إمبراطورية الصالح
بقلم/ دكتور/عبد الله الفقيه
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 16 يوماً
الأحد 06 مارس - آذار 2011 06:20 م
 
 

يذهب بعض علماء السياسة والاجتماع إلى أن مشكلة الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث تتمثل في محدودية الخيارات المتاحة لها عندما يتعلق الأمر بتحقيق التنمية الاقتصادية. فالأنظمة الاستبدادية تواجه خيارين يصعب التوفيق بينمها؛ فإما تحقيق التنمية، أو الحفاظ على بقائها في الحكم. بالنسبة لخيار تحقيق التنمية فإنه يقتضي أن تمضي الأنظمة قدما في عمليات الإصلاح الاقتصادي بما تتضمنه تلك العمليات من تحرير الاقتصاد والإنهاء التدريجي لسيطرة الدولة على القطاعات الاقتصادية المختلفة ، ومكافحة الفساد، وغيرها. أما خيار المحافظة على بقائها، فيتضمن الحفاظ على دور الدولة المهيمن على الاقتصاد، إعاقة أي تحول اقتصادي من شأنه أن يخلق طبقة وسطى، وإطلاق يد الفساد في المستويات المختلفة للنظام. ويذهب العلماء إلى القول بأن النظم الاستبدادية تواجه خطر السقوط في الحالين؛ فاذا اختارت التنمية الاقتصادية فإن تلك العملية تؤدي إلى قيام الطبقة البرجوازية المنحازة بطبيعتها إلى الاستقرار السياسي الذي لا يتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي, أما إذا اختارت الحفاظ على الحكم فإنها تتعرض للسقوط تحت أقدام الجياع!

وقد عمل الرئيس علي عبد الله صالح، ربما بسبب فهمه الغريزي لعلاقة الاقتصاد بالسياسة وعلاقة السياسة بالاقتصاد، خلال 33 عاما على إبقاء اليمن بشكل مستمر على "حافة الهاوية"؛ فلا هو بالذي حقق التنمية ولا هو بالذي أقنع الجياع بالثورة عليه.. لكن سياسات البقاء التي اتبعها قادت إلى ذات النتيجة التي ظل يتجنب الوصول اليها. ويمكن إجمال التوجهات الاقتصادية لفترة الرئيس صالح في الاتي. 

1. السيطرة على الثروة العامة

ارتكزت قدرة صالح على البقاء في السلطة على شراء الولاءات. واذا كان قد استدان في البداية 30 مليون من أحد تجار مدينة تعز وقام بتوزيعها على المشايخ كي يرضوا به رئيسا في عام 1978, كما تم الإشارة في مقال سابق، فإن فاتورة شراء الولاءات ستزداد بصورة جعلت الرئيس يسعى إلى السيطرة التامة على كل موارد البلاد بلا استثناء وتبديدها بعد ذلك في شراء الولاءات. وتتخذ عملية الاستيلاء على الثروة العامة صورا عدة, أهمها: الاستيلاء على المؤسسات العامة المدرة للدخل، وأراضي الدولة والأوقاف، وغيرها.. وقد عمل صالح، وبغرض الاستيلاء على المؤسسات الاقتصادية العامة والمختلطة المدرة للدخل، على تسليم تلك المؤسسات لأفراد من الأسرة أو العشيرة أو ذوي الثقة يديرونها بغموض كبير يكتنف عمليات تلك المؤسسات.

فالمؤسسة الاقتصادية اليمنية كانت مؤسسة تابعة للقوات المسلحة وكان اسمها "المؤسسة الاقتصادية العسكرية" ثم تم تغيير اسم المؤسسة وإخراجها من سيطرة الجيش وإخضاعها للسيطرة المباشرة للرئيس شخصيا, قبل أن يؤدي إثارة وضع المؤسسة في مجلس النواب إلى عودتها كمؤسسة عامة, ودون أن يعني ذلك اخضاعها للمؤسسات الدستورية. وكان يتولى إدارتها حتى وقت قريب أحد أنساب الرئيس من الهاشميين, وهو علي محمد الكحلاني, قبل أن يتم مؤخرا إسناد مهامها نهاية العام الماضي إلى حافظ فاخر معياد الذي ينتمي إلى سنحان "مسقط رأس الرئيس" والذي يعتبر من المقربين من نجل الرئيس. ويقول مراقبون إن التغيير هدف إلى وضع إمكانات المؤسسة الطائلة تحت تصرف نجل الرئيس خلال الانتخابات التشريعية التي كان الرئيس يسعى إلى عقدها بشكل منفرد وعلى أن يقوم فاخر معياد بدور مشابه للدور الذي لعبه أحمد عز في انتخابات مجلس الشعب المصري. 

