسلامي للدولة في دساتيرها، إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى: 22 دولة تعترف بدور معين لأحكام أو مبادئ أو الشريعة الإسلامية في دساتيرها، ويشمل هذا 18 من 22 دولة أعلنت الإسلام دين الدولة الرسمي، وهي أفغانستان، إيران، المالديف، البحرين، السعودية، بروناي، باكستان، عُمان، موريتانيا، اليمن، الجزائر، بنغلادش، مصر، العراق، الأردن، الكويت، ليبيا، ماليزيا، المغرب، قطر، تونس، الإمارات.

المجموعة الثانية: وعلى النقيض من ذلك فإن 22 دولة ذات أغلبية مسلمة تعلن عن نفسها بأنها دولة علمانية، أو أنه لا يوجد بها إعلان دستوري للدين، وهي ألبانيا، لبنان، سوريا، إندونيسيا، جزر القمر، جيبوتي، غامبيا، سيراليون، الصومال، أوزباكستان، السودان، بوركينا فاسو، شاد، غينيا، مالي، النيجر، السنغال، أذربيجان، كيرغستان، طاجيكستان، تركيا، تركمنستان.

(المصدر: تقرير لجنة العلاقة بين الدين والدولة والحق في حرية الدين أو المعتقد، دراسة تحليلية مقارنة للدساتير في الدول ذات غالبية مسلمة، تاد إستانكي وروبرت بليت، 2005 ( The Religion-State Relationship and the Right to Freedom of Religion or Belief: A Comparative Textual Analysis of the Constitutions of Predominantly Muslim Countries ).

كما أنه حديث يتجاوز حدود دين بعينه. إذ إن دولاً عدة تضمن دستورها مادة حول ديانة الدولة، منها الدستور السويسري الذي يبدأ باسم "الرب القادر على كل شئ" والدستور اليوناني الذي ينص على أن "الديانة المهيمنة في اليونان هي كنيسة يسوع الشرقية". بينما يعترف دستور بلغاريا بأن المسيحية الشرقية الأرثوذوكسية هي "الدين التقليدي" في البلاد. كما يطلب دستور تايلاند من الدولة "حماية ورعاية البوذية والأديان الأخرى".

إنني لا أبحث في مقالي هذا عما إذا كانت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي أم الوحيد، أم غير ذلك، أو عن مصادر الشريعة الإسلامية، بقدر ما أبحث عن علاقة الدين بالدولة، وعن علاقة الديني بالدنيوي، وعن الغاية من القانون، وعن كيفية التعامل مع النصوص. من أجل ذلك كان تقديمي للمرجعية على الشريعة الإسلامية في عنوان مقالي. إننا لا نبحث عن نصوص جامدة مجردة، سواء جاءت بها الشريعة الإسلامية أم غيرها. ومعرفة بقدر نفسي وحدود علمي في هذا المجال العلمي الرفيع، وتقديرا لكل من وقف على تعقيدات هذا الموضوع من السابقين واللاحقين والمعاصرين، واحتراما لوجهات النظر المتعددة اليوم حول هذا الموضوع، فإني سأطرح تساؤلات فقط لا غير، وذلك لتسليط الضوء على جميع جوانب الموضوع، ولإثارة مزيد من الأفكار ووجهات النظر التي تأخذ بعين الاعتبار جميع المعطيات من الدين، والموروث الاجتماعي والثقافي والسياسي المحلي والعالمي، وواقعنا المعاصر، وذلك في محاولة لاستيعاب هذا الأمر والوصول إلى تصور واضح حول هوية الدولة العربية اليوم، وتحديد علاقة المواطن بالمواطن وعلاقة المواطن بالوطن في ظل دولة تنص على أن دينها الإسلام، بما يحفظ للإنسان حريته وكرامته وسائر حقوقه ويلبي جميع احتياجاته البشرية، بغض النظر عما يدين به.

* * * * *

ما هي مرجعية الطلائع التي تتصدر مشاريع الإصلاح في أوطاننا اليوم؟ وما مدى شمولية الدين الإسلامي؟ هل الإسلام هو الذي يأتي بالديمقراطية، أم الديمقراطية هي التي تأتي بالإسلام؟ أم إنهما لا يجتمعان؟ ما هي العلاقة بين الدين والدولة؟ هل النص على أن الإسلام هو دين الدولة هو مجرد تلبية لتطلعات وآمال الناس واستجابة لنبض الشعب، أم إن الدولة وإيجاد سلطة حاكمة ضرورة للدين الإسلامي بطبيعته ومطلب ديني أصيل؟

