نَفَسٌ تحرري في الثورات
بقلم/ عبدالرحمن الراشد
نشر منذ: 5 سنوات
الأحد 24 نوفمبر-تشرين الثاني 2019 06:11 م
 

عند التأمل في الأحداث الكبيرة الثلاثة في المنطقة، إيران والعراق ولبنان، نجد أنها أكثر من محاولة الانعتاق من أنظمة فاشلة، وأوضاع اقتصادية بائسة. أيضاً، فيها تجانس في الهوية الفكرية، والبروفايل للفرد والمجتمع الذي يمثله الغاضبون السائرون في الشوارع، في طهران والبصرة وبيروت. هم شباب ضد صيغة النظام السياسي الحاكم قديم الملامح والممارسات، حتى العراق الذي تقوده مؤسسات وأنظمة جديدة نسبياً، إلا أن القيمين عليها يشبهون مَن هم في طهران وبيروت.

إضافة إلى الوقوف ضد الفشل والفساد، هذه ثورة ذات دعوات تغيير اجتماعي أكبر من الرغيف والوظيفة، ضد التطرف الديني ومع الانفتاح الاجتماعي. فيها روح ليبرالية تنسجم مع متغيرات العصر في المنطقة. في إيران، نحو ستين مليون شخص تحت سن الخامسة والثلاثين لا يمتُّون بصلة للقابعين في قم وقصور طهران، والنسبة والأزمة نفسها في العراق ولبنان. هناك المظاهر المعادية صريحة ضد هيمنة المحافظين ورجال الدين، حتى في مدينتين تعيشان روحياً واقتصادياً على المنافع الدينية، مثل كربلاء والنجف. رفعت المظاهرات شعارات صريحة في العداء للقيادات الدينية بلا استثناء. الصور والأصوات واليافطات في كل الدول الثلاث تهاجم الوضع المحافظ القائم، لأنه مركب للسياسيين وحكم كيانات الدولة، والنتيجة أن كل هذه الأنظمة الثلاثة نجحت في الهيمنة الدينية، وفشلت في تقديم حلول اقتصادية للبلاد، ومعيشية للناس، وحرمت الشباب من حرياتهم وحياتهم الطبيعية وحقهم في رسم حاضرهم ومستقبلهم. هل الذين يتظاهرون في بيروت يعرفون أحجام القوى على الأرض؟ هل يخشى حَمَلة الطناجر من حَمَلة البنادق؟ ربما لا، أو لا يبالون في مقابل التصريح برغبتهم في التغيير، ونلاحظ أنه من الفطنة أنهم لا ينزلقون مع ثعالب القوى المهيمنة، مثل الرئاسة و«حزب الله» والمستفيدين من الوضع القائم، الذين يحاولون جرّ الغاضبين إلى مزالق التخوين، مثل سلاح المقاومة، أو شرعية المقاومة، أو العلاقة مع إسرائيل. تحاشوها تحاشياً لمنح حراس النظام من تخوينهم واعتبارهم أعداء الأمة ثم القضاء عليهم.

وفي إيران، ساروا بعيداً، رفض المتظاهرون وصاية آية الله، أي أقصى حدود التمرد في المجتمع الإيراني الذي رضع كل الشباب تقديسه من قبل النظام، في سبيل ضمان الحكم بعد إسقاط الشاه. هذه ليست تماماً ليبرالية ديمقراطية غربية، لكن فيها توق كبير للخلاص، لإسقاط المؤسسة الدينية الجاثمة على صدور تسعين مليون إنسان أربعين سنة. النموذج الديني فشل في إيران والعراق. حتى لبنان، الذي باسم الهلال والصليب يقتسم السياسيون فيه مقدرات البلاد من النفايات إلى النفط، فشلوا في خدمة مواطنيهم.

إيران كانت غنية ومشعّة وقائدة في المنطقة تحت إدارة الشاه، ثم انتهت في أعظم تراجيديا بالمنطقة، بسبب حكم رجال الدين الذين أصروا على الاستيلاء على الحكم، لا الجلوس ناصحين وواعظين لرجال الحكم. ولم تكفهم زراعة المأساة في إيران، بل تمددوا عبر الحدود والدين إلى الجارة العراق. وأصبحت المؤسسات السياسية الحديثة هناك ممرّاً سهلاً لرجال الدين الإيرانيين مستخدمين البرلمان والرئاسات للتأثير والهيمنة على السياسيين المدنيين. وفي لبنان، ورث الطائفيون المستعمرة الفرنسية اللبنانية القديمة، الناس فيها على اختلاف ثقافاتهم ومعابدهم تحنُّ إلى الخلاص والتغيير. وكانت أغاني وأهازيج المحتجين أكثر جرحاً وإيلاماً للزعامات السياسية التي لا تعرف كيف تتعاطى مع هذا الوضع المختلف. فالمحتجون لا يرفعون أعلام أميركا وإسرائيل، ولا يهتفون لطائفة ضد غيرها، ولا لزعيم ضد آخر.

نحن نشهد تبدلات فكرية، وليست فقط معيشية، وستسقط المؤسسات المغضوب عليها، إن لم تتبنَّ مشروعهم، وتسير معهم في الطريق نفسه، وإن لم تفعل فلن تنجوَ، وإن نجت هذه المرة.