وتعتبر المؤسسة, وفقا لعشرات المقالات والتقارير الصحيفة, دولة داخل الدولة؛ حيث تعمل في كل شيء, بدءا- على سبيل المثال فقط- بزراعة وإنتاج وبيع الفواكه والخضار والحبوب والبذور والشتائل، مرورا بتصنيع وبيع التمور والأثاث والأدوية والملح، مرورا بالتجارة بالملابس بأنواعها المختلفة ومواد البناء والعقارات والبيوت الجاهزة والماشية والدواجن واللحوم ، وانتهاء ببيع الخبز والكعك للمواطنين من خلال أكشاك تنتشر في مختلف أرجاء العاصمة. وقد أثار وضع المؤسسة، التي يتم دعمها بمبالغ كبيرة من الموازنة العامة للدولة, وتوكل إليها العديد من العمليات التي تقوم بها الدولة, وابتلعت العديد من المؤسسات العامة، وما زال يثير الكثير من الجدل داخل مجلس النواب اليمني وخصوصا بعد أن وجد النواب صعوبة كبيرة في الوصول إلى حسابات المؤسسة التي تأتي أرباحها على نحو متكرر "صفر"!

أما بنك التسليف التعاوني الزراعي، الذي أنشئ في عام 1975، والذي كان معياد يديره حتى وقت قريب، فقد تم تحويله إلى بنك تجاري لا يحظى المزارعون منه سوى بنسبة زهيدة من أعماله, مع احتفاظ البنك بدعم من الدولة يذهب مع أموال البنك وودعائه في عمليات إقراضية مشبوهة لنافذين داخل النظام. وقد ارتبطت عمليات البنك, الذي توسع كثيرا ليتحول إلى "امبراطورية", بالكثير من تهم الفساد. ومع أن معياد اشتهر بعقلية تحديثية في إدارة البنك حيث أدخل الكثير من الخدمات, إلا أن الاعتبارات السياسية- كشراء الولاءات للنظام- هي التي طغت على إدارته للبنك. وتقول مصادر أن خروج معياد من البنك لا يعني خروج البنك من تحت سيطرته بقدر ما يعني ضم المؤسسة الاقتصادية اليمنية إلى البنك وتسخير الإثنين لخدمة الرئيس ونجله.. وهذا هو السر في تزعم حافظ معياد للبلاطجة في اليمن؛ فهو بلطجي بثروة تقدر بمليارات الدولارات!! 

وتمتد السيطرة الأسرية على المال العام لتشمل المؤسسات التي تساهم فيها الدولة والقطاع الخاص. فشركة التبغ والكبريت الوطنية، التي تأسست كشركة مساهمة يمنية مختلطة في عام 1963 ، وتملك الدولة 51% من رأسمالها، وتدر أرباحا سنوية لا تقل عن المليار دولار أو حوالي 15% من موازنة الحكومة اليمنية، تم إسناد إدارتها إلى توفيق صالح عبد الله صالح وهو واحد من أبناء إخوة الرئيس. وكان اسم توفيق صالح قد ورد في تحقيقات تجريها وزارة العدل الأمريكية بشأن قيام شركة شلومبرجر العملاقة للخدمات النفطية والمسجلة في أكثر من دولة، وبهدف الحصول على عقد تطوير بنك معلومات حول الاستكشافات النفطية في اليمن، بمنح رشاوي تجاوزت 1.3 مليون دولار لشركة وهمية أنشأها توفيق صالح وسماها "يمن انفست." ومع أن توفيق صالح لم ينفِ التهمة, إلا إنه قال أنه حصل على المبالغ كأجور مناصرة. وقد اختارت صحيفة 26 سبتمبر توفيق صالح كـ "رجل العام" - كما قالت- في تحد واضح من الرئيس للشعب.

