بين الدين والسياسة.. تسييس الدين ام تديين السياسة ؟
بقلم/ كاتبة/نزهة المكي
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و 6 أيام
الأحد 16 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 12:38 ص

نزهة المكي - مأرب برس خاص

كاتبة مغربية

السياسة تعني قيادة المجتمعات أو التجمعات البشرية عبر طرق و إجراءات تمكن الساسة من قيادة شعوبهم دون تمييز بين أفرادهم أو فآتهم العرقية أو الفكرية بل تستوجب إيجاد تفاعلات إيجابية بينهم حتى يتمكن المجتمع من العيش في انسجام و يسير نحو التطور و الرقي لذلك فالقيادة السياسية لا يمكن أن تنجح في مهمتها إن اعتمدت منظومة فكرية أحادية في تسيير شؤون الشعب سواء كانت هاته المنظومة فكرية أو عقائدية .

من الخطأ إذن أن يحاول القائد أو الحاكم أن يبني سياسته على منظومة فكرية واحدة لأنه بذلك سيطرح الغبن في نفوس فآت أخرى من المجتمع لها خصوصياتها الثقافية أو الاديولوجية و الفكرية لهذا توجب عليه أن ينطلق من ساحته الفكرية و يجعل لها امتدادات تصل إلى إلى كل الأنساق الفكرية المتواجدة بساحة مجتمعه لتحدث تفاعلات إيجابية مع ما لديها من الأفكار التي تتفق مع بعض ما لديه ليخرج في النهاية بنسق فكري موحد يتفق عليه الجميع فيبني سياسته عليه حتى يتمكن من تجنيب شعبه الهزات السياسية أو المآزق التي قد تؤدي إلى توقف النمو و التطور و تخلق له اضطرابات داخلية أو خارجية .

لهذا فكل قيادة سياسية تعتمد أي منظومة فكرية أو عقائدية تحدث لها الهوة بينها و بين فآت من عناصر شعبها أو تحدث لها الخلل في علاقاتها الخارجية فإنها مرفوضة و جب إعادة النظر فيها .

ـ معنى الدين

الدين و إن كان غريزة إنسانية طبيعية خلقت مع الإنسان منذ أن وجد على وجه الأرض إلا أنه منظومة أخلاقية و تربوية بالدرجة الأولى : فالعدل و الأمانة و الصدق و الوفاء و الإخلاص في العمل و التراحم بين الناس كلها قيم أخلاقية مطلوب تواجدها في كل فرد في كل زمان و مكان حتى تستقيم حياته على وجه الأرض و يستطيع التعايش مع كل فآت مجتمعه في ظل علاقات و تعاملات سليمة تحقق له و لمجتمعه الطمأنينة و السلام .

أما التدين فهو الغاية الأولى من الدين و المقصود به إقامة الدين في النفس و المجتمع ، و إقامة الدين في النفس هي الخطوة الأولى التي يجب أن يقوم بها الإنسان و ذلك ببناء علاقة سليمة مع ربه و الخضوع لإرادة الله سبحانه و الامتثال لأوامره و تطهير نفسه من الخبث و المكر و كل الخصال التي يمكن أن يضر بها نفسه أو مجتمعه و الوسيلة إلى بلوغ هاته الغاية هي التعبد أي ترويض النفس و تربيتها على هاته القيم الحميدة عبر طقوس و ممارسات مثل الصلاة و الصيام و غير ذلك من الطقوس الدينية التي هي في الأصل غير مطلوبة لذاتها و إنما لغاياتها " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر فلا صلاة له " بعد إقامة الدين في النفس و حين يصبح الفرد قادرا على كبح جماح شهواته في الاستبداد بالسلطة أو الرأي أو الاستئثار بخيرات البلد و غيرها من الملذات و الرغبات الشخصية و يروض النفس الأمارة بالسوء و يتنزه عن داعية هواه فإنه يصبح بعد ذالك عنصرا صالحا في المجتمع يستطيع أن يبني علاقات سليمة مع من يشاركه الحياة في أي بقعة من الأرض . و يكون مؤهلا لتأدية رسالته بأن يكون خليفة ربه في الأرض ليعمرها و يصلح فيها .

تأتي بعد ذلك الخطوة الثانية و هي إقامة الدين في المجتمع ، و إقامة الدين في المجتمع ليس هي إجبار الناس على ممارسات دينية معينة أو إخضاعهم لوجهة نطر معينة في فهمنا للدين و بالتالي تطبيق الأحكام الدينية أو شرع الله بطريقة مشوهة تعتمد على القمع و التنكيل و القتل ، إن وصلنا لهذا المستوى فقد ضللنا ضلالا بعيدا ، فالدين المعاملة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و من كانت معاملته سيئة

تفتقر للرحمة في كل شيء تعتمد التخويف و القهر و البطش فلا دين له .