وإذا قلنا بأن الإسلام دين الدولة، مع الإقرار بأن العقائد والعبادات والشعائر والمناسك هي مما يدين به الفرد، وأنها حرية فردية، فهل تصبح الشريعة الإسلامية حينئذ سقفا لكل قانون وضعي؟ ماذا نقصد يا ترى بـ "الشريعة الإسلامية" و "تطبيق الشريعة الإسلامية"؟ هل نحن بحاجة لأن نأتي بنص شرعي لكل مسألة؟ هل ضمَّنت الشريعة كل أحداث الحياة؟ هل أراد لها الشارع أن تكون كذلك أم أن ذلك تحميل الشريعة الإسلامية ما لا تحتمل؟ ما مدى استجابة الشريعة الإسلامية لأحداث الحياة اللامتناهية، وما مدى ملائمتها لواقع الناس المتجدد؟

أين يلتقي الدين بالدنيا، وأين يفترقان، علما بأن الشريعة الإسلامية، بنصوصها المنزلة بالوحي، الثابتة في الكتاب حتى يوم الدين، وبما ورد عن رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، لم تخض في كثير من تفاصيل الحياة المتجددة--ليس لإن ذلك يعجز الله سبحانه وتعالى--؟ من/ما الذي يحدد لنا ما هو ديني وما هو دنيوي؟ ما هو لله، وما هو لقيصر/السلطان؟ ثم إننا إذا عرفنا ما هو ديني وما هو دنيوي، فكيف نضبط العلاقة بين الديني والدنيوي، لتجنب إيجاد التناقضات بين الشريعة الإسلامية والقوانين؟ هل قانون الدولة خاضع للشريعة الإسلامية، أم إن الشريعة الإسلامية خاضعة لقانون الدولة؟

ثم هل الشريعة الإسلامية كلها على مستوى واحد من الدلالة؟ هل كل ما في الشريعة عائم فضفاض؟ ما هو القطعي الدلالة، وما هو الظني؟ ما هو الثابت المطلق من الشريعة، وما هو المتغير النسبي؟ ما هو الملزم، وما هو المعلم/الموجه؟ وهل كل الدين/الشريعة يعرف بالعقل؟ ما الذي نُعمل فيه عقولنا مما يمر عبرها؟ ما حدود العقل وما مجال الاجتهاد في الإسلام؟ ومن/ما الذي يحدد لنا كل ذلك؟ هل نجتهد مع النص؟ هل نصلي العصر في بني قريظة، أم في الطريق إلى بني قريظة؟ متى يؤخذ النص بظاهره، ومتى يؤخذ بروحه (مقصده)؟ من الذي يحدد روح/مقصد النص؟ أي في وجود النص القطعي، ناهيك عن غيره، هل المرجعية هي النص، أم ما وراء النص (مقاصدية النص)؟ وإذا كانت ما وراء النص، فكيف نعرف أننا اهتدينا حقا إلى مقصد النص؟ وماذا تكون الحاجة حينئذ إلى النص؟ هل ما وراء النص مطلق، أم نسبي خاضع للزمان والمكان والحالة؟

هل الثوابت والقطعيات من القيم والمبادئ والأخلاق والقواعد والضوابط والأحكام مؤطرة بالمصلحة والمنفعة العامة والسلم الاجتماعي، أم إن المصلحة تدور مع الثوابت والقطعيات؟ هل نقدم النص على المصلحة، لا سيما النص الشرعي، علما بأن نصوص الشريعة، كما أسلفنا، ثابتة إلى يوم الدين، أم المصلحة على النص؟ أم يكون الأمرين معا بحسب الحالة ووفق قواعد معينة ومنهجية واضحة؟ ما هي القيم العليا التي ينبثق عنها كل ما نريد وضعه من نظم وضوابط لحياتنا الدنيوية؟ هل قيمة الدين هي العليا دائما، أم النفس، أم المال، أم غير ذلك؟ ما هي الغاية من القانون، الاستقرار أم العدالة؟ إذا كانت الأولى، جاءت على حساب الثانية أحيانا. وإذا كانت الثانية، فمن الذي يقيسها؟

أخيرا، ما هي آلية تطبيق الشريعة وتحديد/تأويل الحلال والحرام؟ هل الدولة بحاجة إلى دار إفتاء؟ ممن يتألف؟ وهل رأيه ملزم أم معلم؟ والأهم من ذلك كله، هل رأيه شرعي أم قانوني، ديني أم دنيوي؟