ولا يختلف الوضع في الخطوط الجوية اليمنية التي تأسست في عام 1978 كاستثمار مختلط بين الحكومتين اليمنية والسعودية وبنسبة 51% و49% لكل منهما على التوالي؛ فقد تم إسناد إدارتها للكابتن عبد الخالق صالح القاضي، ابن خال الرئيس. وهناك الكثير من الغموض حول عمليات الشركة والأرباح الصفرية التي تحققها.

وحيث أن السلطة السياسية والمكانة الاجتماعية والقدرة على ممارسة التأثير ارتبطت تاريخيا بالمكانة الاجتماعية, فقد عمل النظام القائم ورموزه على الاستيلاء على معظم أراضي الدولة والأوقاف, إما عن طريق الأوامر الرئاسية المباشرة أو عن طريق البسط بالقوة. فبعد حرب عام 1994 -مثلا- تم توزيع أراضي الجنوب على أقارب الرئيس وأنسابه وكبار مسئولي حزبه. ويذهب تقرير حكومي يعرف بتقرير هلال/باصرة, وهي لجنة حكومية شكلها صالح من كل من: صالح باصرة (وزير التعليم العالي) وعبد القادر هلال (وزير الإدارة المحلية حينها) لدراسة مشاكل الأراضي في الجنوب, إلى أن 15 شخصا من أقارب الرئيس يسيطرون على معظم أراضي الجنوب.

2. الجمع بين الأختين

 

يجمع الرئيس اليمني وإخوانه وأنجاله وأقاربه وأنسابه ومسئولو الدولة في حزبه بين الأختين- بحسب تعبير معارضي الرئيس- وهما: التجارة والسياسة، وبطريقة يتم من خلالها استغلال الموقع الحكومي لدعم العمل التجاري. ويحدث ذلك على الرغم من أن المواد (أرقام 118 و136) من الدستور اليمني النافذ تحظر على كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء ممارسة التجارة ولو بطريقة غير مباشرة أو الدخول في تعاملات مع الدولة. فالمشير علي عبد الله صالح، رئيس الجمهورية اليمنية، كما تؤكد المعلومات, يملك بطريقة غير مباشرة شركة توفيق لخدمات النفط والغاز المقيدة باسم توفيق عبد الرحيم مطهر. ويحصل مطهر على معاملة خاصة من قبل مؤسسات الدولة حيث تحول إليه أراضي وممتلكات عامة ومبالغ مالية تحت مسميات مختلفة وبدون وجه حق. ورغم أن الدولة تملك شركات لتوزيع منتجات النفط (شركة توزيع المنتجات النفطية، شركة النفط اليمنية، الشركة اليمنية للغاز، شركة مصافي عدن) يمكن أن تقوم بتزويد الجهات الحكومية باحتياجاتها من مشتقات النفط بشكل مباشر، إلا أن المهمة غالبا ما تسند إلى مطهر.. وقد بلغت الديون المتراكمة لدى مطهر للدولة مليارات الريالات اليمنية! وتؤكد مصادر أن رسالة موجهة من وزير النفط خالد بحاح إلى رئيس مجلس الوزراء د. علي محمد مجور بعنوان "حصر القضايا التي هي محل نزاع بين وزارة النفط والمعادن وتوفيق عبد الرحيم مطهر" قد أدت إلى الإطاحة بالوزير في مايو 2008. 

ويملك العميد أحمد علي عبد الله صالح- نجل الرئيس- قائد القوات الخاصة, على سبيل المثال, ووفقا للكثير من الشهادات والتقارير الصحفية, شركة الحاج للمعدات الثقيلة والسيارات والمسجلة بإسم "محمد الحاج" بين ممتلكات أخرى لم يتسنَ التأكد منها, بالإضافة الى مساحات شاسعة من الأراضي. وكانت وزارة العدل الأمريكية قد أدانت في أبريل عام 2009 شركة اتصالات مسجلة في الولايات المتحدة تحت اسم "لاتين نود" بتهمة تقديم رشاوي لمسئولين يمنيين من ضمنهم نجل الرئيس اليمني وذلك بهدف الحصول على معاملة تمييزية في تسعيرة الاتصالات.