ـ تسييس الدين أم تديين السياسة ؟

إذا كانت السياسة هي أسلوب قيادة الشعب أو " الإجراءات و الطرق التي تؤدي إلى اتخاذ قرارات من أجل المجموعات البشرية " فإن هاته الطرق و الإجراءات لابد أن تكون مبنية على قواعد سليمة و منظومة أخلاقية تراعي حاجات المجتمعات البشرية من عدالة و مساواة و رحمة بغير القادرين على الكسب و كذلك إخلاص و أمانة و تفاني في العمل و مراعاة المصلحة العامة من طرف القادة و المسئولين في جميع المواقع ...

كل هاته القيم الأخلاقية يمكن أن نلخصها في كلمة " ديـــن " أو " تدين " كما أسلفنا تعريفه كمنظومة أخلاقية .

" الدين المعاملة " فمن كانت معاملته صالحة مثمرة تراعي المصلحة العامة فذلك إنسان متدين و متخلق بأخلاق القرآن و أخلاق نبيه صلى الله عليه و سلم " كان خلقه القرآن " كما أجابت عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق الرسول صلى الله عليه و سلم .

إذن فهاته المنظومة الأخلاقية أو الدين و التدين مطلوبة جدا في السياسي و القائد ليس كممارسات أو طقوس و إنما كغايات فكل مبادرة أو وجهة نظر في الحكم تؤدي إلى تحقيق العدل و الإحسان بين الناس و تمكن المجموعة البشرية من اللحاق بموكب التطور و النمو فذلك هو الدين بعينه و من يعمد الى ذلك بالقول و العمل فإنه إنسان مؤمن حقا بربه و خاضع لإرادته فالله سبحانه لا تنفعه طاعتنا و لا تضره معصيتنا و الطقوس التي نؤديها بين يديه قد تكون نفاقا و تظاهرا بالتعبد لذلك اقتضت عدالته أن يحاسب عبيده على أساس النيات وما تضمره صدورهم  و جعل المحك الحقيقي لإخلاص عبده و إيمانه في مدى صلاحه و منفعته للناس " خير الناس أنفعهم للناس " و الإنسان طبعا يكون عبدا صالحا بما يقدمه من أعمال يساهم بها في تسهيل حياة الناس و رفاهيتهم عن طريق العلم و العمل و الابتكار و بما يساهم به أيضا في الرقي بمجتمعه .

لهذا كان الأجدر أن نديّن السياسة  و نخلقها بأخلاق الدين التي سبق أن ذكرت كونه منظومة أخلاقية و غايات سامية فأينما توفرت غاياته سواء على مستوى الشخصية أو النظام فعلينا أن نستفيد منها و نبادر إلى إختيار تلك الشخصية التي تعمل على إيجاد توافق بين كل فآت المجتمع دون الانحياز إلى بعضها دون البعض في ظل ممارسة سياسة تعتمد العدل و الإحسان . و كذلك النظام الذي نجده يوفر لنا غايات الدين و ممارسته السياسية تنتج لنا مجتمعا تسود في العدالة و يكرم فيه المواطن علينا أن نستفيد منه بلا تردد.