* * * * *

إن الاستفهام وراء كل هذه التساؤلات هو عن المرجعية عند سن القوانين الوضعية، وإدارة شؤون الدولة، والتعامل مع مواطنيها بمختلف عقائدهم، وإدارة مواردها وعلاقاتها الدولية، وغير ذلك. هو سؤال عن علاقة الدنيوي بالديني، القانون بالأخلاق، الدستور بالحريات والحقوق، و نحو ذلك. هو سؤال عن المرجعية لكل ما نريد وضعه من نظم وقوانين وضوابط لحياتنا، بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهي عند البعض العقل، وعند الآخر المشترك الإنساني، وعند الآخر الدين. بل قد يرى البعض أنه لا فرق بينهم وأنها جميعا من مشكاة واحدة. لكن إذا كان الأمر كذلك وتساوى الدين مع غيره، فما تكون حاجة الجماعة يا ترى حينئذ للدين؟ إننا نحاول من خلال هذه التساؤلات أن نجيب على أمثال التساؤلات التالية: هل تسمح الدولة باستيراد الخمور لغير المسلمين أم لا؟ هل نقبل الديمقراطية أم نرفضها؟ هل الترشح لرئاسة الدولة مفتوح لغير المسلمين؟ ما هي حقوق غير المسلمين وما هي واجباتهم؟ ما مقدار الدعم الذي تقدمه الدولة للمؤسسات الدينية باختلافها؟

إن هذه التساؤلات تحمل وراءها قدرا كبيرا جدا من الفلسفة والفكر العالمي، ابتداء بأفلاطون وأرسطو، ومرورا بأمثال سوارز وسبينوزا وكانت وبينثام وهيجل وفريدرك كارل وأوستن وفون أيرينج وهولمز وكيلسن، وانتهاء بأمثال فولر وهارت ورأولز ودوركن وراز، كما أنها تحمل ورائها تاريخا إسلاميا طويلا فيه العديد من الفصول المشرقة، ابتداء بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم جميعا، ومرورا بأمثال الجويني والغزالي والعز بن عبدالسلام والقرافي وابن القيم والشاطبي رحمهم الله، وانتهاء بأمثال عبدالله بين بيه وأمثال طارق رمضان وجاسر العودة أحسن الله إليهم جميعا.

لقد عانينا طويلا من الغلو في الدين، وتضييق مجال الاجتهاد، وحصره على فئة من ذوي الاختصاص دون فئة، ثم فرض تلك الاجتهادات وتقديس أصحابها، ومن الاستبداد الذي وقع على الشعوب باسم الدين طوال عدة قرون، ومن التبعية العمياء. فحال ذلك الجمود، والتضييق لما هو واسع، والتعطيل للعقل والدين، بين الإنسان المسلم وبين تحقيق مطلوب خلافة الله في الأرض. وكانت النتيجة عداء متكلف للدين وعشوائية وتسطيح وتمييع، بقصد وبدن قصد. وتعطلت الحياة في الحالتين! فما أحوجنا اليوم إلى هداة مهديين ليخرجونا مما نحن فيه، إلى ما فيه خير للإسلام والمسلمين وصلاح للعباد والبلاد.

يقول الشيخ عبدالله بن بيه معلقا على هذا الموضوع، في مقال له بعنوان "علاقة الدين بالدولة: وجهة نظر إسلامية"، ما يلي:

"والإشكال في العلاقة بين الدين والدولة ظل قائماً ليمنح شرعية لقول هيجل: لا يكفي أنْ يقول لنا الدين: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لأنه يبقى علينا بعد ذلك أنْ نعلم على وجه الدقة ما هي الأشياء التي لقيصر.

وإذا كان هناك إشكال بالنسبة لعصر العولمة بالنسبة للعلاقة بين الدين والدولة فإنَّ الإشكال لن يكون حله–حسب رأينا–بالدفع إلى القطيعة والحلول الحادة والرؤية الآحادية، وإنما بالبحث عن إبداع الحلول الذكية التي تحافظ على الصلات النافعة، وتقيم الموازنة السعيدة بين مستلزمات المعاصرة ومنتجاتها الفكرية والمادية، وطموحها إلى تذويب البنى وتحويل السلوك وتجاوز الديانة والخصوصيات، وبين القيم الروحية وميراث النبوات والأخلاق الفاضلة والتوفيق البارع بين المتناقضات التي تتجاذب حياتنا."

إن ما نرنو إليه من وراء كل ذلك ما يلي:

- تحديد المقصود بالشريعة وتطبيقها

- الاتفاق على منهج وآلية لتحديد الديني والدنيوي وضبط العلاقة بينهما

- الموازنة بين العام والخاص

- التفريق بين المرجعية الثابتة والتطبيق المتغير، بين مصادر التشريع الأزلية المقدسة وبين فهمنا البشري لها (الفقه) في إطار واقعنا الدنيوي المتجدد

- التفريق بين الغاية والوسيلة، بين المقصد والسبيل

- إحياء ثقافة الاجتهاد ومراجعة ضوابط الاجتهاد ومجالاته

- أن يقوم الناس بالقسط، إحقاقا للحق، إما تسديدا وإما مقاربة، وتطبيق شرع الله ما استطعنا مضمونا لا شكلا، تحقيقا لغاياته ومقاصده، بعيدا عن الأهواء والنزاعات البشرية

هذا والله ولي الهداية والتوفيق.