أما العميد يحي محمد عبد الله صالح، ابن شقيق الرئيس، ورئيس أركان حرب الأمن المركزي, فهو بحق بيل جيتز اليمن (الثري الأمريكي المعروف) حيث يملك العديد من الشركات بما في ذلك شركة "الماز" للخدمات النفطية ومؤخرا للتجارة، شركة "راحة" لخدمات النقل داخل وبين المدن، شركة هاواي الصينية للكابلات وشركة "سمر" للسياحة التي تحمل اسم ابنته. وتقول تقارير إن سيارات شركة راحة لا تجمرك وإنما تحصل على أرقام عهده من قبل سلطات الجمارك.. وتتهم شركة "الماز" بأنها تفرض على مزارعي القطن في الجنوب الأسعار التي تريد.

ويملك اللواء علي محسن الأحمر، الذي يقال إنه الأخ غير الشقيق للرئيس, والذي يعمل قائدا للمنطقة الشمالية الغربية، العديد من الشركات ومساحات شاسعة من الأرض، بالإضافة إلى شركة "هدوان" للخدمات النفطية التي يديرها واحدا من أنجاله. كما أن علي محسن- كما تقول تقارير صحافية- شريك أيضا في شركة "المجموعة الرائدة للهندسة" والتي يملكها عدد من الأشخاص ومن ضمنهم أحمد الكحلاني- أحد أنساب الرئيس. 

3. السيطرة على الاستثمار

عمل صالح على منع ظهور أي قوة اقتصادية مستقلة عن النظام يمكن أن تشكل تهديدا لبقائه الذي يعتمد في سيطرته على النخب على ما يقوم بتوزيعه عليها من عطايا بما في ذلك فرص الاستثمار ومحفزاته والعقود الحكومية ونحوها. والملاحظ أن هذا التوجه قد تعزز بشكل كبير بعد تبني الآلية الانتخابية بكل اختلالاتها كأساس لتجديد المشروعية. كما تم ايضا إسناد ملف الاستثمار في اليمن إلى العميد أحمد علي عبد الله صالح- نجل رئيس الجمهورية- والذي يتم تهيئته لخلافة والده, وذلك لضمان السيطرة التامة على الاستثمارات.. وقد عين الرئيس على رأس الهيئة العامة للاستثمار أحد أصدقاء العميد احمد وهو صلاح العطار. وكان مجلس النواب اليمني في 27 يوليو 2010 قد قام بطرد العطار من إحدى جلساته أثناء مناقشة قانون الاستثمار بعد أن اتهمه أحد الأعضاء بأنه قال "طز في مجلس النواب" وهو ما فهم على أن العطار يستقوي بنجل الرئيس ضد المجلس. وتم إسناد حقيبة السياحة إلى نبيل الفقيه (من سنحان) وهو أحد الشخصيات المقربة من العميد يحيى- ابن شقيق الرئيس- وصاحب الاهتمامات الرسمية والاستثمارية في قطاع السياحة. ويلاحظ أن الفقيه ورغم موقعه الرسمي وجه رسالة نشرت نصها اليقين الأسبوع الماضي وفيها يطالب الرئيس بإجراءات تمهد لنقل السلطة أواخر العام الحالي.

وقد أدى دخول عصابات الحكم غالبا بأموال الدولة أو كشركاء للمستثمرين في الربح, دون المشاركة في رؤوس الأموال, إلى القضاء على المنافسة الشريفة والعادلة. وبينما تعمل الدولة على الالتحاق بمنظمة التجارة الدولية فإنها تحتال على التزاماتها بإنشاء مؤسسات احتكارية عامة تعيق التجارة الحرة مثل المؤسسة الاقتصادية اليمنية, أو شركات مختلطة بين الدولة وأفراد النخبة الحاكمة كما في حال شركة يمن موبايل للاتصالات التي دخلت السوق لغرض منافسة شركات الاتصالات الخاصة, أو شركة طيران السعيدة التي أنشئت مؤخرا كقطاع مختلط, والتي يعتقد أنها مملوكة بشكل أساسي لمسئولين مقربين من الرئيس وأسرته. 