إن الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية أنها لم تعمد إلى تديين السياسة و إنما سيست الدين و أوقعته في مستنقع بعض السياسات المعاصرة التي لا تعترف ببعض القيم الأخلاقية وتوثر المصلحة الخاصة أو الفئوية أو القومية فتنكل بالمعارضة و تبني مجتمعا طبقيا و لا تراعي مصلحة االاقليات العرقية و الدينية أو المذهبية كما تدوس على الفآت المستضعفة الغير قادرة على الكسب بلا رحمة . فالحركة الإسلامية أخذت نصيبا أوفر من هاته الأوبئة و الأمراض السياسية حين لجأت إلى تسييس الدين حيث أخضعته لداعية الهوا ، هوى النفس الإمارة بالسوء فلم تتردد في الانتقام و الثأر ممن نكل بها في يوم من الأيام مدفعة كل فآت الشعب الثمن غاليا ناسية تعاليم ربها " و لا تزر وازرة وز أخرى " كما راحت تطبق بفهم مغلوط إقامة الدين في المجتمع بمصادرة الحريات العامة و فرض وجهة نظرها في تطبيق الأحكام و التعاليم الدينية فانتهكت الحرمات و اقتحمت البيوت الآمنة لتعتقل أو تنكل بأهلها دون تمييز بين الرضيع و الشيخ و تذل المواطن و تنكل بالأسير و تعذبه أو تقتله عدوانا أو انتقاما بغير وجه حق و لا تأخذها رحمة بالمجتمع الذي تحكمه سواء قرصه الجوع و تحول إلى مجتمع متسول أو مات من المرض دون أن تسعى إلى فك حصاره و إيثار مصلحته العامة عن مصلحتها الخاصة و الفئوية في صورة تذكرنا بممارسات الكنيسة و كهنوتها في العصور الوسطى التي كانت تنكل و تقتل و تستبيح دماء الأبرياء و أعراضهم باسم الدين و تزج بالشعوب في حروب يفقد فيها الآلاف من الأبرياء أرواحهم بلا طائل باسم الدين و تقف في وجه العلماء و المبدعين باسم الدين لتجعل الشعوب تئن تحت وطأة الفقر و الجوع و المرض و التخلف بكل أشكاله مما أدى إلى كراهية الدين و التطلع إلى الانفلات و الانعتاق منه ومن قبضة كهنوته فحدثت الثورات و عمدت الشعوب إلى إخراج الدين من حياتها و حصره في الكنائس و المعابد كطقوس فارغة و مارست سياسات تعتمد على أسس تفتقد لكثير من الأخلاقيات و لا تتردد في استعمال الخديعة أو المكر و الكذب في بعض الحالات ضد شعوبها أو الشعوب الأخرى التي تتعامل معها موثرة مصلحة نظامها أو الكثلة السياسية التي أفرزت حاكمها حتى تعمر على كرسي السلطة .

لهذا فإن مسالة تسييس الدين تؤدي حتما لهاته النتيجة المرعبة أي تلويث الدين ببراثين السياسة و تشويهه مما يخلف لنا شباب و جيلا يكره الدين و يسعى لهجر الوطن حتى يستنشق هواء الحرية في الخارج و يكون أيضا أداة طيعة بيد العدو الذي يمكن إن يستغله فيما يضر وطنه و مجتمعه .

الخلاصة أن الدين هو مجموعة غايات و أهداف إنسانية و أخلاقية يجب أن يتربى الإنسان على ما يؤدي إليها من قول و عمل . فالعدل الذي هو أساس الملك غاية لنا الحرية الكاملة في انتهاج ما يوصل إليه و يحققه و ليس من حق أحد أن يفرض وجهة نظره و طريقه الخاص الذي يراه مناسبا لبلوغ هاته الغاية و لنا أن نرجع للسيرة النبوية الشريفة و لنستشف العبر و الدروس و منها قصة الرسول الأعظم مع النجاشي ملك الحبشة . فقد أوفد إليه مجموعة من المسلمين ـ كلاجئين سياسيين حسب التعبير المعاصرـ كي يبعدهم عن ظلم و حيف بني قريش بعدما تركوا دينهم و اختاروا فكرا آخر و عقيدة و منهج آخر في حياتهم ، هذا رغم أن ارض الحبشة لم تكن دار إسلام فلم يهتم صلى الله عليه و سلم بالشكل أو الطقوس التي كانت تمارس هناك و إنما بالمضمون و الغاية وهي كونها تحكم من طرف ملك عادل فالعدالة هي الغاية و الهدف ولايهم شكل أو تسمية النظام الذي يؤدي إليها ففي ظل العدالة يمكن لأي إنسان أن يعيش بكل كرامة و سلام و يامن غدر و مكر الآخرين و يكون باستطاعته أن يعمل و ينتج و يساهم في تطوير مجتمعه .ما تفعله الحركة الإسلامية اليوم و السياسية منها على الخصوص أنها تضع العربة أمام الحصان و تقدم الوسائل على الغايات فصارت عندها المظاهر الدينية و طقوسها مطلوبة لذاتها و على أساسها تتم المعاداة أو الموالاة لذلك كثر الخلاف و الاختلاف معها لدرجة التقاتل أحيانا و قد حجبت الغايات الأساسية من تلك الطقوس الدينية فتولي ظهرها لكل من لا يتصف بأوصافها و يعتمد أشكالها و طريقة ممارساتها لطقوسها الدينية حتى و إن كانت غاياته هي صلب الدين من تحقيق للعدالة و المساواة و توفير الحياة الكريمة للمواطن ففوتت الفرصة عليها و على المجتمع في الاستفادة مما يؤدي تحقيق أهداف الدين السامية و يمكن الإنسان من تحقيق هدفه على الأرض وهو خلافة ربه فيها و تعميرها و ليس سفك الدماء فيها و تخريبها .