4. جوع كلبك يتبعك

تظهر السنوات الطويلة التي قضاها صالح في الحكم أنه لا يميل إلى تحقيق التنمية الاقتصادية نظرا لما يصحبها من تغييرات اجتماعية قد تقود في النهاية إلى الإطاحة به. ويتبع صالح، شأنه في ذلك شأن الأئمة من بيت حميد الدين الذين حكموا اليمن خلال النصف الأول من القرن العشرين، سياسة تعرف بـ"جوع كلبك يتبعك." وترتكز هذه السياسة على تجويع "الرعية" وجعلهم معتمدين اقتصاديا على ما يجود به الحاكم عليهم. كما تقتضي هذه السياسة مناهضة التنمية الاقتصادية وأي سياسة يمكن أن تخلق فئة اجتماعية مكتفية ذاتيا ومستقلة عن أسرة الحكم.

وفي إطار هذه السياسة، تم إنشاء جمعية الرئيس الصالح التي يرأسها نجل الرئيس لتقوم بتنفيذ العديد من البرامج الخاصة بالفئات الفقيرة. وقد أعلن الرئيس في منتصف عام 2007 تبرعه لجمعية الصالح التي يرأسها نجله العميد أحمد بمزرعة أسطورية يمتلكها في عبس بمحافظة حجه وتقدر مساحتها- بحسب الإعلان- بألف معاد وتساوي قيمتها وفقا لتقارير صحفية مليارات الدولارات. وكان قد تم لسنوات عديدة توجيه الكثير من الدعم الداخلي والخارجي للزراعة في اليمن نحو مزرعة الرئيس في عبس. وتلعب جمعية "الصالح" عدة أدوار في إطار سياسة "جوع كلبك".. من جهة، تمثل الجمعية إمبراطورية مالية تحت سيطرة نجل الرئيس يعمل على توظيفها في حشد الدعم السياسي لنفسه في أوساط الفئات الفقيرة. ومن جهة ثانية، تعمل الجمعية على استيعاب الأعمال الخيرية التي تقوم بها الدول الأخرى وخصوصا تلك ذات الطابع الرسمي؛ قاطعة بذلك الطريق على المؤسسات العامة أو أي فئة يمكن أن تستفيد بشكل مباشر من ذلك الدعم.. من جهة ثالثة، تعمل جمعية الصالح كماكنة انتخابية رديفة لما يسمى بالحزب الحاكم، وهو المؤتمر الشعبي العام.. من جهة رابعة، تعمل جمعية الصالح كوعاء لجمع التبرعات الهائلة من رجال الأعمال الموالين للسلطة وهي التبرعات التي يعتقد أنها تأتي على حساب الموارد الضريبية والجمركية العامة أو يحصل التجار المتبرعون مقابلها على معاملات تمييزية في مجالات الاستثمار والاقتراض والضرائب وغيرها. 

 

ويلاحظ أن صالح, وفي مواجهة السخط الشعبي المتزايد وتداعيات الأحداث في تونس ومصر, لجأ إلى سياسة "رمي العظم" حيث أعلن عن تخفيض الضرائب على الأجور بنسبة 50% وزيادة مرتبات الموظفين بنسب لم تعرف بعد. كما قرر صالح صرف معونات اجتماعية لـنصف مليون شخص جديد- علما بأن تلك المعونات تتراوح بين الـ10 والـ15 دولار شهريا فقط- ووعد صالح خريجي الجامعات باستيعاب 25% منهم في الخدمة العامة كمرحلة أولى.

5. تسييس الموارد العامة

المقصود بـ"تسييس" الموارد العامة توظيفها سياسيا بهدف البقاء في السلطة, سواء أثناء مواسم الانتخابات أو في الإدارة اليومية للدولة والمجتمع. وتشمل الموارد العامة الوظائف الحكومية وخصوصا القيادية: عقود مشاريع البنية التحتية، الاعتمادات والتحويلات المالية، السيارات ومولدات الكهرباء, والمنح التي يتم توزيعها على المشايخ والأعيان، ...الخ. وتلعب الموارد العامة الدور الجوهري في الحصول على التأييد الانتخابي، إضعاف أو تقوية المكونات الاجتماعية بحسب حاجات النظام، وشراء الولاء السياسي. ونظرا للدور الذي تلعبه الموارد العامة في تنفيذ سياسات البقاء، فقد قاوم صالح سياسات الخصخصة للمؤسسات العامة رغم الخسائر التي تحققها, وما تحصل عليه من دعم حكومي يزيد من أعباء الموازنة العامة. وليس هناك ما هو أكثر دلالة على أسبقية الاعتبارات السياسية المتصلة بالبقاء من أن صندوق التنمية الاجتماعية الذي أنشئ في عام 1997 للتخفيف من الفقر, والذي أصبح أهم الأدوات التنموية في البلاد, يديره عبد الكريم الأرحبي- أحد أنساب الرئيس- حتى بعد أن تم تعيينه وزيرا للتنمية والتعاون الدولي.

ويؤدي تسييس الموارد العامة إلى توجيه الموارد بعيدا عن التنمية, والحد من قدرة الحكومة على الإنفاق الاستثماري الذي يساعد في تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحسين مستوى الخدمات المقدمة وزيادة مستوى التغطية لتلك الخدمات.

6. الحكم بالفساد "كن اسرق"

يقوم النظام الحاكم في اليمن على فلسفة قديمة كان يطبقها الأئمة من آل حميد الدين الذين حكموا اليمن قبل قيام الثورة في الشمال في عام 1962 وهي سياسة "كن اسرق." فقد روي أن أحد أئمة بيت حميد الدين عين مسئولا في إحدى المحافظات اليمنية وخصص له مرتب زهيد لا يكفيه.. ولما تذمر ذلك المسئول، رد عليه الإمام "كن اسرق" بمعنى أن يسرق ما يمكنه سرقته حتى يتمكن من مواجهة تكاليف الحياة. ولا تختلف فلسفة النظام اليمني اليوم عما كان عليه الحال قبل 70 عاما؛ فالمرتبات الزهيدة التي يحصل عليها الموظفون والقيادات في كل المرافق تعني أن على أولئك المسئولين استغلال مواقعهم للحصول على ما يمكن الحصول عليه. فالقادة العسكريون- مثلا- يستولون على مرتبات الجنود الغائبين أو الفارين أو يستقطعون مبالغ من مرتبات جنودهم تحت مسميات مختلفة, أو يبيعون الذخائر.

وتؤدي سياسة "كن اسرق" عدة وظائف للنظام القائم وفي مقدمتها خلق طبقة حاكمة ملوثة بالفساد, ويمكن إدانة أي فرد من أفرادها يتمرد على السلطة أو يطمح للعب دور سياسي أكبر من الدور المحدد له. كما أن هذه السياسة تخفف من فواتير الحكم وتجعل الحاكم يوزع الموارد السيادية وخصوصا الريعية (كعائدات النفط والمساعدات الخارجية) بالطريقة التي يراها مناسبة. ضف إلى ذلك أن هذه السياسة تخلق رضا عن الحكم وارتباطا عضويا بين بقائه من جهة والحفاظ على مصالح العصابات الملتفة حوله من جهة أخرى. لكن هذه السياسة كان لها تأثيراتها السلبية الكبيرة على البلاد, وفي مقدمة تلك السلبيات إضعاف مؤسسات الدولة الهشة وانشغال النخب السياسية المنقسمة بالصراع فيما بينها على الثروة, وظهور نموذج "الدولة السارقة" أو "دولة العصابات" التي تتنافس فيها النخب وتتصارع في عملية الاستيلاء على الموارد العامة للدولة حتى ينتهي بها الأمر إلى الإنهيار.

وفي حين يتطلب تحقيق النمو الاقتصادي القيام بإصلاحات عميقة تلامس العديد من الجوانب وتؤسس للحكم الجيد, فإن تلك الإصلاحات تتناقض مع فلسفة النظام وتمثل تهديدا لبقائه في السلطة. وتبين تجربة اليمن مع الإصلاح الاقتصادي, ابتداء من عام 1995, كيف أن الاعتبارات السياسية كانت هي الطاغية, وهو ما أدى إلى التركيز في عمليات الإصلاح على الجوانب السعرية والتي يتحمل عبئها المواطن, مع إهمال عمليات الإصلاح المالي والإداري وفي مقدمتها مكافحة الفساد. ورغم أن سياسات الإصلاح السعري (أو الجرع كما يسميها المواطنون) وفرت الكثير من الموارد, إلا أن تلك الموارد، في ظل غياب الإصلاح المالي والإداري، انتهت إلى جيوب الفاسدين. وكانت النتائج المباشرة لسياسات الإصلاح السعري تنامي الفساد, والاتساع المتزايد لدائرة الفقر, وتآكل الطبقة الوسطى الصاعدة, والانقسام الاجتماعي الحاد إلى: طبقة صغيرة من تجار السياسة ومترفي الفساد, وأغلبية كبيرة من الفقراء.

ومع أن الحكومة اليمنية تعترف بالفساد كمشكلة رئيسية, فقد قامت، في ظل الضغوط الدولية المتنامية، بإنشاء الهيئة العليا لمكافحة الفساد.. إلا أن ما حدث هو أن الفساد زاد ولم ينقص! ويحرم الفساد، إلى جانب عوامل أخرى مثل ضعف القدرة الاستيعابية وغياب التحديد الواضح والدقيق للأولويات، اليمن من الاستثمارات الخارجية ومن تلقي الدعم الخارجي. كما إنه يعمل على توجيه الموارد المتاحة بعيدا عن مشاريع التنمية والخدمات الضرورية التي يحتاجها الناس.. ويساهم الفساد, في قطاعات النفط والمناقصات وتحصيل الضرائب, في تخفيض الإيرادات ونمو عجز الموازنة. وتتمثل المحصلة النهائية للفساد في إضعاف مصداقية وشرعية الدولة في عيون مواطنيها وفي تغذية حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.

7. تضخيم الجهاز البيروقراطي

يخضع التعيين في الجهاز البيروقراطي للدولة وخصوصا في المواقع القيادية للإرضاء السياسي وليس لمدى حاجة العمل أو كفاءة الشخص، ووصل الوضع ببعض الجهات الحكومية إلى أنها صارت تحتوي على عشرات الوكلاء والوكلاء المساعدين ومئات وفي بعض الحالات آلاف الموظفين الذين لا هدف من تعيينهم سوى منحهم الامتيازات المرتبطة بالمواقع المعينين فيها ,بالنسبة للقياديين, والمرتبات الضئيلة بالنسبة للموظفين الصغار الذين يخرجون للتظاهر دعما للرئيس أو يصوتون له في الانتخابات. وكانت النتيجة هي تحول الجهاز الحكومي، في ظل انخفاض المرتبات وانتشار الفساد, إلى عبء على التنمية وعائق لقيامها ومعطل للقدرات. 

8. إضعاف أجهزة المساءلة

تندرج الكثير من السياسات والممارسات المتبعة في إدارة الاقتصاد الوطني ضمن الأنشطة الإجرامية التي يعاقب عليها القانون. ولذلك عمل النظام اليمني وما زال يعمل بشكل مستمر على إضعاف مؤسسات المساءلة والمشاركة وتعطيل مبدأ سيادة القانون. وعلى سبيل المثال، فإن مجلس النواب اليمني لم يتمكن منذ قيام الوحدة اليمنية في عام 1990, وحتى هذا التاريخ, من سحب الثقة من أي مسئول في الدولة أو سحب الثقة من أي حكومة أو حتى من وزير واحد فيها.. كما لم يسبق لأي جهاز قضائي أو غير قضائي أن حاكم أي مسئول يمني بتهمة الفساد. ويلاحظ أن معدلات الفساد في اليمن زادت بشكل كبير منذ إنشاء الهيئة العليا لمكافحة الفساد؛ لإن الهيئة باتت تعمل كغطاء على ممارسات الفاسدين. 

 

9. تنمية أجهزة القمع

 

وجه صالح, الذي يتصرف كحاكم عسكري, موارد الجمهورية اليمنية بشكل مستمر نحو بناء الجيش والأمن حتى بعد أن حل مشاكل بلاده الحدودية مع الدول المجاورة عن طريق التفاوض والحوار وتقديم التنازلات, كما حدث مع السعودية أو سلطنة عمان, أو عن طريق التحكيم الدولي, كما حدث مع إرتيريا. والواضح أن صالح, ومن خلال تركيز المواقع القيادية العليا للجيش والأمن في أسرته, ينظر إلى المؤسستين على أنهما الركيزتين الأساسيتين للبقاء في السلطة وقمع المنافسين والخصوم السياسيين ومكافأة المخلصين, وتخصيص أكبر قدر ممكن من الأموال العامة لأهداف خاصة ودون الخضوع لأي شكل من أشكال المساءلة. ورغم إن الضغوط الدولية قد أدت نظريا إلى تخفيض نفقات الجيش والأمن, إلا إنه يعتقد أن الكثير من الموارد غير الظاهرة يتم توجيهها نحو الجيش. والواضح أن المؤسستين العسكرية والأمنية تقومان بعدة وظائف بالإضافة إلى دورهما القمعي؛ فهما تمتصان جزءا ولو بسيطا من بطالة الشباب, وإن كانت المرتبات التي يحصل عليها المجندون لا تسمن ولا تغني من جوع, كما أن المؤسسات العسكرية والأمنية تعمل كغيرها من المؤسسات على توزيع الاعتمادات والدرجات الوظيفية, في الجيش والرتب العسكرية والأسلحة وغيرها, للموالين والمناصرين. 

 

10. تسول الخارج

 

صعد صالح إلى السلطة في فترة الحرب الباردة, وهي الفترة التي شهدت اعتماد الاقتصاد اليمني كلية على ما يأتيه من الخارج سواء على شكل معونات ومساعدات وقروض أو على شكل عائدات مئات الآلاف من المغتربين اليمنيين في الخارج وخصوصا في السعودية. وقد عمل صالح, من خلال استغلال التنافس بين الشرق والغرب, على الحصول على الدعم الخارجي بسهولة. ومع أن صالح سعى إلى استخراج النفط, إلا أن عائداته لم تختلف عن العائدات الأخرى الخارجية المصدر, من حيث تعرضها للتقلب: إما بسبب تقلب أسعار النفط في الأسواق, أو بسبب التقلبات السياسية. وكان من الطبيعي أن يظل النظام اليمني خلال فترة حكم صالح يسير من سيئ إلى أسوأ, كانعكاس لغياب الرؤية الاقتصادية ونتيجة لتقلبات الدخول ذات المنشأ الخارجي. لقد أدت سياسات صالح, وعلى نحو خاص تحالفه مع صدام حسين, إلى تراجع الدعم الخليجي, وأدت سياساته خلال الغزو العراقي للكويت إلى انهيار كبير في الاقتصاد اليمني نتيجة لفقدان اليمن لكافة أشكال الدعم الخارجي, وكذلك نتيجة لعودة مئات الآلاف من المغتربين اليمنيين من السعودية. ولم يستفد النظام اليمني من التجارب.. وظل يعتمد على التسول حتى في فترة الطفرة النفطية, وهو ما أوصل الأمور بالبلاد إلى ما هي عليه اليوم. فبينما يريد صالح شراء الولاءات كالعادة فإنه لا يجد ما يكفيه من النقود؛ لأن الخارج توقف عن تقديم مساعدات.. وقال مسئول سعودي كبير لدبلوماسي أمريكي إن بلاده توقفت عن تقديم المساعدات النقدية إلى اليمن, كي لا ينتهي بها الحال إلى حسابات سرية في سويسرا. 

 

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء